مجلة الرسالة/العدد 609/على هامش النقد
مجلة الرسالة/العدد 609/على هامش النقد
سلسلة جديدة
سارق النار. . . خليل هنداوى
للأستاذ سيد قطب
في العالم العربي نهضة لاشك فيها، أخص خصائصها عندي الإقبال على القراءة؛ فالرغبة في المعرفة هي الرغبة في الحياة، وما يغلق إنسان على نفسه أبواب المعرفة إلا وقد خمدت فيها جذوة الحياة، فلم تعد في حاجة إلى (الأوكسجين) الذي يجدد اشتغالها
وآية الإقبال على القراءة هي الإقبال على النشر الذي نلحظه في هذه الأيام في جميع البلاد العربية. والإقبال على النشر يدعو إلى الإقبال على التأليف. فما ينشط المؤلف أكثر من أن يحس أن هناك ناشراً يترقب ما تخرجه يداه، وأن من وراء الناشر قارئاً يتلقف ما تخرجه المطبعة!
وأياً كانت الأسباب التي بعثت هذه الحركة , فهي بشير خير على كل حل. وحين نجرد الحركة من الأسباب الطارئة مع الحرب فأننا نجد وراءها سبباً أصيلا هاماً، هو يقظة الشعوب العربية وتطلعها إلى مستقبل خير من الحاضر، مستقبل تتهيأ له بالمعرفة، ويشوقها ما فيه من حيوية وازدهار
أقول هذا بمناسبة ظهور سلسلة أدبية جديدة في (بيروت) تضطلع بها دار (الأديب)، وظهور سلسلة من قبلها في (دمشق) تخرجها (دار اليقظة العربية) اتباعاً للسلاسل التي تصدرها مصر: سلسلة أقرأ. وسلسلة أعلام الإسلام. وسلسلة النشر للجامعيين. وسلسلة كتب الشهر لدار إحياء الكتب العربية. . . وكل هذا بجانب الكتب الفردية للمؤلفين الكثيرين هذا بشير نهضة نرجو أن تظل في اندفاعها البعيد!
(وسارق النار) هي الحلقة الثانية من سلسلة (الأديب) ببيروت. ويهمني أن أكتب عنها! فإخواننا الشرقيون دائمو العتب علينا لأننا - كما يقولون - لا نحفل مؤلفاتهم، ولا نلتفت إلى نهضتهم. وذلك في الوقت الذي يعيبنا أن نحصل على هذه المؤلفات، أو أن نقف على أسباب النهضة لأنها لا تصل إلينا إلا في الحين بعد الحين، وبعد مشقة وعسر، حي نحصل عليها في مكامنها المخبوءة. وقد لا نعثر عليها أصلا لأنها لاتباع!
اعرضوا هذه الكتب في سوقنا، وأعلنوا عنها في صحافتنا ثم اعتبوا بعد ذلك ما تشاءون!
والأستاذ خليل هنداوي صاحب الحلقة معروف لنا من (الرسالة) ثم من (الأديب) ومن (المقتطف) في بعض الأحيان، فلعل إخواننا الشرقيين يعلمون من هذا أننا نتتبع كتَّابهم، ونعرف خطواتهم. ولسنا عن هذا بغافلين!
(وسارق النار) مجموعة من المسرحيات مستمدة من الأساطير الإغريقية - إلا واحدة منها فمن قصص الحب العربي - وليست (سارق النار) إلا واحدة من هذه الأساطير سميت بها المجموعة كلها. وقد ضمت سواها: فتنة جزيرة بلا رجل. ميلاء. المثّال التائه. اللحن الكئيب
و (سارق النار) هو (برومثيوس) الذي تقول الأساطير الإغريقية إنه سرق النار المقدسة بمساعدة هليوس، فاستطاع أن يخلق بها كما تخلق الآلهة، فغضبت هذه عليه وانتقمت منه.
والأستاذ خليل هنداوي يمثل في هذه المسرحية طريقة السرقة والحوافز النفسية التي زجت به في هذه الوعورات وغضب الآلهة وحوارها بشأنه، ثم انتقامها بما أرسلت إليه من الرذائل تشق طريقها إلى قلبه، والأمراض تنتقل على فراشه، والشقاء ينقض ظهره، والأشواك تملأ دربه، والموت يطفئ حياته. . . ومع هذه الآلام جميعاً. . . الأمل صديق الإنسان الوحيد في الحياة. الأمل الذي كان إله الأرض هو الشفيع في إرساله للإنسان مع هذه الآلام!
وكذلك عالج في (فتنة) عاطفة الغيرة. غيرة الجمال بين الربات الثلاث: أفروديت إلهة الجمال، وأتينا إلهة الحرب، وهيرا زوج كبير الآلهة. حينما غفل الآلهة عن دعوة (ايريس) خصيمة إفروديت إلى عرس إلهي. فقذفت بين المجتمعين بتفاحة كتب عليها إلى (أجمل فتاة) فانطلقت الفتنة في لحظتها. . . من الربات هي (أجمل). إن حكم الآلهة لا يرضي فليحكم الإنسان! ليحكم أول رجل يصادفنه. إنه باريس راعي القطيع. وإنه ليحتار ويذهل، وإنه ليتلقى الإغراء والوعيد. . . ثم يحكم. يحكم لأفروديت. إلهة الجمال التي لا تملك إلا الجمال. ثم ليتلق انتقام الإلهتين. لقد اختار الجمال. (وإن من يختار الجمال يختار معه الموت). وباريس لم يتلق الموت ولكنه تلقى الشرود الدائم في الفيافي والسهوب يرسل الألحان من شبابته في حنين دائم إلى ربة الجمال!
وعلى هذا النسق يسير المؤلف في الاستمداد من الأساطير، وصياغة ما يستمده مسرحيات تقصر أو تطول.
يجب أن نرتد هنا إلى التسلسل التاريخي في عالم الفن العربي فنرد هذا الفصل من فصوله - فصل الانتفاع بالأساطير المختلفة في عالم المسرحيات - إلى (الفنان الأول) الذي نقله إلى المكتبة العربية. . . هذا الفنان هو توفيق الحكيم:
أهل الكهف. شهرزاد. نهر الجنون. بيجماليون. سليمان الحكيم، هذه عنوانات لا تنسى، وقد فتح بها هذا الفصل في المكتبة العربية واستقر. واطمأن على وجوده بكل تأكيد.
بقي أن نتطلع إلى (الفنان الثاني) الذي يخطو خطوة وراء توفيق الحكيم. خطوة أصلية كخطوته. لا تقف عند تقليده. ولا تقف عند مداه. بل تمتح من نبعها، وترتقي آفاقا وراء الآفاق الأولى.
فهل استطاع الأستاذ (هنداوي) ان يخطو هذه الخطوة؟ يجب ألا نجد في أنفسنا حرجا من الجواب. . . لا!
ولا يعني هذا أن الأستاذ لم يوفق. فهذا شيء آخر. إنما الذي أعنيه هو أن الخطوة الأولى في هذا الفصل لا تزال متفردة ولا تزال سابق، وهذا كل ما أريد أن أقول.
وفي مسرحية (المثال التائه) مجال للموازنة بين (بيجماليون) توفيق الحكيم و (بيجماليون) خليل هنداوي وأحب هنا أن أبرئ الأستاذ (هنداوي) من النقل. فحينما ظهرت (بيجماليون) توفيق كتب الأستاذ هنداوي في المقتطف أن له مسرحية من فصل واحد عن (بجماليون) نشرها في المقتطف في وقت لا يتسع البتة للنقل والمحاكاة.
ثم إنه عالج الموضوع بطريقة أخرى غير طريق الحكيم وبين الطريقتين وبين الطاقتين تصح الموازنة ويصح القياس.
فأما بيجماليون عند توفيق الحكيم فهو الفنان المضطرب المتأرجح بين الحيوية الحاضرة والنموذج الفني الخالد. والذي يفتن بما أبدعت يداه ثم يحطمه لأن في نفسه أبدا طموحا إلى ما هو أعلى. إلى الفني الذي يخايل له أبدا ويدعوه إلى الخلق من جديد.
وأما بيجماليون عند خليل هنداوي فهو الفنان الذي يفتن بعمله الفني فيحس فيه الحياة ويستغني به عن النموذج الحي الذي استوحاه.
وكلتاهما وجهة نظر وطريقة اتجاه. أما التقدير الفني لهما فيقوم على مقدار ما استطاع المؤلف أن يبثه من فن ومدى توفيقه في معالجة موضوعه على النحو الذي أراد.
لا تزال الريشة في يد الأستاذ هنداوي ترتجف، ولا تزال تنقصها الجرأة الحاسمة، والحركة المتمكنة. وفي مثل هذه المسرحيات يكون للومضات الذهنية والتحليقات الفكرية والإشرافات الوجدانية كل القيمة في معالجة الموضوع. وهذا كله في مجموعة (سارق النار) محدود بقدر، حين يقاس إلى مثله عند توفيق.
وفي اعتقادي أن مسرحية (سارق النار) هي خير ما في المجموعة بالقياس إلى توافر هذه العناصر، وبالقياس إلى لمسات الحوار الموحية؛ وإلى رائحة النضج التي تشتم في هذا الحوار.
ثم تليها مسرحية (فتنة) فمسرحية (جزيرة بلا رجل) فمسرحية (المثال التائه) فمسرحية (اللحن الكئيب).
أما مسرحية (ميلاء) فالفشل واضح فيها. وأخشى أن يكون منشأ هذا تخلي روعة الأساطير الإغريقية ووحيها عن (المؤلف) فميلاء عربية في جوها وشخصياتها. وقد بقيت عارية من اللحم والدم والفن. ولهذا دلالة خطيرة! لا أحب أن آخذ بها في هذه المجموعة بل أوثر أن أنتظر تجربة أخرى جديدة!
بقيت كلمة حق:
إننا إذا استثنينا توفيق الحكيم. ورحنا نبحث في الشرق العربي عما أخرجته المطبعة في هذا الفصل - فصل المسرحيات الأسطورية. نجد مجموعة (سارق النار) هي الأولى في جميع المحاولات. ولعل المستقبل يضمر لمؤلفها من النضوج والتمكن ما يقفز به إلى الصف الأول. ولكن بعد جهد طويل.
سيد قطب