مجلة الرسالة/العدد 609/النابغون في أوطانهم
مجلة الرسالة/العدد 609/النابغون في أوطانهم
للأستاذ محمود عزت عرفه
كما تتوارى هذه الشمس في النهار المدجن خلف كسف من السحاب مركوم فلا يفتأ ينم عليها ساطع من سناها، يوشي أطراف السحابة بلألأئه، ويكاد ينبثق على جنباتها انبثاقا. . كذلك تستكن العبقريات النواشيء في زوايا بعض النفوس غير منفكة عن إرسال أقباسها الدالة عليها، في سدفة هذا الظلام المكتنف صاحبها، من فقر أو ضعف، أو أتضاع شأن أو بكورة سن، أو غير ذلك من سائر هذه المعوقات التي تؤخر تجلي المواهب، وتملأ السبيل إلى المجد بالشوك والصخور. .
ولهذه النباهة التي تهبط على الخاملين فجأة دلائل وإرهاصات قل من يدركها في حينها؛ لكن قل أيضاً من لا يعجب لنفسه كيف فاته أن يدركها في ذلك الحين! ومن هنا كان المرتقي أمام العصاميين شاقاً طويل المدى، لا يكاد يوفي على غايته منهم إلا كل صافي الجوهر في العبقرية، قوى المنة على مواجهة مصاعب الحياة ومقارعة أحداثها. .
والعصامي محروم - أول أمره - مما يستند إليه الناس عادة من الحرمة أو سابقة الفضل؛ وهو ملقى بلكيد منكوب بالمعارضة، موزع جهده بين التقدم تارة ودفع التعويق تارات، مقسومة قواه بين البناء من جانب وتوقى الانهيار من جانب آخر. . .
وأغرى الناس بمنابذته وأشدهم بأساً في مضارته، هم أدناهم إليه مكانا، وألصقهم به وشيجة ونسباً. . من أهل بلده وذوي قرباه، ومن رصفائه وأنداده الذين يشركونه في سن أو عمل، أو نزعة واتجاه.
وكأنما يعجب هؤلاء لفرد من أوساطهم، أو من أدانيهم، يسمو إلى منزلة لم يروه من قبل لها أهلا، ويبلغ من جاء الحياة أو من ثرائها حظاً لم يقدروا له أن يبلغه. وما أشد تقتير الناس في تقديرهم.
فلا غرو - وهذا هو الوضع - أن يكون لأكثر العصاميين ثارات قديمة عند أوطانهم الأولى حيث مرابع طفولتهم ومراتع صباهم. . تلك التي شهدت من بواكير ضرهم وبأسائهم ما لم يشهد سواها؛ ثم عند مواطنيهم الأقربين فيها، وهم من ذاقوا على أيديهم أول ما ذاقوا من كؤوس الحرمان والأذى، وتجرعوا أول ما تجرعوا من مرارة التث والجحود. وإنها لثارات وذحول تأبى على أصحابها إلا ترقب العودة إلى هذه الأوطان في مواكب النصر بعد أن فصلوا عنها في ركاب الذل والصغار. . .
وليس من محض المصادفة أن نرى شكسبير يأوي في أخريات أيامه إلى قريته ستافورد أون آفون، مخلفاً وراءه لندن مبسوطة اليدين نحوه بمزيد من ثروتها وجاهها. ولا مراء في أن صورة عجيبة المنظر كان يلتمع مرآها في ذهن الشاعر الكبير وهو يقف على باب قريته كهلا في سن الخمسين. . صورة لشباب فويق العشرين يتسلل لواذاً من أبواب هذه القرية قبل ثلاثين عاماً، وقد جلله عار السرق وحز في بدنه وثاق السجن؛ هو وليم شكسبير نفسه الذي أبى أن يمحو عار ذلك الهرب في سواد الليل البهيم بغير هذا العود المظفر الكريم في وضح نهار مشرق سني. .
وكذلك كان شأن تشارلز دكنز الكاتب الروائي الخالد. فقد أنفذ في قرية شاتهام ستة أعوام من طفولته البائسة جابه خلالها الفقر في أقبح صوره، وتجرعه في أمر طعومه، وكان أعظم ما يبهره يوم ذاك قصر (جادز هِل) القائم على ربوة في الطريق بين شاتهام وجرافسند؛ ولقد طالما داعب أبوه مشاعره بإمكان استحواذه على هذا القصر إذا هو جد واجتهد، وأصبح رجلا ذا شهرة ومجد. ولسنا نعجب لهذه الأمنية وايغالها في الطموح قدر ما نعجب لتشارلز دكنز وهو يعود بعد أربعين حولا فيحققها في جملتها وفي تفصيلها؛ بأن يمتلك القصر الجميل بما فيه، ويقضي في رحابه ختام أيام حياته وأطيبها. ولقد طوف دكنز في مدائن إنجلترا وقراها ماطوف، وحظى بطيب المقام ولذاذة التكريم في سويسرا وأمريكا وسواهما من البلدان. . فلم تكن بقعة واحدة في جنبات هذا العالم الفسيح لتستهوي نفسه بمثل ما استهواها ذلك المكان الذي شهد مذلته وضيمه، فأبت عليه نفسه إلا أن يشهده - بعد حين - مجده وعزته ونعماءه.
على أن لورد بيرون لم يحظ بما حظي به صاحباه من هذا الشعور الجميل. . شعور التغلب على مصاعب الحياة، والانتصار على الزمن وأهله في نفس المكان الذي تسجلت به الهزيمة السابقة، فقد غلب الموت هذا الشاعر على أعز أمانيه، وراح يجود بآخر أنفاسه في ميسولونجى من أرض يونان وهو يتمتم في مرارة بكلمته الباقية: لست أخاف الموت. . . ولكني أتساءل لماذا لم أذهب إلى إنجلترا قبل مقدمي إلى هذا البلد!! ونحن إذ ننتقل فنتصفح سجل الأدب العربي نرى الأصمعي - راوية البصرة - أحد من دُهُوا بعنت الأقربين، ومنوا بكيد الأكفاء. فقد نشأ بالبصرة مقلاَّ رقيق الحال إلا من ذكاء مفرط ونفس وثابة طموح.
وكان ما يلقاه من شيخه عطاء بن مصعب - وقد تفتحت على يديه أزاهير عبقريته - أمراً رائعا عظيما. بلغه يوماً أن الأصمعي اتخذ حلقة، واجتمعت إليه فيها جماعة، فغاظه ذلك. ولما فرغ من حلقته استتبع أصحابه فقال: مروا بنا إلى ظاهر البصرة!. . قال راوي الحديث: فخرجنا حتى مررنا بشيخ معه أعنز يرعاهن وعليه جبة صوف: فقال له: يا قريب. فقال: لبيك! قال: ما فعل ابنك الأصمعي؟ فقال: هو عندكم بالبصرة فقال: هذا أبو الأصمعي لئلا يقول هذا إنه من بني هاشم!!
ويذكر القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) قصة الأصمعي مع أحد البقالين على باب بيته بالبصرة، وما كان يعيره به من الفقر، وينعيه عليه من انصرافه عن طلب المجدى من شئون العيش، حتى قال له مرة: يا هذا اقبل وصيتي. أنت شاب فلا تضيع نفسك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب أطرحها في هذا الدن وأصب عليه من الماء للعشرة أربعة، وأنبذه، وانظر ما يكون منه.
على أن ضائقة الأصمعي تفرجت بعد حين؛ وأقبلت الدنيا عليه حتى أوطأته بساط الرشيد، فاستفاضت هنالك شهرته، وأثرى من مال ومن جاه. وكان من أكبر همه يوم ذاك أن يلم بموطن صباه، فترفق في استئذان الرشيد حتى إذن له، وكتب إلى والي البصرة بإكرامه والتحفي به. . قال الأصمعي: فلما كان في اليوم الثالث تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقال وعليه عمامة وسخة، فقال: كيف أنت يا عبد الملك؟ فاستضحكت من حماقته وخطابه لي بما كان يخاطبني به الرشيد. فقلت: بخير، وقد قبلت وصيتك وجمعت ما عندي من كتب العلم، وطرحتها في الدن فخرج ما ترى. . .
على أن هذه الذكريات (الشقية) التي تربط الإنسان بموطنه الأول ليست مما يطيف بحياة كل نابغة قلقت في البلاد ركابه بل ربما كانوا يتخذون الرحلة عن الوطن الأثير الكريم - باباً إلى التقدم في الحياة، ووسيلة إلى تحقيق كرائم الغايات فيها: من إحراز مال وجاه، أو جمع معارف وعلوم، أو تقويم طبائع مستخذية وشحذ همم كليلة. وقد كان من مواطن العجب عند القوم - ولا يزال - أن يروج أمر من لا ينفك حلس بيته، وأن يحرز معالي الأمور من لم تنهض به همته إلى التغرب في طلابها. فليس كل مغترب إذن طريد وطنه أو ضحية ظلم مواطنيه، وإنما قد يفارق وطنه وأهله من لا يزال يحن إلى سالف سعادته هنالك حنين النيب إلى أعطانها، وقد يبلغ إلحاح هذه الذكريات السعيدة على النفس حداً تفوق به شقي الذكريات وما تدفع إليه من رغبة التشفي وتذوق حلاوة الانتصار، مما ضربنا له الأمثال آنفا.
وكان طاهر به الحسين الخزاعي، قائد الخليفة المأمون والملقب بذي اليمينين، أحد من أضناهم هذا الشعور الأخير. . شعور الحنين إلى الوطن وتعلق النفس بذكريات سعيدة فيه - حتى لنغص عليه من سروره الحاضر وسعادته المستأنفة.
قال له بعض جلسائه يوما وقد بلغ من الجاه في دولة المأمون ما بلغ: ليهنك ما أدركته من هذه المنزلة التي لم يدركها أحد من نظرائك بخراسان. فأجاب طاهر: ليس يهنيني ذلك، لأني لا أرى عجائز (بوشنج) يتطلعن إليَّ من أعالي سطوحهن. .
وإنما حاكما. وممن اجتمع لهم شقي الذكريات وسعيدها، فحدا بهم إلى أوطانهم حاديان، وتمهد أمامهم نحوها سبيلان مهيمان - نبينا محمد عليه أفضل الصلوات. . ففي مكة نشأ وتربى ملحوظا بعناية من ربه، كريماً على نفسه وعلى قومه، يظله من قبيلته أرفع لواء ويكنه فيها أشرف بيت؛ وفي مكة أيضاً لقي الإعراضَ والأذى من قريش صنوفا. فيها لقب الصادق الأمين حقا وإنصافا، ثم وسم بالشاعر والكذاب بغياً وإسرافا.
فليس عجيباً بعد أن يكون حنينه إلى مكة قويا بليغاً يؤرثه شوق غلاب إلى عهود هنالك كريمة ومشاهد محببة أثيرة، وأن ينضاف إلى الحنين شعور آخر قوي بالرغبة في مجابهة هؤلاء القوم الذين أخرجوه من داره مجابهةً يزلزل بها عقائدهم الملتوية، ويزيل بها تلك الغشاوة التي رانت على أعينهم، فيعرفوا قدر دينهم في الأديان، ومنزلة رسولهم بين رسل الله المكرمين: (قيل ادخل الجنة، قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).
ومن علائم الشعور الأول ما كان من شأنه ﷺ يوم قدم أصيل الخزاعي من مكة فقال له: يا أصيل، كيف تركت مكة؟ قال: تركتها وقد أجحش ثُمّامها وأمشر سلمُها وأعذَق إذخِرها. فجاش صدره الطاهر بأرق الحنين وأحر الاشتياق، ثم غمغم يقول: دع القلوب تقر!
ألا الله ما أحلى العز والكرامة في أرض الوطن! فلمثلها يتجرع العقلاس كؤوس الذل والمهانة مغتربين. يقتحمون مشاق التطواف طلباً لدعة المقام، ويقتعدون ظهور المعاطب التماساً لمواطئ النجاة ومهابط الأمن والسلامة:
تقول سليمي لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوَّفُ
رب خفض تحت السرى، وغناء ... من عناء، ونضرة من شحوب!
وليس يحس قدر هذه النعمة إلا كبار النفوس ممن يغالبون الأيام فيقتلون أو يُقتلون، ويشربون كؤوس الحياة من أرْى وشرى حتى الثمالة. . . ولعل في رأس القائمة من هؤلاء كافَي الكفاة الصاحب بن عباد - وزير آل بويه - قال القاضي الجرجاني في بعض حديث له عنه: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد، وقد استعفيته يوماً من فرط تحفيه بي وتواضعه لي فقال:
أكرمْ أخاكِ بأرض مولده ... وأمدَّه من فعلك الحسن
فالعز مطلوب وملتمسٌ ... وأعزُّه ما نِيلَ في الوطن
ثم قال: لقد فرغتَ من هذا المعنى في العينية، فقلت:
لعل مولانا يريد قولي:
وشيدتُ مجدي بين قومي فلم أقلْ ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي
فقال: ما أردت غيره، والأصل فيه قوله تعالى: يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.
للكلام بقية
محمود عزت عرفة
المدرس بقوس الأميرية