مجلة الرسالة/العدد 607/من دعاة الحرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 607/من دعاة الحرية

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1945



جويو

للأستاذ زكريا إبراهيم

ليس أكثر من دعاة الحرية في هذا العصر! وليس أكثر إيغاراً للصدور من دعاة حرية الفكر! وما أنا بغافل عن تلك الضجة التي أثيرت منذ أمد قريب، حين عرض أحد الكتاب لقضية الحرية الفكرية. . . ومع ذلك فأنني أجد نفسي راضياً بأن أثير هذه المسألة الشائقة الشائكة معاً، لأجل خاطر (جويو) صاحب هذه الدعوة!

وصديقنا جويو فيلسوف أصيل جمع بين العمق والطرافة والوضوح. وهو واحد من أولئك الفلاسفة القليلين الذين استطاعوا أن يفهموا الفلسفة على أنها قطعة منتزعة من قلب الوجود، وليست مجرد أفكار عقيمة لا تمت إلى الحياة بأدنى سبب. فالفكرة الجوهرية في مذهب جويو هي أن (الحياة) جوهر الوجود، وأن الفكر ما هو إلا جانب من جوانب الحياة. وقد استطاع جويو أن يوفق بين النزعة الفردية والنزعة الاجتماعية على أساس هذه الفكرة، فذهب إلى أن المثل الأعلى للحياة الفردية، إنما هو ذلك الذي تتمثل فيه الحياة الحافلة؛ والحياة الحافلة هي تلك التي لا تكون فيها الذات مغلقة على نفسها، بل تكون قادرة على أن تسع غيرها من الذوات. ومعنى هذا أن نقطة البدء في فلسفة جويو هي (الفردية) لأن الحياة الخصبة الحافلة إنما هي الحياة الفردية التي لا تكون فيها معارضة بين الفرد والمجموع، إذ تمتد الذات حتى تشمل المجموع وتضمه تحتها!

وقد نشأت فكرة الحرية عند جويو كنتيجة لهذه النزعة الفردية الخاصة. ونحن ندع جويو يعبر عن هذه الفكرة بعبارته التي تفيض قوة وحماسة؛ فيقول:

(. . . ألا يمكن أن يأتي ذلك اليوم الذي فمه تزول كل العقائد السائدة التي يتمسك بها الناس، بحيث لا يبقى أي إيمان عام يستأثر بالنفوس أو يمتلك العقول؟ إلا يمكن أن يحين ذلك اليوم الذي فيه يصبح الاعتقاد (فردياً) خالصاً، فلا تعود هناك سنة بل خروج وابتداع؟ إن الرغبة في التحكم في الجسوم، فمن واجبنا إذن أن تتحامى أولئك الذين يريدون أن يفرضوا أنفسهم علينا، أو أن يجعلوا من أنفسهم موجهين لأفكارنا، أو قادة لضمائرنا. . . أجل، يجب علينا أن نتجنب هؤلاء كما نتجنب المصائب والمحن! فقد آن الأوان لأن نس بمفردنا، وأن نفرع من أولئك الوعاظ الخادعين. . . علينا أن نصبح نحن قادة لأنفسنا، فلا ننشد الوحي والإلهام إلا في نفوسنا. أما المسيح فلم يعد موجوداً، لأنه ليس ثمة إيمان عام بعد اليوم! فليكن كل واحد منا إذن مسيحاً لنفسه، وليتصل ربه كما يشاء، وليعتمد على إلهه كما يستطيع. . . وليتصور كل منا هذا الكون كما يحلو له، وليختر أي نظام يروقه. أما أولئك الرجال الذين قد يستطيع المسيح أن يقول لهم: ما أقل إيمانكم، فطوبى لهم إذا كان معنى هذا انهم رجال مخلصون لا يريدون أن يخدعوا عقولهم، أو أن يلغوا ذكاءهم، أو أن ينتقصوا من كرامتهم! طوبى لهؤلاء القوم، لأنهم يملكون روحاً علمية حقيقية، وفكراً فلسفياً صادقاً، ولأنهم لا يؤخذون بالمظاهر، بل يأخذون الحذر حتى من عيونهم وعقولهم، ولأنهم يبدءون دائماً من جديد، فاحصين احساساتهم، وممتحنين استدلالاتهم. أن هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يظفروا بجانب من الحقيقة الخالدة، لأنهم لا يظنون في أنفسهم أن في وسعهم إن يظفروا بالحقيقة كلها؛ فلديهم إذن قدر كاف من الإيمان الحقيقي الذي يدفعهم إلى أن يبحثوا دائماً، بدلاً من أن يركنوا إلى الراحة والهدوء، مكتفين بأن يرسلوا الصرخة العالية قائلين: لقد وجدنا! لقد وجدنا! أجل، إن هؤلاء هم الشجعان الذين يواصلون السير والتقدم، حين يتوقف غيرهم ويركن إلى الدعة والخمود؛ فالمستقبل لهم وحدهم، وفي أيديهم يقع مستقبل الإنسانية في العصور المقبلة!)

هذه هي الحرية الفكرية كما يفهمها جويو، فهي في نظره ضرورة من ضرورات الحياة الحاضرة، وحاجة من الحاجات الهامة التي يقوم عليها مستقبل الإنسانية. وليس أحب إلى نفسي من هذه العبارة الخالدة التي يصور فيها جويو موقف الإنسانية اليوم فيقول: (إننا على ظهر سفينة هائلة كالتنين الضخم، وقد اقتلعت الأمواج العاتية دفة هذه السفينة، وحطمت الرياح الثائرة ساريتها. فالسفينة الآن ضالة في الميحط، تنخبط ذات اليمين وذات الشمال، مثلها مثل الأرض السابحة في الفراغ! وهي تسير بالمصادفة والاتفاق وتضرب ضرب عشواء، مدفوعة بالرياح السوافي، كأنما هي حطام هائل يحمل فوق ظهره الناس. . . وقد تصل هذه السفينة إلى هدف مجهول، أو غاية غير معلومة، فتبلغ الإنسانية غرضاً لم ترم إليه من تلقاء نفسها. ولكن ليس ثمة يدٌ تقودنا، ولا عينٌ ترعانا؛ والدقة قد تحطمت منذ زمن بعيد، بل لعلها لم توجد يوما ما، فعلينا أن نضع هذه (الدقة)؛ وتلك مهمة خطيرة، ولكنها عملنا، ومن واجبنا أن تقوم بهذا العمل).

نحن إذن في دور اضطراب وصراع، فلابد لنا إذن من أن نفكر بحرية في الطريقة التي نخلُص بها من هذه الفوضى. والحرية التي يدعو إليها جوّيو ليس معناها الفوضى، وإنما هي حرية تنطلق معها النفوس من نير العبودية، كما انطلقت الأجسام من نير الرق القديم. العالم - اليوم - يتحرَّق شوقا لهذه الحرية، فقد ظل الفكر أمداً طويلاً حبيس الأنفاس، لا يُفك إساره إلا بالقدر الذي يهيئ له أن يسير بضع خطوات في حظيرة الإيمان الضيق! ولكننا نريد أن ينطلق الفكر كما يشاء، حرّاً لا تقيده سلطة، ولا تردّه قوة، اللهمَّ إلاَّ سلطة المنطق، وقوة المعقول!

(السويس)

زكريا إبراهيم