مجلة الرسالة/العدد 607/على هامش النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 607/على هامش النقد

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1945



خواطر متساوقة

في النقد والأدب والأخلاق

1 - صرخة إنسانية 2 - قفزة نفسية 3 - تفاؤل مطمئن

للأستاذ سيد قطب

في عدد (الثقافة) قبل الأسبق قصيدة لشاعر شاب (محمد العلائي) بعث بها إلى أبى العلاء (من القاهرة إلى المعرة). . . هي صرخة إنسان مألوم. قذفت به إرادة الحياة إلى دنيا كدنيا أبى العلاء؛ ولم تكتف بهذا الشبه في كيانه وموقفه فسمته (العلائي) أيضاً!

وعلى كثرة ما أقرأ من الشعر في هذه الأيام منشوراً في الصحف وغير منشور، فقد وجدت في هذه القصيدة طعماً لا أجده في ذلك الكثير. وجدت طعم الصدق في هذه الصرخة المباشرة؛ فتحركت في ضميري كل أحاسيس (التعاطف). ولا أقول كل مشاعر (العطف) كي لا أوذي الشاعر، الذي ترتفع حساسته المؤذية حتى يقول هذه الأبيات:

شيخَ المعرّة هل مسّتك أهوالي؟ ... وهل طويتَ زماناً تحت أثقالي؟

هجرت دنياك لم تسهد مباذلها ... ولم تعرّج على صحب ولا آل

ولم تساير مَوَدّات على ريبٍ ... ولم تصانع أذى عم ولا خال

ولا الوجوه إذا اهتزت ملامحها ... بغمرة السوء من بال إلى بال

ولا العيون إذا رفّت بخائنة ... ولا تميع مسلول ومحتال

ولا حبائل مطموس على جدث ... به رميم الخطايا منذ أجيال

ولم تصعّد أمانيّا إلى شجر ... مدّ الظلال على طين وأوحال

ولم تضاحك غراب البين تحسبه ... غرْيدَ سانحة من يوم إقبال

ولم تذق خسّة الدنيا إذا مزجت ... كأس المقلْ بأشواق وآمال

ولم تكابد رزاياها إذا جلبت ... شؤم العثار على ضيم وإقلال

ووحدت طعم الصدق كذلك في هذه الصورة الزرية التي يرسمها للجيل البائس الذي نعيش فيه: بنو الأول مسوخ لا كيان لهم ... مرضى القلوب خطيئات لآباء

مَوْتى المشاعر إلا يوم تافهة ... عمى البصائر إلا نحو أقذاء

هدْت كياني بلواهم وحيرّني ... داء التفاهة في موتى وأحياء

كأن ثرثرة الأفواه في أذني ... رشاش سم على قلبي وأحشائي

يقيء سمعيّ أشهى ما يفوه به ... خيارهم يوم سراء وضراء

هم الذباب فلا خير بأنفسهم ... لأصدقاء ولا شر لأعداء

كلٌّ سواء: فلا بَرٌّ يفيء له ... قلبي. ولا فاجر أصليه بغضائي

يا أخي:

تلك - مع الأسف - صورة بني الأوان، في قلب كل (إنسان) وهي صورة كريهة شائهة، ولكنها هي الحقيقة الحقيقة. وقد تكون أنت أشد حساسية بها، ولكنك لست مفرداً فيها.

وإنني لأود لو تبلغ كلماتي إلى أذنيك، ولو تُجاوزهما إلى قلبك، ولو تستطيع أن تنقل إليك اهتزاز نفسي، فتشعر - على البعد - بهذا التجاوب معك في دنياك!

وانتقلت من هذه الصرخة الوجيعة إلى مقال بعدد الرسالة الأسبق للدكتور مندور عن (الرقص الكلاسيكي) وليست النقلة بعيدة - كما يبدو - فقد بدأ المقال هكذا:

(بدا لي أن أكتب عن الرقص، وذلك أملا مني في تقويم الأخلاق. وقد يبدو هذا غريباً؛ فكيف تقوّم الأخلاق بالحديث عن الرقص؟ ومع ذلك فهذا حق، فالرقص ونقصد به الإيقاعي والتعبيري - لا الرقص الشرقي طبعاً - يورث من يزاوله من رجال ونساء قوة في الجسم تحرر النفس من آفاتها)

نحن إذن في مجال الشكوى من قيود النفس ومن ضمور الأخلاق. في المجال الذي انبعث فيه صرخة الشاعر الوجيعة، لم نعده إلى سواه!

وتعجبني قفزات الدكتور مندور - في بعض الأحيان - ففيها طابع الحرارة، وعنصر الإخلاص؛ وهو مُيسّر لهذه القفزات، وإن اختلفنا معه في التطبيق هنا كما اختلفنا معه في تطبيق (الشعر المهموس)!

اسمه يقول: (والرقص كما هو رياضة للجسم رياضة للروح. وذلك لأنه يغذيها بشعورين لهما أثر عظيم في الحياة، وهما الشعور بالمرح ثم الشعور بالجمال. وليس من شك في أن هذين الشعورين من أضعف المشاعر عند الشرقيين، حتى لأحسب أن جانباً كبيراً من ضعف النفوس الذي نشكو منه يرجع إلى الحزن الذي ينزل الخراب بالقلوب، كما أن الإحساس بمعنى لجمال ومعاييره الصادقة يكاد يكون منعدما. والنفس الحزينة لا تعرف الثقة والتفاؤل. والحس الذي لا يدرك الجمال لا يحجم عن الخسيس من الأمور)

وكل ما يختص بأحزاننا الهامدة صحيح. ولقد كتبت في عام 1940 مقالاً مطولاً في مجلة الشؤون الاجتماعية تحت عنوان: (مباهج الحياة عنصر أصيل في الإصلاح الاجتماعي) بدأته بهذه الفقرات:

(نحن في حاجة إلى حظ كبير من الفرح، لأننا في حاجة إلى حظ كبير من الحياة، وإلى حظ كبير من سلامة الفطرة، وصحة الشعور، وهما أكبر مقومات الحياة.

(وحظنا نحن المصريين من الحياة ضئيل، لأن حظنا من الفرح، ومن المباهج الروحية ضئيل. وإيما يصح هذا القياس لأن الفرح الإنساني ظاهرة نفسية وعقلية، تقابل في الحيوان ظاهرة القفز والوثب، وفي الطير ظاهرة السقسقة والغناء، وفي النبات ظاهرة التفتح والازدهار. وهذه الظواهر جميعاً دليل الحيوية والصحة في الحياء.

(نحن في حاجة إذن إلى حظ من الفرح الإنساني الراقي، لأننا في حاجة إلى حظ من الحياة الصادقة والفطرة السليمة.

(ولكن أهذا كل ما ينقصنا من ألوان الفرح؟

(الواقع أن حظنا كذلك ضئيل حتى من الفرح الحيواني الذي يدل على سلامة البنية وصحة الجسد واكتفاء الغريزة. والحرمان من هذا اللون ربما كان أخطر وأوغل في العلة، لأننا بهذا الوضع لا نرتقي في سليم الصحة حتى إلى مرتبة الحيوان!)

(تشخيص) الدكتور مندور للعلة في لشرق صحيح. ولكن الذي أخشاه هو ألا يكون قد وقع على العلاج الصحيح. وألا يكون رقصه المقترح هو الدواء المفيد.

فلقد ضرب المثل بالإغريق وإقبالهم على الرقص وأثر هذا الرقص في تربيتهم الخلقية وفي عبادتهم للجمال. والجمال الذي هو قوام العمل الخلقي: (وليس من شك كذلك أن عبادتهم للجمال وحرصهم على التناغم والانسجام قد أحيا في نفوسهم معاني البطولة ومثل الأخلاق. ومن البين أن أهم صفات العمل الأخلاقي هو جماله المشرق). . .

فالذي أعتقده هو أن الإغريق إنما أقبلوا على الرقص الذي (يستمد إيقاعه من الموسيقى الشائعة في الطبيعة) لأنهم قبل أن يرقصوا فاضت نفوسهم بالحياة الدافقة، وأحسوا موسيقى الطبيعة الشائعة، فأفاضوا الحيوية الكامنة في كيانهم رقصاً، وبادلوا موسيقى الطبيعة الشائعة إيقاعاً. ولم يكن الرقص إلا منفذاً للرصيد المذخور.

وليس الذي ينقص الشرقيين هو أن يرقصوا على نغمات الطبيعة، ولكن الذي ينقصهم هو أن يدركوا هذه النغمات، وأن يجدوا لها رصيداً يكافئها في نفوسهم فيجاربوها بهذا الرصيد

أن الحيوية الكامنة هي التي تنقصنا - فيما أحسب - فليس لدينا منها ما ننفقه في الرقص وما ننفقه في المرح، وهما منفذان يتسرب منهما النبع الفائض حين يفيض. فمتى يمتلئ الإناء الفارغ، حتى يتسرب وحتى يفيض؟

هذه هي المسألة يا عزيزي الدكتور!

ولا نختم الصحيفة على هذا التشاؤم، ففي عدد الرسالة نفسه بصيص من نور مقال للدكتور محمد صبري عن (علل المجتمع المصري) جاء فيه:

(لكل مجتمع علله وآفاته، ولكننا إذا استعرضنا علل المجتمع الأوربي كانت هذه العلل خاصة بمجتمع قد تهيأت له جميع المشخصات القومية، وتجلت مظاهر القوة ومظاهر الضعف فيه. أما المجتمع المصري فهو مجتمع في طور الانتقال)

(والواقع أن عللنا وآفاتنا كثيرة نشأ معظمها من الاستعباد وطول عهوده. وقد أصبحنا وفبنا مركب الشعور بالنقص. وهذا واضح جلي في (معاملات) المصريين والجانب. وما بقيت هذه العلة بغير علاج حاسم فستظل (الامتيازات) في نفوسنا وأخلاقنا، وان تكن قد محيت في الورق والمعاهدات.

(وقد أصبحت هذه الحالة مدعاة لليأس والتشاؤم، ففريق من المصريين يقول: إنه لا أمل في إصلاح هذا الشعب. وفريق من الأجانب - وعلى رأسهم المؤرخ الكبير جبرائيل هانوتو - يقولون: إن مصر لا عني لها عن الأجانب، وان مركزها الجغرافي إلى جانب ذلك يفرض عليها قبول سيطرة الدولة التي تهيمن على البحر الأبيض، أي قبول الاستعباد في شكل من أشكاله)

ثم يختم كلمته قائلاً: (وقد اخطأ الفريقان في نظرهم وتشاؤمهم، ويرجع ذلك الخطأ إلى أنهما قد أضدها حكمهما على الشعب المصري باعتباره قد استكمل أداته للكفاح، وأخذ أهبته وجرب وكبرواستقر. وبعبارة أخرى قد قطع مرحلة الانتقال وظهرت ملامح شخصيته الثابتة من حسنات وعلل وعورات

(ولو أيهما انتبها إلى أن حالة مصر اليوم لا تزال حالة انتقالية، وان بعض العلل التي نراها ليست من العلل (المزمنة) وقد تكون غريبة عن جوهر الخلق المصري الصحيح، وأنها إذا عولجت انتقت عنه، وزالت كما يزول كل عرض. . . أقول لو أنهما انتبها إلى ذلك لهما أن تشاؤمهما أكبر خطر يتهدد الفكرة الإصلاحية، بل وكل فكرة تطمح إلى المثل العليا والسير بالبلاد إلى أبعد الغايات).

هذا التفاؤل مطمئن على كل حال. وفي هذا القول كثير من الصدق. وشاهده قائم في الحياة المصرية القديمة والحياة المصرية اليوم. وقد كانت لمصر مباهجها الحية يوم كانت حياتها توحي بالمرح والابتهاج. . . وحتى الرقص، الذي يريد الدكتور مندور ليستجلبه لنا من الإغريق. قد حفظت لنا منه الصور الفرعونية والآثار مشاهد جميلة فائضة بالحيوية منسقة بالايقاع، مشعة بالسرور!

فلنسمع إلى صرخة الشاعر الإنسانية، وإلى قفزة الدكتور النفسية، وإلى تفاؤل الدكتور المطمئن، فكلها دليل حيوية قد أخذت في الظهور

سيد قطب