مجلة الرسالة/العدد 604/نحن والتجار. . .
مجلة الرسالة/العدد 604/نحن والتجار. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
أكتب هذه الكلمة والمطر يهطل منذ ثلاث ليال، ما أنقطع خيطه، ولا سكت صوته، أقبل بعد سنة مضت، شحت فيها السماء، وضنت السحب، فرح به الناس واستبشروا، وانتظروا عاماً خيراً مباركاً، يغاث فيه الناس، ويأتيهم الفرج بعد الشدة؛ غير أن الخير إن زاد عن حده، كاد ينقلب إلى ضده، وكذلك المطر لما استمر صار الناس يسألون، الله الجفاف، ويتمنون لو تطلع الشمس، والشمس ما تطلع، والمطر ما ينقطع. . .
ووكفت السقوف، ونزت الجدران، واساقطت غرف، وسالت طرق الجبل أودية، فامتلأت بالحصى والحجارة، وغدت أباطح، ووقف سيلها الدفاع السيارات وحافلات الترام، واختبأ الناس في البيوت، وما تكاد البيوت تمنع برداً ولا بللاً، ونال حي المهاجرين (على سفح جبل قاسيون) ما لم ينل مثله حياً في دمشق، وحي المهاجرين نصفه قصور من الصخر شامخات، ذات طبقات كثر وشرفات، ونصفه دور لمساكين، هي أكواخ من اللبن والطين، وما في بلدنا مكان يلتقي فيه الفقر المدقع المتجمل الصابر، والغني السفيه الوقح المبذر، كما يلتقيان وجهاً لوجه في المهاجرين. أما بيوت الأغنياء فما أحست المطر ولا درت به، ونام من فيها على الفخم الأسرة ووثير الفرش، لا يعنيهم من خبر السماء وخبر الأرض إلا أن تشبع بطونهم، وتمتلئ صناديقهم، ويسلم لهم أولادهم وأهلوهم، وأما أكواخ الفقراء، فقد صبرت على المطر صبر الكريم، واحتملت ليلة وليلتين. فلما جاوز الحمل الطاقة، خرت في المعركة، كما يخر البطل الشهيد، وخرج من بقي من ساكنيها فراراً منها حين لم تعد دوراً وإنما صارت بركاً ومستنقعات. . .
سقوف بيوتي صرن أرضاً أدوسها ... وحيطان داري ركع وسجود
وسمعت في الليل هزة، اهتزت أهل الدور، ورجفت منها القلوب، فقمت أستقرئ الخبر، فإذا دار جيراننا قد هوت. . .
. . . ومضت ساعة، وأهل الحمية من الناس يعملون في الوحل والمطر والبرد، ليواسوا أسرة نزل بها القضاء، وينقذوا ما يستطيعون إنقاذه، من فرشها ومواعينها، وذلك القصر ينظر إلينا ثم يعرض عنا، قد شغلته حفلة أقامها تلك الليلة لا أدري فيم أقامها، ولا تز أنواره ساطعة في عيوننا، ونساؤه الكاشفات يتراءين لنا من وراء الزجاج في الحرير والذهب، وأصوات الغناء والمرح في آذاننا، تهزأ بالفقر وأهله، وتضحك وقحة في مآتمهم، وترقص فاجرة في مقابرهم، والسيارات تقف في بابه تنزل منها باقات الزهر، وثمن كل باقة يحيي الأسرة من الأسر أياما، والهدايا التي تذهب بالمال ولا تأتي بالنفع لوحات مصورة، وكؤوس منقوشة مذهبة، وتماثيل للناس وللبهائم، لو وزعت أثمانها على فقراء الحي لم تدع فيه فقراء، والفضيلة قد توارت خجلاً في زاوية الطريق، وإبليس واقف يضحك مسرورا بأن سلب نفراً من أمة محمد فضائل دينها، ومروءتها، وأن ثأر من آدم فجرد بعض بنيه من بشرتهم، وأحالهم شياطين في أجسام بشر، أو ذئابا قد استخفت في الثياب. . . ولم أقل كلابا لئلا أشتم الكلاب!
ونعجب بعد هذا من إبراهيم بن أدهم لما أخرجوه ليستقي لهم، وقالوا له استبطأنا المطر، فأدع الله لنا، فقال: تستبطئون المطر؟ أنا والله استبطئ الحجارة. . .
(ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى)
وما هذا القصر لملك ولا أمير، ولكنه لتاجر من هؤلاء التجار الذين يحيون في أيام الحروب التي يموت فيها الناس، ويغنون حين يفتقرون، وينسون أن لهذا الكون ألهاً قادراً عادلاً جباراً، ما استقال ولا أحيل على المعاش، ولا يزال لهم بالمرصاد، وينسون أن الموت آت لا مفر لهم منه، وأن قبل الموت المصائب والرزايا؛ الفقر والثكل والمرض؛ وأن بعد الموت الحساب، وبعد الحساب جهنم أو الجنة، أفبلغ بالتجار أن يعلنوا الحرب على الله؟
أننا نعيش بحمد الله في منجاة من القتال وأهواله، والحرب وبلاياها، ومالنا عدو يحاربنا، وما عدونا إلا هؤلاء المحتكرون أعداء الله وأعداء البشر، الذين حبسوا أقواتنا، وأخفوا أرزاقنا، وارتضوا لنا أن نجوع ونعرى، ليكنزوا الذهب والفضة ويطيفوا بها إطافة الوثني بصنمه، وليربقوا فيض مالهم على أرجل بنات إبليس: الأرتستات الراقصات، وفي معابد الشهوة الملهبات ونوادي القمار، وفي كؤوس الحميم التي اسمها الشمبانيا والويسكي، يحارون ماذا يشترون بمالهم من اللذات المحرمة، وفي أي مطرح من مطارح التبذير يلقونه، والموظفون والعمال لا يكادون يجدون ثمن الغذاء والكساء، إلا موظفا خان أو عاملا سرق، فما حال الأرملة المفردة، واليتيم الضائع، والشيخ الذي لا سند له من مال أو ولد، وعندنا في دمشق من الأرزاق والبضائع ما لو أخرج لكفانا الحاجة سنين أخرى، بل إن عندنا كما أكد لي من يوثق به، بضائع لا تزال في مخازنها منذ الحرب الماضية، والناس يحتاجون إليها والتجار يخفونها يرتقبون بها يوما أشد، وضائقة أحكم، لا يدرون أن كل من أخفى بضاعة أو سبها ينتظر بها ارتفاع الأسعار، وحرمها من هو في حاجة إليها فهو محتكر قل ما حسبه أو كثر، وهو عدو مؤذ، ولص سارق، وليس بتاجر، لأن التجارة كما يفهمها عقلي القاصر إنما تكون بنقل البضاعة من بلد تكثر فيه إلى بلد هي فيه قليلة، أو يجمعها في موسمها لبيعها في غير موسمها، أو بشرائها جملة وبيعها أفراداً، ويأخذ التاجر الربح المعقول على ما بذل في ذلك من ماله ومن عمله، أما ما نراه اليوم من اجتماع النفر من التجار حول مائدة من الرخام في (قهوة الكمال) مثلا، وفي أيديهم أقلامهم وفي أفواههم دخائنهم أو أنابيب نراجيلهم، ببيع أحدهم (بالة الخام) أو (كيس السكر) عشرين مرة بأسعار مختلفة، ويشتريها، وما باع على التحقيق ولا اشترى، ولا قام من مكانه ولا أخذ ولا أعطى. ثم ينفض الاجتماع ويلقي الستار على من ربح منهم عشرة آلاف ليرة، أو من خسر مثلها. . . أما هذا وأشباهه - وما أكثر أشباهه - فما هو لعمر الحق إلا القمار بعينه وأنفه وذنبه. . .
وإذا كان حقا ما أعتمده (رينان)، من أن الدولة تقوم على (الإرادة المشتركة)، لا على الأرض وحدها ولا اللغة منفردة، إلى آخر ما في (نظريته) المعروفة، فليس التجار منا ولا نحن من التجار، لأنهم يريدون غير ما نريد، ولا إرادة مشتركة بيننا وبينهم، فنحن نرجو الرخص وهم يتمنون الغلاء، ونحن نحب أن تنتهي الحرب وهم يحبون أن تدوم، ونحن نطلب من الحكومة أن تسعر وتراقب، وهم يطلبون لأنفسهم حرية إجاعتنا وتعريتنا، ونحن لا نجد مالا نشتري به لوازمنا، وهم لا يجدون لذة جديدة يتصرفون فيها أموالهم، فأي جامعة بيننا وبينهم؟
وإذا كانت الرسالة قد جردت قبل الحرب قلمها البليغ لنصرة أكرم مبدأ، مبدأ الإحسان، والدفاع عن الفقراء والمحتاجين، وإنارة الحمية في نفوس الأغنياء القادرين، ذلك والدنيا في رخاء، والحياة سهلة، والسلام قائم، فأولى أن تستل هذا القلم العضب اليوم، حين اشتد الخطب، واتسعت بين الفريقين الشقة، وازداد الأغنياء غنى، والفقراء فقراً، ونشأت هذه الطبقة المحدثة النعمة، التي شبعت من المال ولا تزال في جوع إلى الرفاهية والبلهنية واللذائذ: طبقة (أغنياء الحرب)
إن أهل القصر لا يزالون في لهوهم وقصفهم وأهل الكوخ لا يزالون في كدهم وجدهم، والمطر دائب ما ينقطع، والبرد قارس ما يخف، والليل موحش مخيف، فمن لهؤلاء المساكين، إن تجرد لنصرتهم الأقلام من أغمادها، وتشرع حتى تصدع على هؤلاء الأغنياء حجارة القصر الذي اعتصموا فيه، ليروا ما الناس ويسمعوا ما خطب المساكين، من إخوانهم في الوطن واللغة والدين. إنهم في سكرة الذهب، فاصرخوا فيهم حتى يصحوا منها، قبل أن يذهب السكر ويأتي (الأمر)، فيروا أن أمر الله إذا جاء لا يرد. أفهموهم - وكيف السبيل إلى إفهامهم - أننا رأينا رأى العين، ما قرأنا في الكتب، ولا سمعنا من الناس، من غنى الحرب الماضية أكثر مما غنوا، وبذر أضعاف ما بذروا، ثم ذهب المال والأهل، وغدا يسأل الناس على أبواب المساجد، ولولا أنه يحرم التصريح بعد التلميح، لصرحت بأسماء أقوام عرفناهم، وإن جهلهم من قصرت سنه عن أسناننا.
على أنني ما أعمم القول، ولا أطلقه إطلاقاً، وإن في الموسرين لمحسنين، وفي التجار لمنصفين، وما تخلو طبقة من خير ولا من شر ولكن في الموسرين من يريد الإحسان ولا يعرف المستحق له، ومن المستحقين من لا يعرف المحسنين، ومنهم من يعرف ولا يسأل، أولئك الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. وإن من أوجب ما يجب علينا في هذه الحرب أن ننشئ جمعيات موثوق برجالها، بأمانتهم ودينهم، تكون في كل حي كالوسيط بين الغني المحسن والفقير المحتاج، تأخذ من الأول وتعطي (بعد التحقق من حاجته) الثاني، ومن عرفت أنه أتخذ السؤال حرفة - على مقدرة منه على العمل، أو على مال له قد خبأه، فعل أكثر هؤلاء المكدين - رفعت أمره إلى الحكومة لتعاقبه عقاب المتشردين. ويا ليت هذه الجمعيات الإسلامية الكثيرة في مصر والشام والعراق: الإخوان والشبان والهداية والتمدن وأمثالها، تجعل ذلك المطلب من بعض مطالبها
ثم إن من أهم ما ينبغي لهذه الجمعيات أن تصنعه هو أن تختار للإحسان أسلوباً يهون به العطاء على المعطى، وتجزل به المنفعة للآخذ. ولقد وجدت أنا واحدا من مائة أسلوب تخطر على البال، حين كنت (من نحو ثلاث سنوات) قاضياً في القلمون، وضاقت الأقوات وقل الخبز، فدعوت إلى ما سميته (مشروع الرغيف)، وأعانني عليه القائم بأمر المنطقة يومئذ ففرضنا على أهل كل بيت من القادرين رغيفا واحدا في اليوم وكلنا من يجمعه، ووزعنا ما جمعناه على المحتاجين، وتركنا من هم بين ذلك فلم نأخذ منهم ولم نعطهم، وهذا الرغيف الذي لا يصعب إعطاؤه على أحد، ولا تشعر به الأسرة، أحيا الله به أهل القلمون - وهم أكثر من سبعين ألفاً - في سنة القحط والضيق، وما ذكرت ذلك لأفخر به، ولا لأنه الأسلوب البديع الذي لا نظير له، بل لأمثل به على ما أريد، والعبرة بالأعمال لا بالأقوال
نسأل الله أن يوفقنا حتى نعمل، ويرزقنا الإخلاص في عملنا حتى يقبل، وألا يجعل هذه المقالة كالصرخة في البيداء.
(دمشق)
علي الطنطاوي
حول فلسفة نيتشه