مجلة الرسالة/العدد 604/إشهار الرؤوس المقطوعة
مجلة الرسالة/العدد 604/إشهار الرؤوس المقطوعة
في أيام العباسيين
للأستاذ ميخائيل عواد
تمهيد:
في مقال سابق لنا، ذكرنا أخبار (خزانة الرؤوس) في دار الخلافة العباسية ببغداد، وما ضمته رفوفها من رؤوس لعب أصحابها أدواراً خطيرة في ميادين السياسة والإدارة والفكر.
وها نحن أولاً ننتقل إلى بحث آخر ذي صلة بهذا الموضوع، (وهو إشهار الرؤوس المقطوعة في أيام العباسيين) وذلك في مختلف البلدان الإسلامية فنقول:
أولاً - نصب الرؤوس في سامراء
1 - رأس الخليفة المستعين بالله:
تنكر الأتراك للمستعين لما قتل بعض أعيانهم مثل: وصيف وبغا، ونفي باغر التركي الذي فتك بالمتوكل، ولم يكن له مع رصيف وبغا أمر حتى قيل في ذلك:
خليفة في قفص ... بين وصيف وبُغَا
يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا.
وانحل أمره بعد وقعات كثيرة، فخلع نفسه وأحدر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوساً، ثم رد إلى سامراء ولم يبلغها حتى حز رأسه، فقال المسعودي: (ولما كان في شهر رمضان من هذه السنة، وهي سنة وهي سنة اثنتين وخمسين ومائتين، بعث المعتز بالله سعيد بن صالح الحاجب ليلقي المستعين، وقد كان في جملة من حمله من واسط؛ فلقيه سعيد وقد قرب من سامراء فقتله واحتز رأسه وحمله إلى المعتز بالله، وترك جثته ملقاة على الطريق،. . . . وذكر شاهك الخادم، قال: كنت عديلاً للمستعين عند إشخاص المعتز له إلى سامراء ونحن في عمارية، فلما وصل إلى القاطول تلقاء جيش كثير، فقال يا شاهك أنظر من رئيس القوم؟ فإن كان سعيد الحاجب فقد هلكت. فلما عاينته قلت هو والله سعيد، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون. ذهبت والله نفسي وجعل يبكي. فلما قرب سعيد منه جعل يقنعه بالسوط ثم أضجعه وقعد على صدره واحتز رأسه وحمله. . .).
قال أبن الأثير: (وحمل رأسه (أي رأس المستعين) إلى المعتز وهو يلعب بالشطرنج، فقيل هذا راس المخلوع. فقال ضعوه حتى افرغ من الدست. . .).
وفي كتاب (الديارات) للشابشتي وصف مؤثر لهذا المشهد المحزن الذي حل برأس المستعين. قال: (وذكر أحمد ابن حمدون قال: بنى المعتز في الجوسق في الصحن الكامل بيتاً قدرته له أمه ومثلت حيطانه وسقوفه، فكان أحسن بيت رئي. قال: فدعانا المعتز إليه فكنا في أحسن يوم رئي سروراً. وخلف الستارة مغنية تغني أحسن غناء ليس لي بها عهد. قال: فنحن في ذاك، إذ دخل علينا خادم في يده طبق عليه مكبة، فوضعه في وسط البيت، وكان في يد المعتز قدح فنشربه وشربنا، ثم قال للخادم: أرفع المكبة فرفعها فإذا رأس المستعين في الطبق، فلما رأيته شهقت وبكيت.) فقال لي المعتز: يا ابن الفاعلة ما هذا؟ كأنك داخلتك له رقة. فثاب إلى عقلي وتماسكت وقلت: ما كان لرقة ولكني ذكرت الموت. فأمر الغلام برد المكبة ورفع الطبق، فرفعه. وكان المعتز داخلته فترة، وكذلك جميع من حضر وافترقنا عن الحال التي كنا عليها من السرور. قال: فنحن كذلك إذ سمعنا وراء الستر ضجة أفزعتنا، فإذا امرأة تصيح، وامرأة أخرى تشتم الصائحة، والصائحة تقول: يا قوم أخذتموني غضباً ثم تجيئوني برأس مولاي فتضعونه بين يدي! فسمعنا صوت العود قد ضرب به رأسها. قال: وكان الشاتم لها والضارب قبيحة، وكانت الجارية من جواري المستعين. قال: فانصرفنا عن المجلس أقبح انصراف وقد تنغص علينا ما كنا فيه، ولم تمض إلا أيام يسيرة حتى وثب الأتراك على المعتز فقتلوه. ثم دعي بنا لننظر إليه فدخلنا عليه في ذلك البيت، فإذا هو ممدود في وسطه ميتاً).
2 - رأس صالح بن وصيف
روى قصته الطبري في حوادث سنة 256 هـ، ودونك بعض ما قاله في رواية مقتله: (. . . وقيل إنه حمل على برذون صنابي والعامة تعدو خلفه وخمسة من الخاصة يمنعون منه، حتى انتهوا به إلى دار موسى بن بغا،. . . لما صاروا به إلى حد المنارة ضربة رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كاد يقذه منها، ثم احترزوا رأسه وتركوا جيفته هناك، وصاروا به إلى دار المهتدي، فوافوا به قبيل المغرب وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح بقطر دماً، فوصلوا به إليه وقد قام لصلاة المغرب فلم يره، فأخرجوه ليصلح، فلما قضى المهتدي صلاته وخبروه أنهم قتلوه صالحاً وجاءوا برأسه؛ لم يزدهم على أن قال واروه، وأخذ في تسبيحه. . . فلما كان يوم الاثنين لسبع يقين من صفر حمل رأس صالح بن وصيف على قناة وطيف به ونودي عليه: هذا جزاء من قتل مولاه. ونصب بيان العامة ساعة، ثم نحى وفعل به ذلك ثلاثة أيام تتابعاً. وأخرج رأس بغا الصغير في وقت صلب رأس صالح، يوم الاثنين؛ فدفع إلى أهله ليدفنوه. . . فقال السلولي لموسى إذ قتل صالح بن وصيف:
وصيفُ بالكرخ ممثولٌ به وبُغاً ... بالجسر محترق بالجمر والشرر
وصالح بن وصيفٍ بعد منعفرٌ ... في الحَيْر جيفته والروح في سقر
ثانياً - رؤوس جماعة من بني أمية
بين يدينا أخبار رؤوس لقوم من بني أمية، قطعت قبيل ظهور دولة بني العباس؛ أو إبان ظهورها، ثم نقل بعض هذه الرؤوس إلى العراق، وكان من أشهرها:
1 - رأس عبيد الله بن زياد
الوقعة التي قتل فيها ابن زياد مشهورة في التاريخ. قال ابن عبد ربه: (. . . ولما التقى عبيد الله بن زياد وإبراهيم بن الأشتر بالزاب. قال: من هذا الذي يقاتلني؟ قيل له: إبراهيم بن الأشتر. قال: لقد تركته أمس صبياً يلعب بالحمام. قال: ولما قتل ابن زياد بعث المختار برأسه إلى علي بن الحسين بالمدينة. قال الرسول: فقدمت به عليه انتصاف النهار وهو يتغذى. قال: فلما رآه قال سبحان الله ما اغتر بالدنيا إلا من ليس لله في عنقه نعمة، لقد ادخل رأس أبى عبد الله على ابن زياد وهو يتغذى. وقال يزيد ابن معن:
أن الذي عاش ختَّاراً بذمته ... ومات عبداً قتيل الله بالزاب
2 - رأس مروان الحمار:
وهو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفاء بني أمية. وبقتله طويت صفحة بني أمية من ديار المشرق. قال ابن الأثير في رواية مصرعه: (وحمل رجل على مروان فطعنه وهو لا يعرفه، وصاح صائح: صرع أمير المؤمنين فابتدروه، فسبق إليه رجل من أهله الكوفة كان يبيع الرمان فأحز رأسه فأخذه عامر فبعث به إلى أبى عون، وبعثه أبو العون إلى صالح، فلما وصل إليه أمر أن يقص لسانه؛ فأنقطع لسانه فأخذته هر. فقال صالح: ماذا ترينا الأيام من العجائب والعبر، هذا لسان مروان قد أخذته هر. وقال الشاعر:
قد فتح الله مصر عنوةً لكم ... وأهلك الفاجرَ الجَعْديَّ إذ ظلما
فلا مقولة هرٌّ يجرره ... وكان ربُّك مِن ذي الكفر منتقماً
وسيره صالح إلى أبي العباس السفاح. وكان قتله لليلتين بقيتا من ذي الحجة، ورجع صالح إلى الشام. . .، ولما وصل الرأس إلى السفاح وكان بالكوفة؛ فلما رآه سجد ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك، ولم يبق ثاري قبلك. . .)
3 - رأس مصعب بن الزبير
قال ابن عبد ربه في رواية مقتل مصعب بن الزبير: (. . . فجاءه عبيد الله بن ظبيان وكان مع مصعب، فقال: أين الناس أيها الأمير. فقال: غدرتم يا أهل العراق. فرفع عبيد السيف ليضرب مصعباً. فبدره مصعب فضربه بالسيف على البيضة، فنشب السيف في البيضة، فجاء غلام لعبيد الله بن ظبيان فضرب مصعباً بالسيف فقتله. ثم جاء عبيد برأسه إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول:
نطيع ملوك الأرض ما أقسطوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم
قال: فلما نظر عبد الملك إلى رأس مصعب خر ساجداً، فقال عبيد الله بن ظبيان وكان من فتاك العرب: ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيته براس مصعب فخر ساجداً؛ أن لا أكون ضربت عنقه فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد. .، الرياشي عن الأصمعي، قال: لما أتي عبد الملك برأس مصعب بن الزبير، نظر إليه ملياً ثم قال: متى تلد قريش مثلك. . .)
(البقية في العدد القادم)
ميخائيل عواد