مجلة الرسالة/العدد 603/حولي عينيك. . .
مجلة الرسالة/العدد 603/حولي عينيك. . .
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
حَولي عَيْنَيكِ، إني لا أُطيقْ ... ما تَصُبانِ بنفسي من حريقْ
حَولي عني سُطوعاً فيهما ... قد أراني الجُرْحَ في غَوْرى السحيقْ
حَولي عني سماءً فيهما ... طَيْرهَا قلبي، ونجواهاُ خُفوقْ!
حَولي عني لهيباً فيهما ... لَفْحُه يُوغْل في مَسرىَ العروقْ
إنما تَرسُبْ عيناكِ إلى ... قاع روحي. . . كالرَّدى المْنَعِقِد
إنما تختَرقْ النفس بما ... فيهما من لهبٍ مُتَّقِد!!
إنما تثُقبُ ما أنسجُه ... مِنْ غِشاءِ الكْبرِ مُنْفَرِدى
إنما تَجْذِبنِي. . . مُنْطرِحاً ... تحتَ إقدامِك، مَغُلول الَيْدَ!!
لَيْتَ لي القُوَّةَ، أَسْتَنزفُها ... في مُعاَناَةِ المَنايَا منهما!!
لَيْتَ لي الُقَّوةَ، لكنْ ما نجاً ... في احْتِماَلِي رَمَقٌ أو سَلِماً
ما نجا لي رَمَقٌ يُسْعدُني ... أن أُضحيِه ذبيحاً لهما
حَولي عَيْنَيكِ يا قاهرتي ... واسمعي القصةَ تَنْدَى بالدماءْ
قد نبشْتُ القبرَ، فأصْحُ الآن يا ... ماضِيَ الحب، قتيلَ البُرحَاءْ!
وأغْتَفِر لي أنني قد هَتَكَتْ ... قبضتي الُحرْمَة في وادي الفَناء
أيها الماضي. . . أفِقْ وأخْطُر كما ... شئتَ بالأكفَانِ في هذا الفضاء
أيها الماضي. . . أفِقْ واقذِفْ بما ... فيكَ من هَوْل إلى مَرْأى العُيُونْ
كلُّ يوم فيكَ كأسٌ مِلْؤُها ... دَمُ قلبٍ، وَنُفَاثَاتُ طَعِينْ!!
وَثَوانيكَ شُجونٌ رَزَحَتْ ... تَحَتَها مُهْجَةُ غِريدٍ أمين
سقَرٌ أنْتَ وقد كابدْتُهُا ... في نعيم الحب فياضَ الشئون
أيُّها الماضي أفِقْ واجْهَشْ بما ... فيك من رعْدِ البلايا والعذابْ
كي تُريها ما بأياِمك من ... حُرقاتٍ وَدُمُوعٍ وَسَرابْ. . .
جُثةٌ أنْتَ. . . وقد مزَّقَها ... سَوْطُ حِرْمَانِ شبابٍ من شبابْ
إسْلَخِ الأيامَ من ظلمتها ... تتساقَطْ حولها فوق التراب! أنْتَ يا ماضِي. . . أطْلِقْ نحوها ... كلَّ أوقاتِكَ من قَيْدِ الزمن
تتنزَّى في خُطًي تَلْقَفُهَا ... عثراتٌ وشكوكٌ ومحنْ. . .
وانشُرِ الآن ليالِي التي ... تنزفُ السعدَ وتستبقي الشجنْ
لترى ظالمتي السهد الذي ... طالما سايَرني فوق الدمَنْ!!
ابعثِ الآن دفين الذكَرِ ... لتُريها كيف ولي عُمُري
في هلاك اليأس قد طاردتني ... خوْفُ قلبٍ باللظى مُدَّثِر
خوف حرمان تَرَدَّيْتُ به ... وارتوى من نابعات الفكرِ
وتلوَّى في ضلوعي نَهِماً ... يغتذِي بي في شقاء السهرِ
كم حنين قصّ وجُداني وما ... كفّ حتى صبغَتْ ليلِي الدماء
وعذابٍ طحن النفس فلم ... يُبْقِ منها ما يُذَريه الهواءْ
وبكاءٍ كنت أَسْتدَنْي به ... في خيالي رحمة لي وعزاء
وأحرُّ الدمع ما تبذُله ... عين مظلوم شديد الكبرياء
هذه الغيلان عَبَّتْ من دمي ... فانتشت تقصف في هَوْلَ الظلامْ
نهَشَتْ لحمي فَدَوَّت من فمي ... صرخات الذعرْ والناس نيام
وأنا وحديَ دكَّتْ أعظُمي ... رهبة المُشْفى على مهوى الحِمام
هذه الغيلان غيلان الأسى ... أكلَتْ راحة قلبي المستهام
هذه الغيلان لم تُبْقِى سوى ... هيكل من جسدي مرتعد
وعظامٍ زلزلتها في الدُّجى ... سَطْوَةُ الحمىَّ التي لم تُعْهَدِ
طلَلٌ أسعى وزادي لم يعد ... غَير أشواق أضاءت معبدي
طلَلٌ أسعى وفي أركانه ... روح آمالي التي لم تُلْحَدِ
طلَلٌ مُنْتَفِضٌ يمشي وقد ... قصمَتْ أضلاعَه فأْسُ القضاء
خَرِبُ الأنحاء يستوطنه ... من معدات المنايا ألف داء
شاحب الجلد كأني مَيتٌ ... طرد اللحدُ رُفاتي في الخلاء
إن تجده العين لا تُنكره ... إنما تمطرهُ سَيْلَ بكاء!!
يَغْتَد الأحياء في قبضته ... رحمةً، لو يستَدِر الرُّحماءْ إنما يعينه قلبٌ واحدٌ ... هو في صدركِ يا نَيْلَ الرَّجاء
انظري كيف استحالت نضرتي ... صُفرة يُنكرُها حتى الفناء
غائر العينين، مَعرُوقُهما ... أطفأتْ سحرهما ريح الشقاء
أيهاَ المَاضي ألا تَعْرفُني؟ ... شَدَّ مَا أَلْقَاك قَد أنْكَرتني!
أنْتَ مني قطْعَةٌ كَفّنْتُها ... بِسِنيِني وَطَوَاهَا زمَني!
أنْتَ بُنْياَنٌ أَقَمَنا فَوْقَهُ ... حَاضِراً. . . يَا لَيَته لم يكُنِ!
حَاضِراً يَمْتَصُّ أَعْصابِي ولا ... يَنْثَني بالوَيْل يَسْتنزِفني
أَنْتَ سَيْلٌ عَارِمٌ مُنحْدَرٌ ... منْ حَيَاتَي في مَصَبَ الأَزَلِ
هَلْ لأمْوَاهِكَ أنْ تَرْتَدَّ في ... نَهْرِ عُمْرِي، مُرْجِعاتَ أوَّلى؟
ثُم هَلْ للريح أنْ تَقْتَادَني ... في اتجاهٍ غير ما قُدرَ لي!
كيْ أُوَقيك الذي حُملْتَهُ ... مِن رُكامِ النُّوبِ المُتَّصل!
أين تمضي أيُّها الماضي وفي ... أي كهفٍ تختفي باْلعُمُر؟
بعد موتي هل ستلقاني وَهَلْ ... سَوف ألقْاكَ كَميِلَ الصُّورِ؟
أمْ ستنساني وأنساكَ وما ... عُدْتَ تحيَا نَابِضاً في ذِكَرى
شَدَّ ما أرْهَبُ لُقْيَاكَ إذا ... حانَ حَيْني وانتَهى بي سَفَرِي
أنْتَ رَجْعٌ للأَغاَرِيد التي ... كُنْتُ أَسْتَودِعُها قلَبْ الزمانْ
عُدْ إلى ساحِرتَي واقْطُر بما ... فيكَ من شَجْوٍ لَدَيْهَا وهَوانْ
واحْتَفِر لي مَسلكاً في قلبها ... يحتويني مرَّةً مِنهُ الحنَانْ
أيُّها الماضي وطَهرْ كْعَبةً ... حولهَا تُعْبَدُ فيها وتُصَانْ
كم نهارٍ فيكَ أَسْتَوْقُفُه ... في هُوى الزمَنِ المُنْصِرمِ
كُنْتُ أَسْتَوْقُفه مُستَرْحماً ... أن يُعيد الكَر حَولَ الأنُجمِ
عَل في أوقاتِه لي مَوْعُداً ... تَائِهاً يُشْرى بِرُوحي ودمي
كم غُروبٍ كُنْتُ أَسْتَلُهمه ... في اجْتياحِ الهْادِرِ الُمْنصِرفِ
فَزعاً أَجْارِ في تَيَّارِه ... بضمير راعدٍ مُرْتجفِ:
أيُّها التيارُ لا تَطْرَحْ لقى ... خلفَ أنوارِكَ نَهْبَ السُّدُفِ أنني أخشى الدُّجَى، يا سُمه ... لُفِؤادِ الصب من مُغْتَرفِ!
كم مَساء كُنْتُ أَسْتَل به ... زَفْرَتي كالْخِنجَر المُنْغَرس
صُغْتُ أنفاسي بهِ أُنْشُودةً ... للْهوى رَفَّافةً كاْلقَبَسَ
كم تمَاثِيلَ بأحْضانِكَ قَدْ ... شِدتْهُا بالأمَلِ المُنْدَرسِ
شِدْتُها لِلحُب تَسَتْعبِدنُي ... وهْي مِنْ صُنْعِي سَوادَ الْغَلَسِ
كم ظلامٍ فيكَ قد مَزَّقُته ... عن صباح مُكْفَهر الْجبهِة
باعثاً طيرَ فُؤادي نحوها ... ضارعاً بالشوق يَفْرِي مُهجتي
آملاً تمنحهُ رحمتهَا ... فُيغَني فَرحاً في أيكتي!
وإذا الأيقاظ ركْبٌ هائِلٌ ... قَاصِفٌ يسخُر من أُمْنِيتَّي
كم نسيمٍ فيكَ قد حَرَّرْتُه ... من نِطَاق الْحَّيزِ المُخْتَلجِ
شَرَبْتُه أذُني واسْتَعْرَضَتْ ... ما به من همسات المُهَجِ
عَلهَّا تظفرُ في طَيَّاتِه ... بَصدًى من صوتها المُنْبِلجِ
بصدًى يُبْرقُ في رُوِحي كما ... تُبرقُ الأنوارُ فوق الثّبَجِ
كم ربيع فيكَ قد رَوَّيْتُ من ... روْضُه بالدمْع زَهْرَ الأملِ
وخريفٍ عاطفيٍ غالَ ما ... أَنبت الساقي بماءِ المُقَلِ
كم ربيع فيكَ داهمني ... بشتاءِ في ضميري مْوغِل
بَرْدُهُ يَصْطَكُّ منه قَفَصَي ... وَرَدَاه زاحفٌ في أجَلي
هكذا وَّلتْ حياتي فانظُري ... أي مَوت جَرعَتْنِيِه الحياة
أنقِذنِي قلبي ففي دقَّاتِه ... هتفاتٌ لكِ يا كلَّ مُناه!
هتفاتٌ شَقّتِ الصَّدْرَ لها ... من سِنانِ الصدْقَ حدُّ لا أراه
فاسمعيها وارحمي مُرْسِلها ... فَهْوَ يهواكِ ولو كنتِ رَداهْ!
(القاهرة)
عبد الرحمن الخميسي