مجلة الرسالة/العدد 602/على هامش النقد
مجلة الرسالة/العدد 602/على هامش النقد
2 - مليم الأكبر
بحث وقصة. . . عادل كامل
للأستاذ سيد قطب
تقدم الأستاذ عادل كامل إذن بقصته هذه التي تحدثنا عنها - على قدر الإمكان في مقال سابق إلى المجمع اللغوي، فلم تمنحها اللجنة الأدبية جائزة القصة المقررة. وقد وافقنا نحن اللجنة في قرارها على أساس أن مثل هذا الاتجاه مهما يحتمل الكاتب تبعه وحده أمام القراء مباشرة، بلا وسيط من الهيئات المسؤولة.
وعندئذ كتب المؤلف تلك المقدمة الطويلة التي بلغت مائة وثمانيا وعشرين صفحة! وكان في ذلك الخير. فقد أصبحت هذه المقدمة بحثاً مطولاً في اللغة والأدب والفن والأخلاق وصارت هي الأخرى عملاً أدبياً مستقلاً بذاته، قابلاً للنقد والجدال!
ولقد تشعبت نواحي هذا البحث، فلابد من الاختصار في مناقشتها. وتيسيرا للأمر سنسلك نفس الطريق الذي سلكه في إيرادها.
فهم الأستاذ عادل أنه كان هناك اعتراض على (مستوى) أسلوب القصة، فأخذ في بيان ما يفهمه عن الأساليب الجيدة والأساليب الرديئة فنفي أولاً بأن هناك فكرة وتعبيراً كلاهما مستقل عن الآخر، وأن هناك فكرة جيدة تعرض في أسلوب رديء.
(هذا رأي النظرة العجلى) فالفكرة لا تخطر للكاتب مجردة، بل تأتيه في صورة ألفاظ، هذه الصورة اللفظية هي أسلوبه الذي تتحكم فيه الفكرة تحكماً تاماً. لهذا فأنت لا تستطيع أن تعبر عن الخاطر عينه بطريقتين مختلفتين. فحتم أن يتغير المعنى إن اختلفت طريقة الصياغة لأن المعنى الذي يوحي به إليك كاتب ما هو خليط غير منفصل من الفكرة واللفظ
(فمن يفهم الأدب فهماً صحيحاً لا يقر بإمكان وجود موضوع جيد مكتوب بأسلوب رديء، لأنك وأن أعجبت بالموضوع، فأسلوب الكاتب وألفاظه هما اللذان أوحيا إليك بالإعجاب، فهما الصلة الوحيدة بينه وبينك.
(ثمة فكرة جميلة سرت إلى نفسك، وأنت تطالع كتاباً كيف يتم هذا! عن طريق لفظ وفي صورة لفظ. فحتم إذن أن يكون الجمال في اللفظ إذ لو كان الأسلوب رديئاً لما وصلتك الفكرة الجميلة)
وهذا كلام جيد. ونحن نوافق عليه بنصه وفصه. لا بل أنا قد كتبته منذ أشهر في فصل من فصول كتابي (التصوير الفني في القرآن) الذي يطبع الآن. . .
ولكن من الحق أن نرجع الفضل إلى أهله. فلست أنا ولا الأستاذ عادل، ولا النقاد الحديثون في أوربا هم أول من خطرت لهم الفكرة على هذا النحو كما يقرر هنالك رجال ممن كتبوا عن (البلاغة) منذ مئات الأعوام قد اهتدى إلى هذه الحقيقة؛ ولقد عبرت عن هذه الحقيقة في كتابي على النحو التالي
(إنا لنحسب إن (عبد القاهر) قد وصل في مشكلة اللفظ والمعنى إلى رأي حاسم حين انتهى في (دلائل الإعجاز) إلى أن اللفظ وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو لفظ، إنما من حيث دلالته على المعنى. وأن المعنى لا يتناوله البحث من حيث هو خاطر في الذهن، ولكن من حيث أنه ممثل في نظم. وأن المعنى مقيد في وجوده بالنظم الذي يؤدي به، فلا يمكن أن يختلف النظمان ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد.
(لم يصغ عبد القاهر القضية هذه الصياغة فنحن نترجم عنه باختصار، وإلا فقد استغرق فيها كتاباً كاملاً لا نستطيع نقله هنا، ولا نقل فقرات منه بذلك الأسلوب المعقد الذي لا ينسق مع كتاب عن (التصوير الفني في القرآن)!
(ولكن (عبد القاهر) له فضله العظيم في تقرير هذه القضية. ولو خطا خطوة واحدة في التعبير الحاسم عنها لبلغ الذروة في النقد الفني. فنقول عنه: أن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى. وأنه حيثما اختلفت طريقة التعبير عن المعنى الواحد اختلفت صورة هذا المعنى في النفس والذهن. وبذلك تربط المعاني وطرق الأداء ربطاً لا يجوز الحديث بعده عن المعاني والألفاظ كل على انفراد. فلن يبرز المعنى الواحد ألا في صورة واحدة، فإذا اختلف المعنى بقدر اختلافها. وقد يتأثر المعنى العام في ذاته، ولكن صورته في النفس والذهن تختلف، وهي المعول عليها في الفن، إذ التعبير للتأثير، فإذا اختلف الأثر الناشئ عنه، فالمعنى مختلف بلا مراء!)
هذا ما كتبته يومذاك. وفيه إقرار بالفضل للمفكر الأول، مهما يكن في عرضه للرأي من تقصير، ذلك أنه يطالب بالكمال في ذلك الزمن البعيد
ثم يستطرد المؤلف إلى أن اللفظ قد أستبد بالأدب العربي وأن آداب اللغة العربية جميعها آداب لفظية، وشيء كثير من هذا صحيح. هو صحيح بالقياس إلى النثر العربي بلا جدال. أما بالقياس إلى الشعر فالأمر قد يختلف. ذلك أن الشعر على ما فيه من عيوب تعرضت لها في مقالين قريبين بالرسالة واقتبس منهما الأستاذ عادل في الاستشهاد على هذا الرأي بعض الفقرات - أقول على الرغم من ذلك فإنه لم يخل من القليل الجيد الحي المعبر عن الحالات النفسية والخلجات الطبيعية، التي تبرز فيه من وراء الألفاظ حتى لتتواري هذه الألفاظ، والمجال لا يتسع هنا لضرب الأمثال، فأنا معجل عنها إلى قضية أخرى تعرض لها الأستاذ عادل تعرضاً لم يرض الكثيرين وذلك حين يقول:
(ولعل ما يلقي بعض الضوء على سر استبداد اللفظ بأدباء العرب ما قاله (موم) بصدد الأسلوب الأدبي في أمريكا. فقي رأيه أن هذا الأسلوب الذي تستمد معظم مقوماته من لغة الجمهور الحية يعتبر - في نماذجه الجديدة - أكثر أصالة وحيوية من أسلوب الكتاب الإنجليز. وهو يرجع علة ذلك إلى أن الكتاب الأمريكيين نجوا من استعباد الترجمة الإنجليزية للتوراة التي وضعت في عصر الملك جيمس) كما أنهم كانوا أقل تأثراً (بالأساتذة) الإنجليز القدماء. والحق إن تحكم كتاب بعينه في أدب شعب من الشعوب - ومثله تقديس كاتب أو نخبة من الكتاب - معناه منع هذا الأدب من النمو والتطور، والوقوف به عند حد معين لا يتعداه إلا بالثورة والثورة تصلح ولكنها تحطم وتفسد في نفس الوقت. ومع ذلك فقد تصبح في بعض الأحيان شراً لابد منه)
فهم بعض إخواننا من هذه الفقرات أنه يشير إلى أسلوب (القرآن) وتحكمه في نمو الأدب العربي وغبوا لهذا الفهم جداً. . .
وأنا أحب أن أعرض للمسألة على هذا الوجه، وأن أحكم الحس الديني في مسألة أدبية
أن هذا الواقعة غير صحيحة في ذاتها ومن أساسها بالقياس إلى الأدب العربي وعكسها هو الصحيح. والأمر الذي اهتديت إليه في كتابي الذي مر ذكره، قد يبدو عجيباً لأول وهلة.
إنني أزعم أن الأدب العربي لم يستفد بعد من أسلوب القرآن طوال هذه الأربعة عشر قرناً من الزمان! بله تحكم هذا الأسلوب في نموه! لقد بقى القرآن مجهولاً - من مناحية الفنية - طوال هذه القرون من العرب وغير لعرب على السواء. في الوقت الذي نضج البحث فيه عن النواحي التشريعية والاجتماعية والتاريخية واللغوية. . .
أن سر التعبير القرآني قد بقي مغلقاً فلم يتأثر به الأدب العربي في صميمه مجرد تأثر. هناك اقتباسات ومحاكاة لفظية، ولكن الطريقة والاتجاه قد بقيا سراً مغلقاً إلى الآن، ولو قدر للأدب أن يستقي من هذا المعين لمكان اليوم غير ما كان. . .
إن عيب الأدب العربي الأول - كما قلت في مقالي بالرسالة - أنه ضئيل الحظ من الصور والضلال، وأن الذي يغلب عليه هو المعاني الذهنية والحسية، والتعبيرات المباشرة التي لا تلقى ظلاً ولا تشع حياة. وهو في هذا نقيض الأسلوب القرآني الذي يجعل الصور والظلال قاعدة في التعبير، والذي يحيل المعاني المجردة والحالات النفسية صوراً ومشاهد وظلالاً. كما يحيل كل جامد في الطبيعة شخوصاً حية وكل مشهد من مشاهدها جديد كأنما تراه العين أول مرة والذي يصور المعاني الذهنية كما تبدو من خلال نفس حية. . . وهذا ما ينقص الأدب ليبلغ مداه.
ولن أستطيع هنا ضرب الأمثلة، ولأسرد بحث قد أستغرق مني أكثر من مائتي صفحة. ولكنني أستطيع أن أجزم بعد الاستقراء الممكن للشعر العربي أنه لم يستق من معين القرآن. فقد تحكمت فيه - مع الأسف - تقاليد الشعر الجاهلي فترة طويلة بعد وجود القرآن، ثم تحكمت فيه المباحث الفلسفية والذهنية منذ القرن الثالث بل قبل ذلك، فصار في معظمه أدباً حسياً ثم أدباً ذهنياً، وقلت فيه الصور والظلال لأنه أبعد عن معين الصور والظلال. فإذا آن له اليوم أن ترجع إلى هذا المعين، فسيجد فيه الزاد الكثير!. . . إذا كان تحكم كتاب بعينه في الأدب الإنجليزي قد عوق نموه فأننا كنا نتمنى تحكم كتاب بعينه في الأدب العربي ليدفع به إلى الأمام.
وعلى كثرة ما أجاد الأستاذ عادل وهو يتحدث عن عيوب الأساليب العربية في النثر، وعن الحسية والذهنية في الشعر، وعن القصور المعيب في قواعد النقد، فقد كان اندفاعه العنيف في هذا المجال سبباً في تجاوز القصد، ومجانية الصواب في بعض الأحيان، إننا نتفق معه في وجوب أن تملك نحن اللغة ولا ندعها تملكنا بأساليبها التقليدية، وكل ما ذكره في هذا الصدد بالغ غاية الجودة، ولكنه حين يتجاوز هذه المنطقة بأخذ في الغلو.
يقول مرة: (موضوعات الشعر العربي - فيما عدا الغزل - هي الحكم والفلسفة، ثم النقد في صورة هجاء والوعض في صورة المديح فإذا تركنا الغزل جانباً وجدنا أن هذه الأغراض جميعاً أجنبية عن الشعر، لا بوصفه نظماً ولكن بوصفه أداة تعتمد على إثارة الخيال. .)
وفي هذا الكلام غلظة أساسية. فليس هناك موضوع للشعر وموضوع للنثر. إنما العبرة بطريقة تناول الموضوع. ففي بعض حكم المتنبي مثلاً شعر أصيل ينبعث من نفس حية ويوحي بشتى الانفعالات، وفي هجاء أبن الرومي صور فنية بارعة مليئة بالحياة، وفي بعض الوصف للبحتري إيحاءات وظلال شاعرية. . وهكذا.
فمن الخير أن ننظر في الفن دائماً إلى طريقة تناول الموضوع لا إلى ذات الموضوع. فكل موضوع قابل للفن وقابل للعلم وقابل للفلسفة على نحو من الأنحاء.
ورأي آخر في الشعر الغنائي. . فأنني أرى بيننا فتنة لا تنتهي بالشعر القصصي والشعر الروائي. وأنا أزعم أن الأصل في الشعر هو الغناء. الغناء الذاتي الفردي. وأنه حين يتجاوز هذه المنطقة يكاد يتعدى خير مجالاته. وأنه إذا كان الشعر القصصي أو الروائي قد راج في حقب من الزمان، فإنه الآن غير قابل للحياة ألا بمعجزة، وأنه أن للشعر أن يرتد غناء، وغناء فحسب!
أن الشعر العربي لم يتخلف لأنه غناء، ولكن لأنه لم يكن غناء حقاً! فلم يعرف كيف يغني فينطلق من قيود الحس والذهن إلا في القليل منه، وهذا هو اخلد قسم فيه.
ونحن لا نوافق رأي أرسطو الذي يستشهد به الأستاذ عادل: (إن على الشاعر أن يتحدث عن نفسه اقل حديث ممكن وإلا فهو ليس بالمصور والمحاكي للأعمال الرجال كما يفترض فيه)
فلأرسطو أن يقول في هذا ما يشاء. فنقول له: كلا! عن على الشاعر أن يتحدث عن نفسه اكثر حديث ممكن، وله، أولاً يلفت مرة واحدة إلى سواه!
ولدينا مباحث كثيرة قد أثارها الأستاذ عادل عن الطبيعة اللغة العربية وعيوبها الذاتية كلغة، والخلاف بيننا وبينه طويل في هذه المباحث، وإن وافقناه في الكثير منها، فنحن لا نرى النقص في صميم اللغة، ولكن في أساليبها، والأسلوب من يصنع الأدباء وعليهم وحدهم أن يطوعوه. وعلى كل حال فنحن لا نجد الفراغ الكافي للجدل حول هذه المباحث، لأننا نريد أن نعرض لنقطة أخيرة.
تلك هي مسألة الأخلاق، ومسألة الكتابة عن العظماء، وبينها نوع من الارتباط، ولا نحب أن نطيل القول في هذا المجال فلنرجع به إلى قاعدة محدودة.
أمن الخير للإنسانية أن تنطلق من غرائزها وشهواتها - بلا ضابط ولا قيود - أم من الخير للإنسانية أن تكون هناك كوابح وزواجر في صورة من الصور؟
وبتعبير آخر: أمن الخير للإنسانية أن تظل خاضعة للشهوات. أم من الخير للإنسانية أن تتحرر من هذا الضرورات - ولو بتسامي والتصعيد إذا كانت لم تبلغ حتى اليوم درجة التحرر التام؟
أما نحن فلا نتردد في اختيار الوضع الأخير. وأما الأستاذ عادل فيجعل (جماعة القلعة) في قصته يرون الخير كله في إباحة كل محرم، وفي انطلاق من جميع القيود الأخلاقية، للوقوع في جميع القيود الغريزية!
وهذا هو مفرق الطريق!
ثم إنه ينكر على بعض كبار الأدباء عندنا، ويستشهد في إنكار هذا برأي للدكتور مندور! أن يكتبوا عن محمد وأبي بكر وعمر وعلي. لماذا؟ لأنهم عظماء! وكان الواجب أن يكتبوا عن (رجل الشارع)!
لكان العظمة جريمة يعاقب عليها أصحابها بالإهمال!
أن رجل الشارع ليستحق الحديث، نعم، ولكن العظيم يستحقه - على الأقل كرجل الشارع - والأدب مكلف أن يتحدث عمن يحسن الحديث عنه، من هؤلاء أو من هؤلاء، وكل تحكم في اتجاهه إنما هو مجاوزة للحق ومجنبة الصواب.
وبعد فليس ما ناقشته هنا إلا جانباً ضئيلاً مما طرقه المؤلف من مباحث، وحسبه أن يثيرنا للرد أو الموافقة، فهذا أو ذاك نجاح ولاشك للكاتب.
سيد قطب