مجلة الرسالة/العدد 602/شهيد كربلاء!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 602/شهيد كربلاء!

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1945



(بقية المنشور في العدد الماضي)

للأستاذ محمود الخفيف

ويومٍ من الدَّمِ إصباحُه=علَى الأُفْق ذائُبه الأْحُمر

به صُور الهْولِ قبل الوقوع ... كأنَّ السماء بها تُنْذرُ

كأنَّ الرُّدى شَبحٌ ماثلٌ ... إليه قُلوبُهم تَنْظُر

من الحَر تُشوَى الوجوهُ ضُحىً ... كأنَّ الجحِيم بهِ تَزْفُر

بَيْمينِة الصَّف قَامَ زُهَيْرُ ... وقَام حبيبٌ عَلَى المْيَسرة

تَغَلَغلَ في كُل نَفْسٍ يقينٌ ... تُلاقي بهِ الموتَ مستبِشرَه

وَكْمَ من كَمى ترى وَجْهُه ... فَتُبْصر في وجْهه قَسْوَره

مِنَ الجِد تَعْبَسُ تلك الوُجوه ... ومما ارتَضَتْهُ تُرى مُسِفره

وهذا الْحَسْيُن فَتى هَاشمٍ ... بقَبْضَتِه سَيْقُه مُنْتَضى

تلألأ في الصف وَْجُه الُحْسَيْن ... كَصارِمِه الغَضْبِ إذ أَوْمضا

مَخَايُل في وجِهه من أبيِه ... علَى إمامِ الهُدى المُرْتَضى

يُسَوى الُكماة ويدعو الرُّماةَ ... وَيخضعُ لله فيما قضى

به غُلةٌ والفُراتُ الدَّفوقُ ... على قَابِ قَوْسَين أو أَقْربُ

تُلألىءُ شْمسُ الضحَى ماءهُ ... فلولاؤه للحشَا مُلهبُ

وقد أضرمَ الحُّر أنَفَاسهُ ... ونارُ الوغى حَوْلهُ تَصْخَبُ

يظلُّ على قَرنِ شَيْطانها ... نذيرٌ بأهْوالها ينعبُ

أبوُه عَلَى الحوضِ يسقى العِطاشَ ... إذا الحْشرُ عجَّ بهم وأضطرَمْ

فيَا وُيحهْم يمنعون الحسينَ ... من الماءِ وهْوَ لديهم عَمَمْ

وكم بلَّ غُلةٌ ذي غُلةٍ ... حُسَيْنُ وكم كَانَ عَينَ الكرمْ

حياً في الجدوبِ سني في القُطوبِ ... حمًى في الخطوب غًنى في العدمْ

يُعالجُ كَل فَتَى سَيْفَهُ ... وقد شَهد ألا كثيرين نفاراً

تَنادوْا وقد أحْدَقوا بالظماءِ ... إذا التفَتَوا يمنةً أو يسَاراً وَكَم ظامِئ بينَ تلك الخيامِ ... إلى الرَّوعِ هز الُحسامَ اضْطراراً

لهيفٍ إلى الماء وهْوَ الذي ... بكل وغًى من يُطبق اصطبارا

عَلَى فَرس زافرٍ باللهيبِ ... دعُاهم وفي يدِه مُصْحَف

أصيحوا فإني لكم ُمْنذرٌ ... ألم يأنِ يا قَوْمُ أنْ تُنصِفوا

لئن كانَ سَفْكُ دمي همكُمْ ... فأعفوا العطاشَ هنا وارأفوا

أمامكم الظمأُ المستحِر ... ضُحَى الحَشْرِ إذ يْعُظمُ الموقفُ

ألسْتُ ابنَ فاطمةٍ ويحكْم ... أجيبوا ألسْتُ ابنَ بنْت النِبي؟

أفيقوا أتْنَسون أنَّ أبي ... علىُّ وحَمْزةَ عمُّ أبي؟

وَجَعْفَرُ من كان يُدْعي بذي الج ... ناحْينَ عمى فَتَى يعرُب؟

حذَارِ لكُم أن ترُيقوا دمي ... فساء لكْم ذَاك منْ مَطْلبِ

وشقَّ الفضاء صُراخُ النساءِ ... فطنَّ لقُربِ المصاب الجللْ

لقد أحْدقتَ قَارعاتُ الخطوبِ ... فَما مَسَّه وهنُ أو وجلْ

تعاظمهُ أمرُ هذا الصُّراخ ... فَمادَ من الُحْزَن ذاك الجبلْ

تَخاذلَ عَزْمُ لهُ صارمٌ ... وخارَ. . . فوارحمتا للبطلْ!

وعاد الحسينُ ينادي العدو ... أثارٌ دعاكم لهذا العِداء؟

كرهْتُ لكْم أن تَشُدوُّا علينا ... جُموعاً، وأن تبطشوا بالنساءِ

لئن كان بيني وبين امرئ ... دمٌ فَلْيُجب بعد هذا النداء

عَجِبتُ! ألم يَدْعُني قومكْم ... إليهم ففيم اسأتمْ لقائي؟

وقال له قائلٌ منهُمو ... إذا رُمْتَ أمناً فبايعْ يزيدا

مقالةُ مُستهزئ شامتٍ ... يُمنى بوعدٍ ويُخفى وعِيدا

ورَد الحسينُ: أباتَ الكرامُ ... بنو هاشمٍ صاغرين عبيدا؟

دعَوْتُ ولكن أراكْم ضلَلَتْم ... بما تطلبون ضلالاً بعيدا

تَداعْوا إلى الطَّعنِ لكنما ... تَخَلف عن جَمْعِهمْ بَاسِلُ

مَشى في ثلاثين من جُنده ... أماثلُ ما فيهُمو ناكلُ

فوارسُ خَبثْ بهم خيلهمْ ... وفيهم أخو الرُّمحِ والنَّابلُ أصاخوا لقَولِ الُحسين كما ... يُفيقُ من الغَفلةِ الغافلُ

هو الُّحر ثارتْ به نخوةٌ ... فَهز بها بعض فرُسانِه

فأقبل مُعْتَذراً للحسين ... ومنْ حَوْلِه خيرُ أقرانِه

يقولُ بريء أنَا من يزيدَ ... وآل يزيدَ وأعوانِه

تجبر شيطانُه ابن زيادٍ ... فَسُحقاً له ولشيطانهِ

وصَاح: ألا يَا خُصوم الحسينِ ... لأَمكُمو يا لئامُ الهبلْ

أهذا الفراتُ حرامٌ عليه ... حلالٌ لكل لهيفٍ نزلْ؟

تعبُّ الخنازيرُ منه وما ... يُرى نابحٌ غلَّ إلا نهلْ

وتَنْهَلُ منه سباعُ الفلاَ ... ويصرعُ آل الحسين الغللْ؟

لك الويلُ ياابن زيادٍ ويا سوءَ ما أنت ماضٍ له يا عُمر

غداً يا بن ذي الجوْشن أصلَ الجحيم ... فأنْتَ وقودٌ لها يا شْمر

حَلْفتُ لأقتْحَمِن الحتوفَ ... وما كنتُ فيها امْرَءا ذا خورْ

فإن أنَا متُّ فداَء الحسينِ ... ففي جنةٍ مقْعَدِي ونهرْ

وغيظ العُدو فشدوا صُفوفاً=ففي زحفهمْ غلطةٌ واحتدامُ

فوا عجباً زلزلتْ جَمْعَهُم ... من القِلة الظامئينِ سهامُ

وشاءوا مُبارزةً فاثبري ... لهم مِنْ فريق الحسين عصامُ

فجْندلَ من جمعهم فارسَيْنِ ... وفي السيف والقلب منْهم ضرامُ

وطالتْ مُبارزةٌ بينهمْ ... فَكَرَّاتهُم كلها خاسِرَة

فما الَتَقتِ الخيلُ إلا جَرَتْ ... بفرسانها خيلهم ناَفِره

كأنَّ الحسينَ وأصحابهُ ... ضَرَاغِمُ مُهتاجةٌ زائره

كرامٌ على قلةٍ صابرونَ ... بدُنيا هُمو اشْتَروا الآخره

وخافَ المَبارَزةَ الأكْثرونَ ... فشدُّوا على الظَّامئينَ صُفوفاً

فَكَمْ كرةٍ ردَّها صَفْهُم ... ومَا وَهَنوا حينَ خاضو الحتوفاَ

وظلَّ الحسينُ لَهْمُ داعياً ... عطوفاً على المنهكينَ رؤوفاً

وحسهمو ما بهم من أوامٍ ... فكيفَ وهُمْ يَدَْفُعون الألوفَا فواجعُ تَغْشَى صميم الفُؤاد ... وللدم رائحةٌ تُنْشَقُ

وأولُ ما خرَّ منهمْ شهيدٌ ... وجَمْعُ العدُو بهم مُحْدقُ

دَعَا للحُسينِ وأوصَى بهِ ... وَجَفْنَيْه كفُّ الرَّدى تُطبقُ

وبشرهُ صَحْبُه بالنعِيم ... فهشَّ لهُمْ وجْهُه المُشرقُ

بَمْيَسرة الجيش شدَّ الدعىُّ أبنُ ذي الجوشن المستطيلُ الأثيمُ

دَنَتْ خيلهُ مِنْ مكانِ الحُسينِ ... فآذاهُ لولا كفاحٌ عظيمُ

وزُحزحَ بعد اقتتالٍ مريرٍ ... ودون الُحسين جهادٌ صريمُ

تكاثلَ من حَوْلِه الذائدون ... فخيلٌ تَشُدُّ وَخَيلُ تَحُومُ

طغَى وتمادى ابن ذي الجوْشنِ ... فكلُّ حًمى عندهُ مُسْتَباحُ

تصدَّى ليحرِقَ تلك الخيامَ ... وكَمْ ملأ السمعَ منها نُواحُ

ولولا فَتى عير ابن الدَّعى ... لمَا عفَّ وهو السَّفيهُ الوَقاحُ

دعا بالرُّماةِ فَخَفَتْ إليه ... مئاتٌ غلاظٌ تشدُّ القسيا

بها عقرُوا خيْلَ صَحْب الحسِين ... فلم يذروا دانياً أوْ قصَّيا

هَوَى الُحرُّ مُرتجَزاً هَاتِفاً ... أنَا الُحر مَا كُنْتُ إلا الأبَّيا

فإن تَعُقروا فَرَسِي لن أذلَّ ... سَأقْتَلُ دون الُحسيِن رَضيَّا

وَشدَّ زُهيْرُ وَجُنَّ القتالُ ... وزُلزلتْ الأرضُ زلزْالها

وأوْمَضتِ البيضُ تَحْتَ الغُبارِ ... وردَّدتِ الخيل تَصهالهَا

تَهَزأ كُلُّ فَتى بالحتوفِ ... فحاضَ هنالك أَهْوالها

وَرُد الأثيمُ على رَغْمهِ ... وقدْ هَاجَتِ الحَربُ أبْطالها

وكرَّ حبيبُ على ألاكثرينَ ... وكر أباةٌ شدادٌ مَعَهْ

فَقَاتَل فيهم إلى أنْ رَمَاهْ ... عدوٌ بسَهْمٍ لهُ أوْقَعَه

فهبَّ فعاجلهُ آخرُ ... بَسْيفِ فأوردهُ مَصْرَعه

وكَمْ هدَّ هذا المصابَ الحُسينَ ... وأسْبلَ من حَزَنِ أدمُعه

يقول: لقدْ جَل فيه المصابُ ... فَنَفْسي منْ ساعَتي أَحْتَسب

فشقَّ على الحر قوْل الحُسينِ ... وهيجهُ دمعه المُنسكِب فأقبل مُرتجزاً مُنشداً ... سألقى الردى عَنْك إذْ يقتْرَب

وأضربُ دونكَ لا أستطارُ ... ولا أستكينُ ولا أنقلِبْ

وَمَا لبثَ الحُر إلا قليلا ... يخوض الختوفَ وَيَستْقَيلُ

فَخَيلٌ تُحَمْحمُ مُرتدةً ... وأُخْرى تَصَدى له تصهلُ

وقَدْ شدَّ جمعٌ كبيرٌ عليه ... ودارَ به وَهْو مُستْبِسلُ

هَوى جَسَداً لا حراك بهِ ... يُعممهُ الدَّم والقَسْطلُ

وَجَاهَد فيهمْ زُهيْرُ وشدَّ ... فكانَ القويَّ الجليدَ الفتَّيا

يقول: فَدْيتكُ أقدمْ حُسَيْنُ ... غداً تلقَ جدك طه النبَّيا

وتلْقَ أباكَ الإمَام الوضئَ ال ... تقي النقَّي النَّجيد عليَّا

وَسبطَ الرسُولِ أخاك وذا ال ... جناحَيْن زينَ الشبابِ الكمَّيا

فما زَال يَضْرِبُ دونَ الُحسينِ ... وَمُذ خَاضَ هَول الوغى ما اسْتَراحاً

تحدى الحتوفَ وقدَّ الصفوفَ ... وردَّ السيوف وَصَد الرماحَا

أحاط بِه مُثْخَناً فارسان ... فما كان إلا أشدَّ كفاحاً

وما ماتَ حتى بدا عاجزاً ... من النزفِ عَن أن يَهُز السلاحا

تفانَي الرجالُ وقلَّ النصيرُ ... فما للْمُكاثر لمْ يَرْجع؟

ولبسوا إن خرَّ مِنهُم كثيرٌ ... يُحسونَ بالنقصِ في موضعِ

ويَشعر بالنَّقص جُند الحُسينِ ... إذا ما شهيدُ إليهِ نُعى

ألا كَمْ تَهَاووا لديِه تباعاً ... وفي الجو وقدٌ وفى الأضْلُع

بقيتهم حوله يَدْفَعونَ ... مُشاةً فما فيهمو فارسُ

وماتوا لدْيه فرادى ومثنى ... وكلٌّ لفُسطاتِه حَارسُ

تكاثَر صَوْبَ الُحسينِ الَعدُو ... إلى أن تَصَدى لَهُمْ عابِس

فذاق الرَّدى زاحِفاً وَحْدَه ... وكلُّ فَتى باسِمه هَاِمسُ

يَدُ الموت لم تُبقِ من صحبهِ ... كميا، وَهْولُ الوغى فاجعُ

تَقَدمَ أخْوتُه يدفعون ... وما للقضا منهمو دافع

وأبناء أعْمامِه حُومٌ ... يذودون وَهْوَ لهم دامعُ يلاقون بين يديه المنون ... أباةً فما فيهمو جازِع

فواحسرتا كم رمى الباطشون ... من الأفْرُعِ الشم من هاشمٍ

وَوالَهْفَتا إذا ينادي علىُّ ... أبي وهو بين يدي غاشِم

فَيَسْعى إليه أبوه الحُسينُ ... وليس من الموتِ من عاصِم

وَتصَرُخ زَينْبُ: يا بن أخي ... وتحنو على البطلِ النائِم

بكيت لأمْردُ جرَّ الحُسَامَ ... وَحيداً يُنافحُ عن عمهِ

غُلامٌ كما أعتدلَ السْمهَريُّ ... وَعَزمُ المهَّند من عَزمِه

فَتى دِرْعُه البأسُ لمْ يدَّرع ... بغَيِر الإزار على جِسمِه

هو القاسمُ ابن أخيه الإمام ... بَقيةُ مَنْ خَر من قومِهِ

فيا هولَ مَصْرَعه إذا أحاطت ... بهِ الخيلُ وَهْوَ لها صَامدُ

فيهتِف: عماه مُسْتَصرخاً ... ويهَوِى وقَدْ شَجهُ مَارد

برجْليِه يَفْحَصُ مَّما به ... وَبَينَ العِدا عَمهُ جاهدُ

على صدرِه أحتمل ابن أخيه ... ولكُنه جَسَدٌ هامِدُ

وأعيا على الباب فُسْطاطِه ... يضُم صبيا إلى صدْرِه

فبينا يشمُّ الحُسينُ ابنه ... ويوصي بهِ وَهْوَ في حجْرِه

بَسْهمٍ تصيدهُ قانصٌ ... ففار بهِ الدمُ من بحِره

تلقى دم الطفْل مُستَسلماً ... لما قدَّر الله مِنْ أمرِه

وجاءتْ له امرأةٌ خلسة ... بماء وَهُمْ حولهُ حُومُ

فما كادَ يَشربُ حتى رَماه ... بَسْهمٍ أخو خسةٍ مُجْرم

أصابَ بهِ الوغْدُ شدْقُ الُحَسين ... ففار علي الماء مِنْهُ الدمُ

دَعا ربهُ: رَب خُذْ ظالمِي ... فأنْتَ بما ظَلُموا أعْلَم

ألحَّتْ على البطل النائباتُ ... فمن لوحيدٍ ذوي. . . مَنْ له؟

تَوقَد من ظَمأ جوْفه ... وأصحابه رممٌ حوْلهُ

وَجَمعُ العَدُو محيطٌ به ... وإنْ خافَ كلُّ امرئ قَتلهُ

تهَيب أن يْقُتلوا ابن النبي ... شياطينُ كم بطشوا قَبْلهُ وظل يحرصُ أصْحَابه ... أضل العدا شمرُ الفاجرُ

وهونَ قَتْلَ الحسينِ فشدُّوا ... عليه وليس لهم زاجرُ

فهبَّ وصمصامه مصلتٌ ... كما وثَبَ الضَّغيم الثائرُ

فكَمْ كرةٍ هدَّها بأسُه ... وزلزلها عَزْمُه الصابرُ

ألحُّوا على البطل المستَميت ... فشدُّوا شمالاً وشدُّوا يميناً

يقوم ويكبوا وهم يضربون ... وتأبى عريكتهُ أن تلينا

إلى أن هوى مثخناً بالجراح ... على وجهه سمةُ الصابرينا

الخفيف