مجلة الرسالة/العدد 601/شهيد كربلاء
مجلة الرسالة/العدد 601/شهيد كربلاء
للأستاذ محمود الخفيف
خَفَضْتُ اليراعَ لذكِرى الشْهيدِ ... وأشْفَقَتُ مِنْ ذلك المطْلَبِ
وَحَيَّرَ شِعْريَ هذا الجَلاَلُ ... فَهَلْ من سَبيلٍ إلى مأْرَبي؟
لِذكْرَى الُحْسَيْنِ خَفَضْت اليراعُ ... وأَكْبَرْتُ ذِكْراهُ مِنْ مَلْعَبي
لِذكرْىَ الأبىِ النّجيِد الفَتى ... الكَرِيمِ الزَّكِي ابنِ بنْتِ النْبي
هَلال المحرمِ، لَوْنُ السَّماء ... على جَانَبْيِك خياَلُ الدَّمِ
تَرَقْرَق في الأُفْقِ هذا النْجيُع ... وأَلْقَى الخِضَابَ على الأَنْجُمِ
وَجر عليه السَّوَادَ الدُّجى ... فَبَات به الأُفْق في مأْنَم
طيوفٌ تَرَددُ في خَاطرِي ... لكل معَاني الأسَى تَنتَمِي
خَيَالٌ يَؤَرقُني في الدُّجى ... وأصْحو الغَداةَ على ذِكرهِ
تَفِيضُ له أدْمُعي الغالياتُ ... ويَذْهَل قَلْبِي عن صَبْرهِ
وإني لَجلدٌ أقُل الخُطوبَ ... بِعَزْمٍ تَخَاذلُ عن قَهْرهِ
وأَحْبسُ دَمْعي فكَمْ داهَمَتْني ... صُروفُ الزَّمانِ فلمْ أُجِرهِ
فَتَى هاشمٍ يَا غليلي له ... جَرَى دَمُه أنْهراً وانتثر
وقُطعَ كالشاةِ سِبْطُ الرَّسُول ... وبَشَّرَ قاتِلُه وافْتَخَرْ
وهَاَمُته مثل رأسِ الجُزورِ ... على كف جَازرهِ تُنْتَهَرْ
عَلى فَمِه قُبلاَتُ النبِي ... وفي مْحَجَريْه الرضا بالقَدرْ
عَلى الدَّهرِ رُزءٌ لعمري جديدٌ ... وإنْ قَدُمَ الَعْهُد بالواقعةْ
غليِلي له وقْدَةُ في حَشَاي ... وَعْيَنايَ كالمُزْنِة الهَامِعَه
قَليلٌ له مَا تُريقُ الجفونُ ... وَمَا تَحْمِلُ الأنْفُس الجازِعَةْ
دَعَوْتُ القَريضَ فَحَارَ القَرِيضُ ... وَحارَتْ يراعَتَي الخاِشعَةْ
تئسَّ وهَات حَديثَ الشْهيدِ ... حَبيسَ الدُّموع كَظيمَ الألَمْ
فَما في البطولاَتِ يحلو البكاءُ ... وَلكنْ معَاَني الفِدا والشَّمَمْ
سَتُطْوى العُصُور وذِكْرَى الُحَسْينِ ... على الدَّهْرِ تَخْفِقُ خَفْقَ الَعلمْ إمامُ الُهدَى زِيَنُة المّتقِين ... مَنارُ الْحِجازِ الَعلُّي الشيَمْ
مَناَطُ الِخلاَفَة مِنْ هَاشمٍ ... دَعَا باْسِمِه نَفرُ بالعِراقِ
أبَوْا أنْ يطيعوا يَزيدَ وقالوا ... أُميَّةُ في النّاسِ أصْلُ الشقاقِ
ألم يَدْعُ في الشَّامِ جَهْراً أبوه ... إلى فْتَنٍة بَعْدَ سُوء احْتلاَق؟
ولما نالَ ما نالهُ مِن عَلي ... يَغْيرِ الأذى والخنى والغفاقِ!
ولما قَضَى نَحْبُه غِيلةً ... عليٌّ وطَاحَ الردَى باَلحْسَنْ
وسَاسَ مُعاَويةُ المسلِمِينَ ... تَكشَّفَ من أمِرِهِ ما بَطن
فأَنْكر في الُحْكَم شُورَى الأمُورِ ... ودَلَّ بِسلْطانِه وافْتتَنْ
وَمَهَّد مِنْ بَعْدِهِ لاْبِنِه ... فَنَالَ الُعهودَ بكل ثَمنْ
وبَات عَلى الضغنِ أهْلُ الحجازِ ... يُسُّرونَ سُخْطاً عَلى الظَّالم
فَلْلَمَوْتُ أَيْسَرُ مِنْ طاعَةٍ ... لَسْيفِ مُعاويةَ الغَاشم
أُبَاهٌ فَما عَرَفوا زُلفَةً ... ولا رَهَبوا سَطْوَةَ الحاكمِ
يَرَوْنَ الخلاَفَةَ شورَى فَفي ... أمَية بالرَّأي أو هَاشمٍ
دَعَاهُ إلى الكوفَةِ الثائِرون ... يقولونَ أنَّا عصينا يَزيدا
نَرَى في تَرديِه بُرْدَ النبِي ... عَلى المسْلمِينَ بَلاءً جَدِيدا
مِنَ العُصْبَة الباطِشينَ الغِلاظِ ... إلى الجْورِ يْحمِلُ قلباً حَدِيداً
إمامٌ لنا؟ ساَء هذا إماماً ... يرى النّاسَ إلا ذويهِ عبيدا
إمامٌ لنا في مَكانِ الُحْسَيْنِ ... يقومُ عَلَى الأمْرَ دُنيا ودِينا؟
فأيْنَ من النَّجمِ بَعْضُ الحصى ... وما كانَ إلا التُّرابَ المهينا
وهَلْ كابْنَ فاطمةً في الرجالِ ... إذا قُلبَ الطَّرْفُ في المسلمينا؟
أشدُّ الرجالِ يَداً في الجهادِ ... وأَضْوأُهم في المصَلى جَبِينا
إلينا. . . إلينا؟، فَتَى هَاشمٍ ... إلينا فَلَيْسَ سِواكَ الهُدَى
سَنَهْزَأُ إنْ جِئتنا بالخطوبِ ... ونَضْربُ حتَّى يخافَ الرَّدى
وَيْفديكَ آلافنا الدَّارِعون ... وهَلْ ثم غَيْرُكَ منْ يُفْتدي؟
ويَفْزَعُ خَصْمُك يابن الإمامِ ... ويطَّرحُ الخْوفَ مَنْ أبدا وَلبَّى الُحْسَيْنُ ومَا مِثْلُه ... إذا همَّ بالعَوْنِ من يَسْتَريبُ
لهُ هَّمِةُ إن تَداعَي الرجالُ ... وسَبْقٌ إلى المَكْرُماتِ عجيبُ
إذا اسْتَصْرخ الَحْقُّ يَوْماً بهِ ... فكلُّ عَناَء إليهِ حَبيبُ
وما كانَ عَنْ نَزَقٍ إذ أجابَ ... ولكنهُ الشَّمَمُ المْسَتجيبُ
وكائِنْ بمكةً مِنْ ناصِح ... يُعذبهُ أنَّهُ راحلُ
يظُّنون شراً بأهْلِ العِراقِ ... فكلٌّ هُناكَ لهُ خاذِلُ
وكم ذا احتواهُ فأوْحى لهُ ... ليَصْرفَهُ مَجْلٌس حافِلْ
يُردَّدُ نُصْحَهُمُ الناصحونَ ... ولِلْقَدرِ الكلمْ الفَاصِلُ
تَخَيرَ من أهله (مُسْلِماً) ... إليهِمْ يَجُوبُ ويَسْتَطْلُع
قُلوبُ العِراقِ حُسَينيةٌ ... فَلَيْتَ سيوَفُهُم تَتْبَعُ
يزَيدَّيةٌ تتوقى يَزيدَ ... فَهُنَّ لِسُلْطَانِه أطْوَعُ
إذا حَملَ الإمَّعاتُ السُّيوفَ ... فمِنْ حَطَبٍ هُن أو أضْيَعُ
قَضى نحَبُه ابنُ عَقِيلٍ فَما ... تَسَامَع أهلُ الحجاز به
تَبرّأَ مِنْهُ الذينَ دَعَوْا ... ومَنْ عَاَهْدُوا الله من حِزْبهِ
وأَسْلَمهُ الناسُ لابن زيادٍ ... رَسُول يَزيدَ إلى حَرْبِه
فَسَارَ الرجالُ بهِ مُوثقاً ... ومِنْ قمِة القَصْر أَلقوا بهِ
مَضى الرَّكبُ يطلبُ أرض العراقٍ ... فيا حادي الرَّكبِ أبطِئ بهِ
تمهَّل برَكْبكَ إن الزَّمانَ ... عَجُولٌ بمَا ساقَ مِنْ خَطْبِه
رُويدكَ يا حاديَ الرَّكبِ قفْ ... ومِلْ بالسَّوابِقِ منْ نُجْبِه
أدِرْ وجْهُه أيُّهذا الدَّليلُ ... وَعْد بالحُسيَن. . . إلا عُدْ بِه
سُكَيْنةُ في الرَّكبِ تُخفي الدُّموعَ ... وُتخفي هَواجِسَها زَينبُ
تَقُول لَئنْ أسْلمتنا الرجالُ ... فأينَ منَ الفاتكِ المْهَرب؟
يَزيد من الصَّخر قَلْبٌ له ... وأكْبَادُ أَصحابِه أَصلبُ
فوا حَرَبا إن هذا المسِيَر ... إلى غَيْهَب خَلْفَهُ غَيْهَبُ
أتبرزُ في قلةٍ الرجالِ ... ونبغي بهِ ثم أمراً جليلا؟ فمنْ لِلْبنينَ غداً وللبناتِ ... إذا خَرّ فينا الحُسَيُن قتيلا
وَمَنْ للإْمامِة من هاشمٍ ... إذا قتلوهمْ هُناكَ قبيلا
عذابٌ لنفسي هذا الرحيلُ ... ألا ساَء هذا لعَمْرِي رحيلا
مَضى الرَّكْبُ عَجْلان صْوب الُفراتِ ... فهلاَّ انثنَى الرَّكبُ عن وِردِهِ؟
مَضى بالحُسين وآلِ الحُسْيَنِ ... وَشُمٍ ثمانينَ مِنْ جُنْدِه
ثمانينَ باعوا لديهِ الحياةَ ... سَمَاحاً وساروا على عَهْدِهِ
إلى حَيْثُ لا يَسْتَقرُّ امْرؤ ... ولا يَقْرُب السَّيفُ مِنْ غمِدهِ
عَلَى فَرْسَخينَ تَراءى الفُراتُ ... وأوْمأ للكوفة السَّالكونا
تَلفّتَ للنَّهر مُسْتَوحشاً ... حُسَينُ ورَاحَ يظن الظنونا
فأيْن الدعاة وأيْنَ الحماةُ ... وأين الكُمَاةُ بها الدّارِعرنا
رأى القْلبُ ما لا تراُه العُيونُ ... وَبَاحَ الفضاءُ بما يُضْمِرونَا
تَصَدَّى له (الُحْرُّ) في عَسْكرٍ ... فَسدَّ عليه مجازَ الطريقِ
فمالَ عَنِ الكوفِة ابنُ الإمامِ ... وفي النفس ضيقٌ بها أي ضيقِ
تَغشَّتْ مُحيَّاهُ سُحْبُ انْقبِاض ... وفي القلب وَسواسُ حُزْن عميقِ
نُكولٌ ولؤْمُ وَمكْرٌ وَغدْرٌ ... وخُلفٌ عَلَى أثر وعدٍ وثيقِ
يُسايُرهُ (الُحْرُّ) في جيشهِ ... ورَكبُ الحُسينِ يجُوب الفَلا
غَفا غَفْوَةً فرأى أنهُ ... يسيُر إلى حتفِه مُعْجَلا
تَسايَر في سيرِه جاهداً ... فَحَطَّ بهِ الَجْهُد في كربلاء
هُنالكَ حيثُ أحاط به ... غلاظٌ يُسُّرون أنْ يُقْتَلا
وكاثُره وهْوَ في قلةٍ ... عَلَى الشَّط من حَوْلِه عَسْكَرُ
وسَدوا إلى النَّهْر عنه الطريقَ ... فَتْدْمَع عيناهُ إذ ينظُر
ففي مَخْدعٍ بين تلك الخُدور ... صغارٌ عن الماءِ لا تَصْبُر
وفي خَيْمَةٍ حَجَبَتْها السُّتورُ ... جُفونُ مُقَرَّحة تُمْطِرُ
ألا كم تطاولَ هذا العذابُ ... وكم لَمحَتْ نُذر الغاشَية
وكم أرْمض الْحرُّ من مهجةٍ ... وقرَّحَ مِنْ كبدٍ صَاديْه سعيرٌ يُحَرقُ أحْشاءهْم ... إذا أبصروا حَوْلهْم آنية
وما شرِبوا غيرَ ماءِ سَخينٍ ... تظلُّ الجفونُ به هَامَيه
بنفسي صبيُّ ذَوَي عودُهُ ... كرَيْحَانةٍ غَضَّةٍ تَذْبُل
تظلُّ تُعللٌه أمُه ... وفي قلبهَا واعلٌ يأكلُ
فلوْ طلبوا ناظِرَيهْا معاً ... ليَشْربَ خَفتْ بما تَبْذلُ
بمُهَجِتَها تشتري جُرْعةً ... وماءُ الفُراتِ لهم سَلْسَلُ!
تَقدَّم مُحْبَياً بالحسامِ ... حُسَيْنُ وقال إلى: اسمعوا!
دَعَانَي لنُصْرتهِمْ قَوْمُكم ... وأني إلى الحق مَنْ يُسْرِع
فأما ألاقي بنُصحي يزيدَ ... هُنالكَ بالشَّامِ أو أرْجِعُ
فإن تَكْرَهوا تَيْنِك الخَصْلتَيْن ... إلى التُّرك أَفْتَحُ أو أصْرَعُ
أَبوْها عليه فما عنْدَهمْ ... سَوى أن يُبَايع مُسْتَسلما
أصَرُّوا عَلَى لؤمِهْم مُوعِدِين ... وقد عرَفوا شْيَخُهم ألاما
وكم صارخٍ فيهمُ العَداء ... جبانٍ تَعَودَ أنْ يُحْجمَا
سُيوفُهو حَوْلَه تُنْتَصي ... كفاهُ الأسى والضنَّى والظمأ!
ولكنُه عائفٌ ذلةً ... وريحُ الرَّدى حولهُ تَعْصفُ
صَبُوٌر عن الماء في مَوْقفٍ ... تُرَى الأرض من هَوْله ترجفُ
ولَو كان في نصفِ تلكَ الجموعِ ... لما كان عَنْ بطشِه مَصْرِفُ
ولولا عقائلُ بين الخدورِ ... تَصَدى لهم وحْدَهُ يَزحَفُ
تَدبَر حينَ احتواهُ الظلامُ ... فَزَيَّن للتَّابعينَ النَّجاء
خذوا البيَد منَجْاتكَم واجعلوا ... سواد الدجى في سُراكُمْ غِطاء
فما طلبوا اليومَ إلا دَمي ... فإن تسلموا الَسْتُ أخشى الفداَء
وليس عليكم لعَمَرْيَ عارٌ ... ولكن عَلَى طالبكُمْ ظماَء
تتابَعَ أصحابُه يُقْسِمون ... لَيَلقْونَ بين يديهِ الرَّدى
إذا بذل النفسَ منَّا غداُ ... شهيدٌ ففي الحق ما اسْتُشهدا
وقال بنو عَمِه: مَنْ يخوضُ ... سوانا فِدَاكَ الحُتوف غدا؟ قليلٌ إذا ما لفظنا النفوسَ ... سَماحَاً لَعَمرْ أبيك الفدا
ورَددَ في الدهر أرْجُوزَةُ ... وكيف يَسومُ الكرِامَ الهوانَا
بكتْ أخْتُه وأتَتْ بابه ... تُشقُّ الثياب عليه حَنَانَا
فَهَدْهَدهَا ونهَاهَا الُحَسينُ ... وقال: رَضيتُ بهذا امتحاناً
فيا أخْتُ لا تأثمي أنْ قُتلْتُ ... وإلا امَتَهْنتِ مَقامي امْتهانَا
وباتت خيولُ العدا حَوْلهم ... تدُورُ فَتَقْرُبُ أو تبعدُ
لدَى كل رُكْنٍ حَديدٌ يرنُّ ... وفي كل زاوية مرصدُ
وَجْمُع يروحُ وجَمْعُ يجيءُ ... ويسخر ذاكَ وذا يوعِدُ
ومن خلف أستارِهِ في الخباءِ ... حُسَيْنُ لخالقه يَسجدُ
(البقية في العدد القادم)
الخفيف