مجلة الرسالة/العدد 600/على هامش النقد:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 600/على هامش النقد:

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1945



مليم الأكبر

بحث وقصة. . . عادل كامل

للأستاذ سيد قطب

أيها القارئ!

هذا كتاب يجب أن تقرأه. لا لأنك ستوافق على كل ما جاء فيه. ولكن لأنه سيثير انفعالك بالرضى مرة وبالسخط مرة؛ ولأنه سيدعوك إلى التأمل والتفكير في كثير من القضايا المسلم بها في الأدب والفن والأخلاق والنظم الاجتماعية الاقتصادية، لتنبذها وتحطمها، أو لتذود عنها وتتمسك بها. . .

وأيما كتاب استطاع أن يستجيش انفعالاتك على هذا النحو، فهو كتاب قد وهبت له الحياة، ولو قذفت به في النهاية إلى الجحيم!

وقد كان الكتاب في أول أمره (قصة) تقدم بها الأستاذ (عادل كامل) إلى (المجمع اللغوي) لتنال جائزة معينة، فرأت لجنة المجمع الأدبية لاعتبارات خاصة إلا تمنحها الجائزة. . . ومن هنا نشا (البحث) الذي يرد به المؤلف على هذه الاعتبارات، فيتناول فيه نواحي في اللغة والأدب والفن والأخلاق، لا تقل في قيمتها، ولا فيما تثيره من انفعالات السخط والرضي عن القصة ذاتها

ونحن نؤثر أن نسير في مناقشة هذين الكتابين، حسب وجودهما في عالم الحياة فهذا هو الترتيب الطبيعي للأشياء

قصة (مليم الأكبر) هي قصة الصراع بين الطبقات، مصبوبة في قالب فني. فهي على هذا الوضع من أدب (الوعي الاجتماعي) الذي يدعو إليه جمهور من المفكرين في جميع أنحاء العالم، وتدعو إليه الاشتراكية والشيوعية بشكل خاص!

ولهذا النوع من الأدب قيمته - وبخاصة في هذه الفترة من حياة العالم - ولكن الذي يثير الانتقاد هو غلو الداعين إليه ومبالغتهم في فرضه على جميع الفنانين، بوصفه ضريبة إنسانية على كل فنان. . . هذا الغلو غير مفهوم من الوجهة الفنية - بل من الوجهة الإنسانية - فالإنسانية ليست هي هذا الجيل وليست هي بضمة الأجيال المقبلة. . . إنما هي الأجيال الماضية منذ الأزل، والأجيال المقبلة طول الأبد. وهذه وتلك لا تنكمش في هذا الحيز الضيق، حيز جيل من الأجيال. ثم أن هنالك مطالب الإنسانية التي لا تنحصر في ضرورات الطعام والشراب؛ ولا في حيز الضرورات على الإطلاق؛ وإنما تتطلع إلى آفاق ارفع وارحب؛ وتهفو حتى في اشد حالات الضرورة إلى ألوان من الفن المطلق الرفيع

وإذا صح أن أدب الوعي الاجتماعي ضريبة على كل فنان، فلتكن نسبته هي نسبة الضرائب إلى مجموعة الإيراد! بل ليكن فرض كفاية على الفريق المهيأ له من بين جموع الفنانين، فالتجنيد قد يصلح في كل بيئة إلا بيئة الفنانين!

ثم أبادر إلى تصحيح وهم ربما يكون قد سبق إلى ذهن القارئ حين وصفت هذه القصة بأنها من (أدب الوعي الاجتماعي). . . إن انحصار القصة في هذا الحيز لم يسلبها السمة الفنية الأصيلة. وأن المؤلف ليبدو في قصته هذه صاحب موهبة فنية لا سبيل إلى الشك فيها. موهبة العرض والتنسيق ورسم الملامح والشخصيات، وإدارة الحوادث والمفاجآت. . . فهي من هذه الناحية تستوفي صفات القصة الجيدة على وجه العموم.

ثم هي تحمل طابع مؤلفها بوضوح في نواحي النقص فيها ونواحي الكمال. فالمؤلف صاحب طريقة مطبوعة وأسلوب مرسوم. وهذا يقرر وجوده الفني في عالم القصة بلا جدال

يعمل المؤلف في جو متماوج مخلخل، جو (الضباب والرماد) فتمر الحوادث والشخصيات والملامح والانفعالات مرا متأرجحاً متماوجاً. وتبدو للعين كما تبدو الناظر وراء الضباب. . . ليست هناك مواقف حاسمة، ولا انفعالات صارمة، ولا حركات عنيفة، ولا ضجات توقظ الإحساس. وحينما تنتهي القصة تحس أنك في حاجة لأن تقراها من جديد لتتثبت من ملامحها التي مرت من قبل مر السحاب! وربما خطر لك أن تسأل، ماذا يريد؟ ثم تتوارى الشخصيات والحوادث لتجد في نفسك انفعالات غامضة متماوجة تثير القلق والتأرجح والاضطراب

. . . يخيل إلى أن هذا كل غرض المؤلف من عمله الفني - أن كان له غرض -: أن يثير القلق الغامض والتأرجح المضطرب، وأن يغمر اليقين الهادئ ويطلق في النفس الإنسانية عنصر الاضطراب ويسلبها الثقة والاطمئنان لأي شيء في الحياة! وما الحوادث والشخصيات إلا أدوات فقط للوصول عن طريقها إلى الهدف الأخير

إنه - من وجهة نظر المذاهب الاجتماعية التي تدعو إليها - يعد ناجحاً إذا هو قد هز في النفس الإنسانية عنصر الاستقرار! فهو إذن من خيرة من يصلون لهذه الدعوة، لا بما يلقيه هنا وهناك من توجيهات ظاهرة، ولا بما يغمز به النظام الاجتماعي والاقتصادي من غمزات موحية. ولكن - قبل ذلك كله - بما يطلقه في النفس الإنسانية من التأرجح المضطرب الذي لا يقر على قرار!

(قال مليم

- بلا جدال. . .

ثم حمل عدته وأنطلق في الطريق دون التفات، وهو يضرب الأرض في عزم وإصرار كأنه مقدم على فتح عكاء. أما رفيقه فقد وقف يشيعه بابتسامة سآخرة؛ فلما أن صار منه على مرمى حجر، صاح في إثره قائلاً:

- سنرى. . .

وقهقه ضاحكاً ثم انكفأ إلى طريق غير الطريق)

(بلغ النقاش أقصاه بين خالد وأبيه كعادتهما كلما دار بينهما حديث - أي حديث -. ومهما يكن الموضوع تافها، فإنه يتطور على الدوام إلى اصطدام عنيف بين الأب وابنه. أما الأب فداهية مراوغ، يلذ له شعور القوة الذي يدفع بالقط إلى العبث بفريسته قبل التهامها، فهو يطيل من النقاش ويدير دفته إلى وجوه من الرأي يعرف أن ابنه يضيق بها ذرعاً، ثم يرقب في سعادة أثيمة ما يختلج في صدره من ثورة، وما يلوح على وجهه من اضطراب وضيق

(وقد كان. فما لبث أن اربد محيا الفتى، فأنفجر يرد علي تساؤل أبيه قائلا:

- بلا جدال. . .

ثم انثنى إلى حجرة المكتب، وغلق من خلفه الباب، ولو أنتظر لرأى بسمة السعادة الأثيمة ترتسم على شفتي احمد باشا خورشيد، ولسمعه يتمتم قائلاً:

- سنرى) هكذا يبدأ المؤلف قصته فيرسم - منذ الصفحة الأولى - الخطوط الأولى في ملامح هذه الشخصيات الثلاثة التي هي محور القصة جميعا: مليم، خالد، احمد باشا خورشيد؛ ويرسم لهذه الشخصيات الثلاثة طريقها كذلك - لا طابعها وحده - فمليم (ينطلق في طريقه دون التفات وهو يضرب الأرض في عزم وإصرار) تلك طريقته أيضاً في جميع أدوار القصة! وخالد (يريد محياه ثم ينفجر وهو يرد على أبيه، ثم ينثني إلى حجرة المكتب ويغلق من خلفه الباب) تلك أيضاً طريقته في مستقبل الحياة: انفعال وانفجار ثم انزواء واعتزال، واضطراب دائم بين هذين الخطتين حتى ينتهي الصراع). وخورشيد باشا (داهية مراوغ يلذ له شعور القوة الذي يدفع بالقط إلى العبث بفريسته قبل التهامها. . وهو يرقب في سعادة أثيمة ما يختلج في صدر ولده من ثورة وما يلوح على وجهه من اضطراب وضيق) تلك طبيعته وهذه طريقه في القصة وفي الحياة!

هو استهلال بارع - كما ترى - وهي ريشة ملهمة تضع الخطوط الأولى فتشير إلى الخطوط الأخيرة. . . وقد يبدو أن القصة لم تسر في جميع مراحلها بهذه القوة وبهذا الوضوح. . . فيجب أن نلتفت إلى أن القوة والوضوح ليسا من أهداف المؤلف. . . وأن التموج والاضطراب هما قوام طبيعته وقوام طريقته. وقوام أهدافه المقصودة أو غير المقصودة ولكنا هي التي تتحقق على كل حال!

جعل المؤلف (مليم) هو بطل القصة وبه سماها. أما نحن فنرى (خالد) هو الشخصية الأولى فيها. فخالد شاب نشأ في طبقة الأثرياء - ابن خورشيد باشا - ولكنه سافر إلى إنجلترا وطاف بالبلاد الأوربية حيث كانت المذاهب الاجتماعية الحديثة، تصطرع مع الأوضاع التقليدية القديمة. ثم عاد فوجد نفسه غريبا بين أهله، غريبا كذلك في مجتمعه. أن رأسه محشو بالنظريات الحديثة وإنه لمتحمس لها كل الحماسة. ولكنه لم يكن ذا طبيعة عملية، تنفذ في عالم الواقع ما يجيش في نفسه من نزعات. كان خليطاً عجيباً من رجل الواقع ورجل الخيال. كانت تصطرع في نفسه وراثات مختلفة وتيارات متعارضة. كان صوفياً وشهواناً. كانت نفسه حلبة صراع بين شتى الاتجاهات. (ولو أتيح لأحد أن يكشف عن رأسه لوجد فيها حجرتين إحداهما يتربع فيها القرن العشرين بآلاته ومعادلاته. والثانية يمرح فيها القرن الثامن عشر وسط غابة يخترقها جدول) كما يقول مؤلفه تصطدم هذه الشخصية المخلخلة المضطربة الثائرة الحائرة بشخصية خورشيد باشا القاسية الجاثية الماكرة اللئيمة. ذلك الرجل الذي يجد طعم اللذة الأثيمة وهو يحاور ابنه الطيب القليل الحيلة ويداوره حتى يشعره بآلام والضيق. والذي يتهمه المؤلف بأنه قاتل أبيه ليرثه. وبأنه يشعر بسعادة أثيمة وهو يؤذي فلاحيه ويطلق عليهم كلبه ليعقرهم. . . الخ، أنه نموذج لتلك الطبقة الأنانية الجشعة (التي تسرق أموال الفقراء!) والتي افلح المؤلف في أن نمقتها كل المقت ونزدريها كل الازدراء

يصطدم خالد بابيه انتصارا لمليم (صبي النجار) المتهم من الباشا بالسرقة جزاء أمانته، وهنا نجد جميع القوى مجندة في صف المال. وما إجراءات العدالة إلا مظاهر جوفاء كمراسيم التضحية بالفريسة في مجتمع متوحش. ويسلم مليم للسجن جزاء أمانته!!!

أما مليم فمهمته الحقيقية في القصة أنه محورها الفني. . لقد فهمنا أن المؤلف يريد أن يرمز إلى (رجل الشارع) ذي الفضائل الفطرية والطبيعية المستقيمة والعزيمة العلمية. . . ولكننا فوجئنا وهو ينحرف به في منتصف القصة فيكلفه القيام بعمل لا يقوم به (الرجل الشريف) ثم يجعله في نهايتها أحد أغنياء الحرب المعروفين!

ترى افلت الزمام من يد المؤلف؟ الأمريكي هي طبيعته طبيعة الضباب والرماد؟! هنا تستوي الغلطة والإصابة في الدلالة طبيعة المؤلف وطريقته!

وفي القصة غير هذه الشخصيات الرئيسية الثلاثة شخصيات أصيلة هي الأخرى. أطلق عليها اسم (جماعة القلعة) أولئك جماعة من الحالمين المنحلين. يصنعون كل شيء في أحلامهم الممتزجة بدخان النرجيلة! أنهم ينشئون مجتمعاً جديداً مطلقاً من جميع القيود والتقاليد، ولكن (في المنام)! هذه الجماعة تمثل حيرة فريق من شباب الجيل في مفرق الطريق!

وهنا يجتمع خالد ومليم، فيقوم مليم بعمله الذي لا يقوم به (الرجل الشريف!) يحتال على الرجال باسم (هانيا) الفتاة إحدى شخصيات جماعة القلعة!

ويقوم خالد بدور من أدواره كذلك. حتى إذا انتهت القصة وجدنا هذه الجماعة النحلة الحالمة وقد تفرق شملها ولم تصنع شيئاً. ووجدنا (خالد) يعود إلى طبقته ومجتمعه وقد انحلت نفسه وفرغت طاقتها وسقط صريعاً في حومة الصراع الذي دار في داخل شخصيته أعواما.

ووجدنا (مليم) وقد من أغنياء الحرب. . . ثم وجدنا الحوادث والشخصيات كلها تتوارى ليسال كل منا نفسه: ماذا أراد؟ وماذا كان يريد؟ وقبل أن يسال الجواب على سؤاله يجد نفسه تتأرجح وتتماوج في هذا الضباب الذي أطلقه المؤلف، وكأنما يطلقه بغير تدبير!!!

في أحلام (جماعة القلعة)، وفي تصرفات خالد ومليم. وفي حوادث القصة نزوات وفلتات خلقية وجنسية، أخشى أن تكون جميعها وحي مزاج منحرف شاذ!

مقياس الجماعة لصلاحية الفرد للجيل الجديد، إلا يجد غضاضة في معاشرة أخته معاشرة الأزواج! ذلك هو الدليل الذي لا يخطئ على أنه طليق من جميع التقاليد!

أحد أفراد الجماعة ينظر إلى مليم بإعجاب ويقول: إنه (زوجنا) جميعاً!

خالد يتحسر - بعد وفاة أمه - على أنه لم يوقظها بقبلاته كل صباح كأنها (زوج) له!

مليم يعثر على لفافة في بيت خورشيد باشا وهو يصلح النافذة، فيعطيها لخالد. فيتوقع خالد أن تكون غرامية تخص والدته الحاجة. ويبتهج لهذا الخاطر ويستريح!

بنت عمة خالد أنثى تتهالك عليه في أوضاع مخجلة عارمة البهيمة. لهذا ولأمثاله دلالته. ولعل هذه الدلالة كانت أهم الاعتبارات التي منعت لجنة المجمع من منح الجائزة للقصة. واللجنة محقة - لا من الوجهة الفنية - ولكن من وجهة أن مثل هذه الاتجاهات مما يجب أن يلقي به صاحبة رأسا إلى الجو الأدبي الطليق فيرى فيه ورأيه بحرية. لا مما تحتمل اللجان الرسمية تبعة تقديمه إلى القراء.

أما الكلام في المقدمة فموعدنا به قريب.

سيد قطب