مجلة الرسالة/العدد 600/الرسالة في عامها الثالث عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 600/الرسالة في عامها الثالث عشر

مجلة الرسالة - العدد 600
الرسالة في عامها الثالث عشر
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1945


لاحت في جوانب العالم المنصرم تباشير السلم كما تلوح في هوادي

الليل تباشير الفجر الكاذب، فانبعثت رواقد الأماني هنا وتحلب أشداق

المطمع هناك، وابتهل العالم العربي إلى الله أن يوقيه ويلات السلم كما

وقاه ويلات الحرب، فأوحى إليه أن يتحد - ومن طباع العالم العربي

الذي يؤمن بانقطاع الوحي إلا يعمل إلا بوحي - فوفد إلى القاهرة وفود

الدول العربية خفافاً وثقالا، واخذوا ينظرون في الصورة التي تكون

عليها الوحدة، وفي الألوان التي تتألف منها الصورة. ولا يزال أقطاب

(الجامعة العربية) يديرون الرأي فيما بينهم استعداداً لجمع (المؤتمر)

وعقد (الميثاق)

وذلك وحي الضرورة نزل على قلوب الساسة فصعدوا به وعملوا له. وهنالك وحي الطبيعة أوحته القرابة الواشجة، واللغة الواحدة، والوطن المشاع، والتاريخ المشترك، فتجلي في المجمع اللغوي، وفي التعاون الثقافي، وفي مؤتمر الأطباء، ومؤتمر المحامين، وفي مهرجان أبي العلاء، وفي مؤتمر النساء، وفي بعوث الأقطار العربية في معاهد مصر العلمية، وفي الدعوات والرحلات، وفي الكتب والمجلات، وفي الأصوات المتجاوبة تزأر بالدفاع عن فلسطين المهددة، وفي الجماعات المتزاورة تتساقي المودة حيناً على النيل وحيناً على بردى وحيناً على دجلة

تلك وحدة الروح والهوى، لا خلاف فيها على زعامة، لأن زعيمها الخالد بالإجماع محمد. ولا خوف منها على استقلال، لأنها كدين الله لا تعرف الحدود ولا تقبل الحصر. ولا مثار لعصبية، لأنها كعروبة الإسلام لا تفرق بين أحد من الناس لدين أو جنس. والرسالة تحمد الله وتشكره على أن وفقها في سنيها الثلاث عشرة لتكون جندياً صادق البأس خالص العقيدة من جنود هذه الوحدة. وكان الرجاء أن تصدق نبوءة المتنبئين بانطفاء هذه الحرب في عامنا الذاهب، لتستعيد الأرض قرارها المطمئن، وتستأنف الحياة سيرها الأمن، وتستقب الرسالة عامها الجديد وهي على حال من القوة والفتوة والجدة توافق هذا الجهاد وتطابق هذه السن. ولكن الشياطين ما برحوا يحتلون مختبرات العلماء ومكاتب الزعماء ورءوس القادة. وراس الشيطان كنفس الإنسان لا يسبر غورها ولا يحد مداها، فإذا خبت نار، ذكت نار، وإذا سكن إعصار ثار إعصار، وكلما أنكشف سر تلاحقت أسرار. فالخطة تنسخ الخطة، والعدة ترفد العدة، والاختراع يتبع الاختراع. وليس يعرف لهذه القوى الجبارة أمداً تخور عنده إلا الخبير القدير الذي شاء أن يطامن من كبرياء الإنسان ويكسر من غروره، فسلط هواه العارم على عقله القاصر ثم وكله إلى نفسه، فاعتل ادراكه، واختل توازنه، وأنطلق في ضراوة الوحش، ورعونة العاصفة، يدمر ما عمر، وينقض ما أبرم، ويقتل ما ولد!

ليست هذه الحروب مقصورة على جهاتها المادية بين الجيوش المتحاربة في أوربا واسيا إنما هي زلزلة اجتماعية عامة هزت كل وطن، وبلبلت كل نفس، وزعزعت كل نظام، فمن لم يجدها في جيشه أو على أرضه وجدها في نفسه وفكرة وعقيدته وأحزابه وتقاليده ونظمه. والأسلحة والوسائل تختلف باختلاف البواعث النفسية في كل محارب؛ فقد تكون، إذا تحركت في الجماعة حوافز السمو ونوازع الكمال، ثورة على قيد يعوق نهضتها، أو على حكم يلغي إرادتها

وقد تكون، إذا اضطربت في قرارة هذه الجماعة كدورة الطين وشهوات البهيم، اعتداء على حرم الناس بالدس والسباب، أو بالسرقة وإلاغتصاب، أو بالغدر والحيلة؛ أو تمرداً على الأوضاع الطبيعية، فيرغب الفقير الكسول في ثروة الغنى المجد، ويتشوف العاجز الكل إلى منصب القادر الكفء، وتطلب المرأة الخرقاء مساواة الرجل في الحق دون الواجب.

ستنطفئ ثائرة هذه الحرب في وقت ما؛ وستأتي نتائجها بالطبع منطقية مع أسبابها التي بعثها على صورة من هذه الصور. فأما الذين أنفقوا فيها من أنفسهم وأموالهم، في سبيل أمجادهم وأمالهم، فسيجدون الكمال في هذا النقص، والحياة في هذا الموت، كالشعر يغزر ويقوى بالقص، وكالشجر يغلط ويرف بالتقليم. وعقبي مثل هذه الحرب على الغالب والمغلوب وثبة إلى الرقي الإنساني والعمراني يفتتح بها عصر ويبدأ تاريخ الإنشاء

وأما الذين أنفقوا من فضائلهم وأخلاقهم، في سبيل مناصبهم وأرزاقهم، فقد خسروا كل شيء خسروا ما لا كفاء له ولا عوض منه، وربحوا ما لا بقاء له ولا فضل فيه وهل تغني المادة ذا ذهبت الروح، أو تحيا الأمة إذا مات الخلق؟

لقد نجا العالم العربي من حرب الإنسان التي تهدم لتجدد، وتقلم لتثقف، وتبيد لتزيد، فهل نجا من حرب الحيوان التي تقتل لتأكل، وتغلب لتلذ، وتغصب لتحتكر؟ أنك يا سيدي أبصر من أن بصر. والنتن يتم على وجوده، والشر يدل على نفسه. ومن لا يرى يسمع. ومن لا يسمع يشم. ومن أعوزه الدليل في نفسه وجده في غيره. فليت شعري ماذا أعد سادتنا وزعماؤنا للسلم التي تعقب هذه الحرب؟ أن أقطاب العالم الثلاثة قد استعدوا من اليوم لتعمير ما أندثر من المدن، وتجديد ما رث من النظم، فهل يستطيع أقطابنا الثلاثون أن يستعدوا لتعمير ما خرب من الضمائر، وتجديد ما رث من الأخلاق وتوثيق ما وهى من العقود؟

احمد حسن الزيات