مجلة الرسالة/العدد 60/فصول مدرسية في الأدب الدرامي
مجلة الرسالة/العدد 60/فصول مدرسية في الأدب الدرامي
3 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
أجزاء العمل
العمل الروائي كالعمل الحكائي يتألف من العرض والتعقيد والحل.
فالعرض فكرة عامة مجملة عن العمل الروائي يتقدم بها الكاتب في الفصل الأول، ليهيئ الأذهان إلى الحادث، ويشوق النفوس إلى المتأخر، ويعرف الظروف والأمكنة والأشخاص إلى المشاهد. وهو في الرواية أصعب منه في الملحمة، لأن أداءه لا بد أن يكون بالعمل، ولأن الأشخاص وهم مشغولون بأعمالهم الحاضرة وأحوالهم القائمة، ملزمون بتقديمه إلى المشاهدين في معرض حديثهم الخاص دون أن يظهر عليهم أنهم يريدون ذلك. فالطبيعة إذن هي الصفة الجوهرية للعرض. وهناك صفة أخرى لا تقل عنها خطورة، وهي أن يكون العرض وسطاً بين الغموض والوضوح: فيكون واضحاً بقدر ما يدلك على أدوار الأشخاص الأساسيين، ويضع يديك على الخيوط التي سيحيك العمل منها عقدته؛ وغامضاً بقدر ما يخفى عنك الحل ويدخر لك سرور المفاجأة.
ولقد كان عرض المأساة في الفن القديم بائن الطول، قوي الفعل، شديد الأثر؛ ولا تزال عروض اسخيلوس وسوفوكليس مضرب الأمثال في ذلك. فأصبح في الفن الحديث سريع الحركة، ضعيف التأثير، ولكنه أدق وأبلغ. إذ من القواعد الأولية المقررة في فن المسرح أن تتدرج الجاذبية في أجزاء الرواية، فتبدو ضعيفة في العرض، ثم تنمو على التدريج رويداً رويداً حتى تبلغ الغاية في النهاية. فإذا ما بدت قوية في صدرها فأسالت العيون من الرحمة، وخلعت القلوب من الرعب، كان من الصعب على الكاتب أن يُدرج المواقف الروائية ويرتبها في الفصول. لذلك تجد كتاب العصر لا يضعون الجاذبية في العرض، وإنما يكتفون بالتهيئة لها والدلالة عليها.
إن العرض يسهل بناؤه ويخف أداؤه كلما اشتهر موضوع الرواية أو كان مما ألفه الناس في اجتماعهم، وعرفوه من طباعهم. ولذلك كان في الملهاة أسهل منه في المأساة، لأن الع فيها قريب العلاقة محدود الفكر، لا يخرج في معظم الأحوال عن دائرة الجماعة أو الأسرة. والمآرب والأخلاق، والعادات والأهواء، في هذه الدائرة معروفة مألوفة، توضحها كلمة وينبئ عنها منظر. ومع ذلك فلبعض الملاهي عروض بلغت حد الإعجاز من الفن كعرض ترتوف، والمريض المتوهم، والنساء العوالم لموليير.
والتعقيد هو الجزء الذي تشتبك فيه الظروف والوقائع والمنافع والمنازع والأخلاق في اعتراضها طريق البطل، فينشأ عن اشتباكها الشك والتطلع والقلق وفروغ الصبر وبذلك تقوى الجاذبية. وأفضل التعقيدات وأجدرها بالفن ما نشأت فيه العوائق من أخلاق الأشخاص وأهوائهم، لا مما يصدر عن غير طبيعتهم ولا إرادتهم، كالأخطاء القهرية، والحوادث الخارجية. ولا بد أن يسر التعقيد على سنن الطبيعة حتى يسهل على المشاهد أن يتصور وقوع الحوادث كما يراها. ولحوادث الطبيعة كما تعلم نتيجة وعلاقة وتسلسل، فينبغي إذن أن يكون التعقيد سلسلة من الحوادث بينها من التواصل والتفرع ما بين الحلق.
لم يكن للتعقيد في المآسي القديمة ماله اليوم من شأن وخطر. فقد قسم أرسططاليس الموضوع تقسيماً كمياً إلى أربعة أقسام. وهي المقدمة والوقائع والنتيجة والخورس. (والقسم الأخير قد حذف اليوم)، ثم تكلم عن التعقيد دون أن يُعنى به، وقسم الموضوع إلى بسيط وهو ما كان العمل فيه مستمراً متحداً ينتهي من غير انقلاب ولا تعرف، ومركب أو معقد وهو ما اشتمل على هذين الموقفين أحدهما أو كليهما. فالقاعدة التي وضعها أرسططاليس للنوعين جميعاً هي أن تستمر سلسلة الحوادث متصلة، وألا يكون تسلسلها تعاقبياً، بل يتوالد بعضها من بعض على غير ما يترقب المشاهد حتى تنتهي إلى الحل. والحق أن أرسططاليس لم يكن محتاجاً إلى غير هذا مادام كل ما يبغيه هو حادثاً يبعث في القلوب الرعب والرحمة. فهو لا يشغل باله إلا بالحل، أما التأثير الداخلي للموضوع فذلك مالا يحفل به كثيراً. فأنت ترى أن المسرح الإغريقي كان يعتبر الموضوع الذي يتمخض عن الفاجعة الأليمة المحزنة بسيطاً. وما كانت تلك البساطة في الواقع إلا فراغاً في عمل عقيم بطبعه، وكيف يكون في مثل هذا الموضوع الساذج محل لتناقض الأخلاق وتصادم الأهواء، وأسباب حوادثه خارجة عن إرادة الأشخاص أو سابقة للعمل الروائي نفسه؟ ففي رواية أوديب الملك ماذا ترى؟ ترى كل شيء قد وقع قبل ابتداء العمل. (فلبُّوس) قد قتل، وأوديب قد تزوج من (يوكاست)، فلم يبق إذن بين البطل وبين الشقاء إلا أن يعلم أنه زانٍ بأمه قاتل لأبيه، فرويداً تنكشف الحجب وتنجل الحوادث، ويستيقن أوديب أنه نفذ إرادة الآلهة فيعاقب نفسه. تلك هي رائعة الأدب الإغريقي وكل ما فيها انكشف عن جريمتين وقعتا قبل عملها، فكان ذلك الكشف الرهيب الأليم كافياً لشغل المسرح وملئه. فكيف استطاع الإغريق إذن أن يشغلوا خمسة فصول بحادث محتوم لا حيلة للأشخاص فيه ولا منجى لهم منه؟ كانوا يمثلون على التتابع مآسي كثيرة في يوم واحد، وكان الخورس يقتل جزءاً من الزمن، وما بقي من الفراغ كانوا يملأونه بالشكاوي والوعظ والوصف والإنشاد والمجادلات في الفلسفة والسياسة.
تلك حال التعقيد الروائي في الفن الإغريقي، وهو كما ترى ضئيل الخطر قليل الأثر، لا يقوى الجاذبية ولا يزيد التشويق، وإنما كان سبيلهم إلى ذلك هو التعرف وحده، وكان شعراؤهم يؤثرونه ويرونه أنجع الوسائل لإيقاظ المسرح وإحياء الرواية. ولولاه لما كان لمعظم روائعهم الفنية شأن يذكر كأوديب وإيفجيني وفيلوكتيت.
أما التعقيد في الفن الحديث فهو جسم الرواية وروح العمل، وكان سبب ما أحله تلك المكانة هو امتداد نواحيه، وتشعب أطرافه، وحرية وجهه، فقد تخلص من ربقة القضاء والقدر والكهانة، وأصبح مظهراً للعواطف المؤثرة المنتجة، وصدى لأصوات الحياة الصاخبة المزعجة، وصورة للبيئة الحاضرة المعقدة؛ وصارت جاذبية المسرح معقودة بما يحدثه اصطدام الأهواء واضطرام النفوس وتباين الأخلاق وتعارض الأطماع من خير أو شر، وأخذ الحب والبغض والانتقام والطمع والغيرة تحل من حياة الإنسان محل الأقدار والحظوظ، وتعقد العمل بتفاوت الشعور وتنازع النفس واختلاف الهوى وثورة العاطفة فبعث في المسرح الحديث حركة شديدة وروحاً قوية كان القدماء يجهلونها كل الجهل، لأن مسرحهم كان يقوم على حكم الضرورة، ومسرحنا يقوم الآن على نظام الطبيعة، والضرورة عامل قاهر، ومتسلط مستبد، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. أما الطبيعة فلها مبادئ وقوانين تُصدر عنها وتسير عليها، فكل حادث لعلة، وكل غاية لأصل، حتى في اضطراب الأهواء وفوضى الميول تجد نظاماً خفياً لا تستطيع أن تقلبه دون أن تصرخ الطبيعة في نفسك بأنك خرقت قانونها وانتهكت حماها، لذلك كان بناء المأساة الحديثة من أدق الأمور وأشقها على الكاتب: فالحوادث تتدرج في الصعوبة بحكمة، والجاذبية تتوزع في الأجزاء بدقة، والعمل يتسلسل بعضه من بعض في حدود الطبيعة سواء أكان منتزعاً من جوهر الموضوع أم من خلق الأشخاص. ولو شاء ربك أن يبعث الآن أرسططاليس فرأى كيف نسجت العقدة في أمثال بُلْيُكْتَ وألزِيرَ لملكه الدهش وأخذه العجب، ولاعترف أن هناك فناً آخر أسمى وأبلغ من فن أوربيدس وسوفوكليس يدور العمل فيه على الأخلاق والعادات، لا على الضرورة والخرافات.
بقى الحل وهو الجزء الذي تنتهي به الرواية وتتحلل فيه العقدة بزوال الخطر أو قضاء الوطر أو تذليل العقبة أو حلول الكارثة. وبراعة الحل أن يدبر دون أن يظهر. فتدبيره يكون بوضع العمل على طريقة تجعل اللاحق ناتجاً عن السابق. فإن بين الحوادث المتوالدة والحوادث المتعاقبة بوناً بعيداً كما قال ارسططاليس، وبذلك يكون الحل طبيعياً منطقياً متفقاً مع أخلاق الأشخاص وأعمالهم؛ وعدم ظهوره هو أن يكون فجائياً ولا سيما إذا كان ساراً، لأن الجاذبية إنما تقوى بتعاقب الرجاء والخوف على قلب المشاهد، ولا مصدر لهذا التعاقب إلا الشك، فإذا علم من قبل أن الحل سيكون ساراً انتفى سبب الرجاء والخوف، وسكن بانتفائه محرك الجاذبية. حتى في الموضوعات المعروفة يجب أن يخفى الحل. وخفاؤه إنما يرجع إلى براعة الكاتب في سوقه العمل على وجه ينسى المشاهد ما يعلمه من قبل. وتلك هي قوة الوهم وعبقرية الفن، ولولاهما لما رأينا ذوي الحساسة من المشاهدين يبكون للمأساة الواحدة عشرين مرة.
إن معنى فجائية الحل هو انتقاله طفرة من حالة مبهمة إلى حالة واضحة. وتقريب ذلك أن حظ الأشخاص في سياق العمل أشبه بسفينة تناوشتها الأمواج واصطلحت عليها العواصف - وتلك هي العقدة - فأما أن تغرق وإما أن تبلغ الساحل - وذلك هو الحل -
ثم إن الحل قد ينتهي إما بالتعرف إذا تعقد العمل على أساس الجهل والتناكر، ثم تحلل بجلاء الموقف وتعارف الأشخاص؛ وإما بالانقلاب إذا حدث تغيير فجائي فقلب حال البطل من نعيم إلى بؤس أو من بؤس إلى نعيم، وفي الحالة الأولى يسمى الحل محزناً وفي الحالة الأخرى يسمى ساراً. وكان أرسططاليس يفضل الحل المحزن ويقول بإبعاد الفضيلة المطلقة والرذيلة المطلقة من المسرح، ليكون لأشخاص الرواية نصيب من كلتيهما بارتكابهم جرائم عن غير عمد فيعاقبون عليها جميعاً في النهاية. أما سقراط وأفلاطون فرأيهما على خلاف رأيه: يريان أن المأساة لا بد أن تتفق مع القوانين فتقف البريء على المسرح إزاء المجرم ثم تحكم للأول على الثاني. وعلى الجملة فالحل عند القدماء كان يعوزه اجتماع التأثير والمغزى وهما قوامه وكماله، لأن الحوادث التي تؤدي إلى الحل كانت خارجة عن إرادة البطل صادرة عن سواه، والشقي إذا أشقته أخطاء غيره لا يكون مثلاً، وإذا أشقته أخطاء نفسه لا يستحق عطفاً. أما الحل في الفن الحديث فمن السهل اجتماع هاتين الخلتين فيه، لأن الرجل إذا أضله الهوى وأعماه الغي فتردى في هوة الشقاء وهو طيب القلب نبيل النفس، كان مثلاً قوي التأثير شديد الروعة جليل المغزى، يشعر قلبك الخوف دون أن يفزعك بالبلاء، ويثير في نفسك الرحمة دون أن يثيرك على القضاء. وليس الكاتب في حاجة إلى أن يغمس يد أشخاصه في الجرائم ليهز النفوس ويبكي العيون، فانه يجد لهم في صميم أفئدتهم العدو الكاشح، والطاغية المستبد، والسياف القاسي، وإذن يكون عذابهم ومصابهم من طريق الهوى المضل أبلغ مثلاً وأقوى أثراً وأفظع صورة. وفي ذلك يتجلى فضل الطريقة الحديثة على القديمة في الحل المحزن. أما فضلها عليها في الحل السار فهو أظهر وأكبر، لأن هوى النفس مقروناً بسلامة القلب لا يقابل على المسرح بما تقابل به الدناءة الغريزية والشر الصادر عن روية من الزراية والمقت. وإذن يستطيع الكاتب أن يجد للبطل الذي أضله هواه مخرجاً من شقوته ومخلصاً من ورطته، وهو جازم بوقوع هذا الحل السار من نفوس المشاهدين موقع الرضا والمسرة، لأنهم طالما ابتأسوا لبؤسه، وشقيت نفوسهم لشقاء نفسه.
ويجمل بنا قبل أن نفرغ من الحل أن ننبه الكتاب إلى عيب أصلي من عيوبه وهو الطول.
ومنشأ ذلك العيب سوء توزيع العمل على خمسة فصول، فيجعلون الفصل الأول للعرض، والثلاثة التالية للتعقيد، والخامس للحل. وطبيعة ذلك التقسيم تقضي بأن يبلغ الخطر أقصى درجته ومنتهى قوته في الفصل الرابع. فإذا جاء الفصل الخامس وجد الكاتب نفسه مضطراً أن يحل العقدة ببطء وتدرج ليملأه، فيطول بذلك الحل ويفتر، والجاذبية إذا انتهت في الزيادة بدأت في النقص، أو هي كالنار تغذى بالوقود فإذا ما سكت عنها انطفأت. فينبغي الإسراع فيه على شرط ألا تضر السرعة بالإمكانية، ولا الإمكانية بالشك. أما حل الملهاة فهو بحكم العادة كشف خديعة وإزالة غرور وفضيحة خبث وقطيعة سخرية. ويغلب أن يكون الحب محور التعقيد الهزلي فينحل بالزواج. وهو يشارك حل المأساة في ترتبه على ما قبله وانتزاعه من نفس الموضوع وتولده من تسلسل الحوادث. ويختص دونه بعدم المفاجأة، فقد يزداد هزله كلما وضح أمره. وفي المأساة يخدع المشاهدون، أما في الملهاة فيخدع الأشخاص.
(يتبع)
(الزيات)