مجلة الرسالة/العدد 6/في الأدب الغربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 6/في الأدب الغربي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1933


ّ

قصة فيلسوف عاشق

للدكتور طه حسين

- 2 -

واتصلت زيارة أغوست كونت لأسرة كلوتيلد، واشتدت الصلة بينه وبينها متانة وقوة؛ وأخذت تزول من هذه الصلة بقايا هذه التكاليف الاجتماعية التي تواضع الناس عليها في حياتهم المألوفة، والتي لا يزيلها ولا يمحوها الا المودة الخالصة إذا بلغت أقصاها، أو الحب الصحيح إذا انتهى إلى غايته. وألحت الأسرة في التعريض بهذه الزيارات المتصلة، وبهذه الصلات التي كانت تتخلص شيئاً فشيئاً من التكلف والاحتشام. ونزعت الفتاة نفسها وقتا طويلا في أن تتحدث إلى الفيلسوف بهذه الريبة التي أخذت تثور حولهما في نفوس الأسرة؛ ولكنها انتهت إلى أن أنبأته بما عندها من ذلك فاستمع لها، ولم يحتج إلى تفكير وتقدير ليمتلئ قلبه سروراً وغبطة، وليأخذه شيء من الكبرياء غريب في ظاهر الأمر، ولكنه مألوف عند العشاق والمحبين. وماله لا يسر ولا يغتبط والحجب ترفع كل يوم بينه وبين من يهوى؛ وماله لا يأخذه الكبر ولا يملأه التيه وهو يثير الريبة في نفوس الأسرة، ويضطرهم إلى أن يشعروا بحبه للفتاة وبأن الفتاة لا تزدريه ولا تفرط في ذاته، ولا تنظر إليه في غير عناية ولا اكتراث. لعلها لا تحبه كما يحبها ولكن في قلبها عاطفة ما تعطفها عليه وتدفعها إليه. ومن يدري؟ لعل هذه العاطفة أن تنمو وتقوى وتخضع لما يخضع له الإنسان بملكاته وعواطفه من التطور، فتستحيل من المودة الخالصة إلى الحب العنيف. وإذا فما له لا يستأنف سعيه وإلحاحه؟ وما له لا يدور حول قلب الفتاة لعله يجد سبيلا لبلوغه والوصول إليه. وقد فعل. فهذا الحنان الذي كان قد كظمه في نفسه أو أسبغ عليه لوناً من الجد يجعله إلى الود أقرب منه إلى الحب، قد أخذ يتجرد من ثوبه المتكلف ويظهر على حقيقته وفي صورته الصحيحة، وقوته التي لا تبقي على شيء. وهذا التحفظ الذي كان اصطنعه في الحديث يزول شيئاً فشيئاً. وإذا هو صريح، وإذا هو يجدد إعلان الحب، ويكرر هذا الإعلان ويحيط الفتاة بشباك من الطلب والأمل والتضرع والاستعطاف والأغراء الذي يتجه إلى العقل حيناً وإلى الشعور حيناً آخر. وكيف تريد أن تفلت الفتاة من هذه الشباك جميعاً وهي لا تكاد تخلص من واحدة حتى تتعثر في أخرى. هي مضطرة إذا إلى أن تسالم بعض الشيء وتصانع إلى حد ما، وتنهزم عن خط الدفاع الأول كما يقولون.

وهل كانت هي في نفسها منصرفة عن الفيلسوف حقاً راغبة عن حبه كل الرغبة؟ لست أدري ولكنها على كل حال عجزت عن المقاومة فكتبت إلى أجوست كونت تنبئه بهذا العجز وتظهره على ذات نفسها وتبين له رأيها في التخلص من هذا الموقف الدقيق ورأيها أنها لم تكن تقدر أن أحداً يكلف بها ويتهالك عليها، وأنها هي لا تكلف بأحد ولا تتهالك على أحد، ولكن أملها إن صح أن يكون لها أمل في الحياة، إنما هو طفل تقف عليه حبها وحنانها وقوتها ونشاطها. وهي إذا شاركت رجلاً في الحياة فإنما قوام هذه الشركة الوصول إلى تحقيق هذا الأمل. وهي حريصة كل الحرص على أن يكون شريكها إن ظفرت به رجلا ممتازا مرتفع النفس كبير القلب خليقا بالإكبار. وهي تجد هذه الخصال كلها في الفيلسوف ولا تكره أن تتخذه شريكا في تحقيق هذا الأمل وخلق هذه الطفل. ولكنها لا تريد أن تخدعه ولا أن تغره فهي لا تحبه بالمعنى المألوف لهذه الكلمة وحياتها ليست بالشيء النفيس الذي يحرص الناس على الاشتراك فيه. فهي بائسة تحتاج إلى من يعزيها وهي فقيرة تحتاج إلى من يعولها. وهي لا تحمل لشريكها الا مودة صادقة وإخلاصا لا حد له.

ويقرأ الفيلسوف هذا الكتاب فيجن جنونه وتدور به الأرض ثم تهدأ نفسه، وتشرق في وجهه الدنيا وتبتسم له الأيام. وهل كان يطمع في أن تقبل كلوتيلد منه مثل هذا وترضى أن تكون خليلة وتقاسمه الحياة وتشاركه في خلق إنسان؟ وهو قابل إذا وهو راض وهو سعيد وهو واثق بأن هذه خطوة ستتبعها خطوات وهو يكتب إليها ويمضي كتابه على هذا النحو: زوجك المخلص أجوست كونت.

وتزوره ذات يوم زيارة المستسلمة المستعدة للوفاء بالوعد وإنفاذ هذه الشركة، فيلقاها فرحاً مبتهجا ثم يجلسها ويجثو بين يديها ويقدم إليها صلاة فلسفية حارة. ولكنه عالم لا حظ له من براعة الأدباء ولا من براعة الرجال الذين تعودا عشرة النساء والتلطف لقلوبهن، فصلاته فلسفية، وحديثه بعد ذلك عملي كله وحركاته حين يضطرب في غرفته منظمة قد قدرت تقديراً. فهو لا يرفع شيئاً الا بحساب ولا يضع شيئاً الا على نظام ولا يأتي حركة الا إذا كانت لها علة ظاهرة وتأويل معقول وهو يتحدث عن دخله وعما سيحتاجان إليه من نفقة وعن ترتيب البيت وعن النظام المادي للحياة. وهو على هذا كله دميم لا جمال في شكله ولا روعة، قصير متقدم البطن مضطرب الوجه. فأين يقع هذا المنظر؟ وأين يقع هذا الحديث؟ وأين تقع هذه الحركات المنظمة من قلب امرأة لم تتجاوز الثلاثين بعد؟ ما أسرع ما ضاقت بهذه الشركة ورغبت عنها، وما أسرع ما ضحكت من نفسها في نفسها، وما أسرع ما استيقنت أنها كانت تحاول أمراً لا قبل لها به ولا قدرة لها عليه، وما أسرع ما نهضت وهي تقول: لقد تقدم الوقت دعني أكتب إليك. وما أسرع ما خرجت من الباب وهبطت السلم وبلغت الشارع ومضت، والفيلسوف ينظر إليها من النافذة. فإذا هي تسرع أمامها لا تلتفت ولا تلوي على شيء وتكتب إلى الفيلسوف بعد ذلك معتذرة متعللة قائلة إنها قد تعجلت الوعد وتبين لها أنها في حاجة إلى التفكير الطويل وأن الخير في أن تمهل نفسها لترى. فلا يكاد الكتاب يصل إلى الفيلسوف حتى يحس أنه قد آذاها بحديثه فيكتب إليها متلطفاً ملحاً. وتمضي هي في إبائها. ويشتد هو في إلحاحه حتى إذا أثقل عليها أجابته في شيء من الشدة والصرامة أنها لا تستطيع أن تبيع نفسها ولا أن تساوم فيها فان كان يقنعك ما أعرضه عليك من المودة الخالصة الطاهرة فذاك ولك أن تلقاني في بيت أسرتي كدأبك من قبل ولا بد لي من ستة أشهر أفكر فيها وأروى وإلا فإني عائدة إلى ما كنت فيه من وحدة وعزلة. هنا يفيق الفيلسوف من ذلك السكر الذي كان قد غمره وملأ عليه قلبه وعقله. ويعود إلى حاله الأولى ليس شديد الرجاء ولكنه ليس يائسا بل هو بعيد كل البعد من اليأس واثق بأن العاقبة له وبأن الفوز لن يخطئه مهما يكن من شيء، سيصبر إذا وسيستأنف حياته الأولى فيلقى الفتاة في بيت أسرتها مرتين في الأسبوع.

وكلاهما سيئ الحال ضيق ذات اليد. أما هي فتبحث عن عمل لتعيش منه أو لترفه به بعض الشيء حياتها الضيقة الخشنة. وهي لا تتردد في أن تشغل مكان السكرتير في مكتب من المكاتب أو عند رجل ذي مال ان ظفرت به. ولكنها لا تظفر بشيء ولا بأحد الا فيلسوفها الذي قد وثقت به واطمأنت إليه. فهي لا تخفي عليه من أمرها شيئاً وهو يعدها بالمعونة ويعرض عليها أن يقرضها ما تحتاج إليه، بل يؤكد لها أن كل ما يملك من المال ملك خالص لها تستطيع أن تأمر فيه بما تشاء. نعم ولكنه هو لا يملك شيئا أو لا يكاد يملك شيئا، أعماله شاقة ونفقاته ثقال والمستقبل أمامه مظلم. هو يلقي دروساً رياضية في بعض المدارس الحرة ولكن صاحب المدرسة يريد أن يلغي هذه الدروس رغبة في الاقتصاد، وهو يكسب شيئا من مدرسة الهندسة ولكنه في حاجة إلى أضعاف هذا الذي يكسبه. وهو يلح على تلاميذه في إنجلترا أن يرتبوا له رزقا معلوما، ولكن التلاميذ لا يؤمنون لأستاذهم بهذا الحق وهو مضطر إلى أن يرزق امرأته ثلاثة آلاف فرنك في كل عام، ولا بد له من أن ينقص هذا الرزق وأن يختزل منه ثلثه. وهو على هذا كله يعمل، وهو على هذا كله يحب وهو حريص على ألا يقصر في ذات فلسفته ولا في ذات عشيقته. وعشيقته أيضاً تعمل لخدمة الأدب أن أعجزها ان تعمل لكسب المال. لقد نجحت قصتها الأولى بعض الشيء فما لها لا تكتب قصة أخرى وقد بدأت كتابة هذه القصة واتخذت نفسها لها موضوعاً مع شيء من الرمز والإيماء وأخذت كلما كتبت شيئا أرسلته إلى الفيلسوف، فيقرأ ويعجب ويهيم. ويقرظ فيسرف في التقريظ.

ويستأنف زياراته للأسرة محتملا ما يرى من الأعراض يقابله بمثله في كثير من الأحيان. حتى إذا كتب أخو الفتاة رسالة في الرياضة وعرضها على أستاذه ونظر الأستاذ فيها وأطال النظر فلم تعجبه. فيضطر إلى أن يعلن رأيه إلى تلميذ في غير تردد وإلى أن يتحدث إلى الفتاة بأن حبه لها وحرصه على مودة أخيها لن يمنعاه من أن يعلن رأيه في هذا الكتاب الذي لا خطر له. هنالك يزداد سخط التلميذ على أستاذه وهذا هو الذي يدور حول أخته ويشرب القهوة في البيت مرتين في كل أسبوع، ثم لا يشجع تلاميذه ولا يعترف لهم بما يوفقون إليه من فضل.

ويشتد إنكار الأسرة على الفتاة وتثبت هي لإنكارهم، فتجادلهم في أستاذها وتذودهم عنه، وتخرج من عندهم مكدودة متعبة وتؤوي إلى بيتها وقد فقدت أو كادت تفقد الشجاعة والنشاط. فتفكر في الفيلسوف، وفي أنه الرجل الوحيد الذي يؤثرها بالحب، ويصفيها المودة والعطف، فتنازعها نفسها إليه. ولكن نفوراً قوياً يمسكها أن تندفع في هذا الحب. فتكتفي بالشكوى، وتقبل من الفيلسوف عطفه وحنانه، ومعونته المالية أيضاً. وكانت أعراض الضعف قد ظهرت عليها، فأخذت تحس فتوراً وانحلالا. وأخذت تقاوم سعالا متكرراً مضنياً ولم تقدر إلا أن ما تحسه عرض من أعراض هذا الجهد الذي تلقاه. فصبرت واحتملت وجدّت في كتابة قصتها، وجدّت أيضاً في الأنس إلى الأستاذ وأذنت له أن يزورها في بيتها الخاص، فأحيت أمله، وبالغت في إحياء هذا الأمل حين أهدت إلى الأستاذ باقة من الزهر الصناعي صنعتها بيدها، وأرسلت معه أبياتاً من الشعر لا قيمة لها، ولكن الفيلسوف رآها آية من آيات البيان.

وزارها الفيلسوف ذات يوم فإذا هي متعبة تلقى من الآلام جهداً شديداً فتحدث إليها وأطال الحديث واطمأنت هي إليه اطمئناناً شديداً، فلما نهض لينصرف اختلس قبلة من فمها، ولكنه لك يكد يبلغ بيته حتى كتب إليها كتاباً مشهوراً يعتذر فيه من هذه القبلة، لأنه لم يكن يثق حين اختلسها بأن نفسه كان نقيا طيب النشر. وردت عليه في هذه السذاجة البديعة: (لا بأس عليك فأنا التي منحتك قبلة صديقة مخلصة).

ويشتد المرض والفقر بالفتاة. ويشتد الهيام والبؤس بالفيلسوف، وتزول بينهما الكلفة، وتكثر الزيارة عندها وعنده، ويعرض عليها خادمته لتعينها على الحياة. فتأبى، وتقضي الشتاء وحيدة عاملة لا يسليها عما تجد الا زيارات الفيلسوف لها وعطفه عليها، وقد عرضها على الطبيب فقدر لها مرضاً أخذ يعالجه وهو بعيد كل البعد عما كانت تجد. واشترك الفيلسوف في الأوبرا على فقره ليسلي صاحبته بالموسيقى من حين إلى حين. ولكنه لم ينس الحب ولم يفكر في الأعراض عنه فهو ما زال يلح على الفتاة ويتقاضاها هذه الصلة المادية التي تتوج ما بينهما من ائتلاف العقل والقلب وهي تأبى حتى إذا أثقل عليها فأسرف. كتبت إليه تذعن لما يريد. وهي تقول: إنك تطالب بأجر ما تبذل لي من ود ومعونة فلن أماطل في تأدية هذا الأجر. هنالك استحى الفيلسوف واستكبر فرفض هذا التسليم وأبى الا صلة مصدرها الحب والرغبة.

وزارته ذات يوما وهي مكدودة قد أجهدها المرض، واشتدت بها الحمى فلما انتهت إلى البيت استلقت على وسادة ونظر إليها هو، وأن في عينه لحباً لا حد له، وشهوة لا حد لها. وإذا هو يرى عينيها الزائغتين من الألم وخديها الذين توردهما الحمى فلا يرى الا جمالا مغرياً وحسناً فتانا. وهي مستلقية أمامه لا حول لها ولا طول، وهو قادر عليها؛ ولكنه ليس قادراً على نفسه. فهو يشتهي إلى حد الهيام ولكن عقله ووقاره يأبيان عليه هذا الغصب. فتنحل هذه الشهوة الحادة العنيفة إلى حب وقور، فيه شيء كثير من جلال الدين. والمرض والبؤس يلحان على الفتاة، والحب والفقر يلحان على الفيلسوف وإذا هي قد لزمت غرفتها، ولزمتها خادمة الفيلسوف. وجاء الطبيب فلم يشك في أنها مسلولة مشرفة على الموت. وكثر تردد أمها عليها وكثر تردد الفيلسوف أيضاً. وكانت بين الأم والفيلسوف حول هذا الجسم الناحل وهذه النفس التي تتأهب لمفارقة الحياة، خصومات مؤلمة ولكنها لا تخلو من فكاهة. فأما الأم فكانت أسيرة الأوضاع الاجتماعية، أسيرة هذا الحب الذي يعطف المرأة على ابنتها. وأما الفيلسوف فكان أسير هذا الحب الفلسفي، ولم يكن يتردد في أن يعلن أنه وحده صاحب الأمر في هذا البيت لأنه الزوج الخالد للفتاة. ولم لا؟ لقد كان ينهض بكل ما تحتاج إليه، ويعرف من تمريضها ما ظهر وما خفي. لقد كتبت إليه مرة تقول: ما أشد حاجتك إلى الرحمة أيها العاشق التعس، فلم تظفر من خليلتك الا بشر ما يظفر به الأزواج. وكان مؤلماً جداً، وباعثاً للابتسام أحياناً أن يرى الفيلسوف جاثياً أمام السرير وهو يصلي إلى الفتاة فيدعوها أخته وزوجه وابنته. ويؤكد لها ويقسم ليعصمنها من الموت، ولأن عبثت الطبيعة بجسمها فليضمنن هو لنفسها الخلود. ولم لا؟ ألست أرقى امرأة عرفتها الإنسانية. لقد لقيت أرقى عقل عرفته الإنسانية، فلن يكون للفناء عليك ولا علي سلطان.

وساءت حالة الفتاة ودعي القسيس ليهيئها لاستقبال الموت فلم تمانع هي ولم يمانع هو. وأقبل القسيس فأدى عمله والفيلسوف يراه ويسمع له ساخطا حتى إذا انصرف أقبل فأنكر هذه العادة الدينية التي تنتزع المريض انتزاعاً من الحياة لتدفعه بين ذراعي الموت.

أقبل عذب الصوت رضي النفس حنون القلب فجثا إلى السرير وحنى على الفتاة وأخذ يحدثها أحاديث عذبة كلها أمل وكلها رحمة. ثم انصرف وعاد فإذا الأسرة كلها مجتمعة وإذا هم يأبون عليه أن يصل إلى المريضة. فتثور ثائرته ويخرج عن طوره ويأبى أن ينصرف ويهم بإخراجهم جميعا لأن المريضة زوجه وخليلته وهي له وحده دونهم، بذلك اعترفت له وعلى ذلك أقسمت له فيجب أن يخلى بينه وبينها. فأما الأم فتنكر وتبكي وتستخذي. وأما الأخ فيقبل على أستاذه منذرا. وأما الأب الشيخ فيقبل هادئا وقوراً يطلب إلى الفيلسوف أن يدع المريضة لأهلها.

فانظر إلى الفيلسوف وقد جثى أمام الشيخ ضارعاً مستعطفاً حتى رق له الشيخ فقال أنصرف الآن ولك علينا أن ندعوك إذا استيئسنا منها. خرج الفيلسوف فلزم داره فلما كان من غد جاءه الرسول فأقبل مسرعاً حتى انتهى إلى البيت. فلما رأته الأسرة انفرجت له وخلت بينه وبين غرفة الفتاة. فدخل وأغلق الباب من دونه وأرتجه فأحكم إرتاجه. وأقام ساعات طوال لا يخرج ولا يدخل عليه أحد. ويستطيع الخيال أن يذهب كل مذهب في تصور ما قال الفيلسوف للفتاة المحتضرة أو ما عمل أمام هذا الحب العظيم الذي كان الموت يغلبه عليه قليلاً قليلاً. فلما تقدم النهار ودنى المساء فتح الباب وخرج صامتا لا يلوي على شيء. فأقام في داره ولم يشهد الجنازة ولم يشيعها إلى القبر. وماذا يعنيه من الجنازة؟ لقد حاول أن يصل إلى هذا الجسم فلم يجد إليه سبيلا وحاول أن يصل إلى هذه النفس فلم تقاومه ولم تمتنع عليه، وإنما أسرعت إليه فأقامت في عقله وقلبه. لم تمت كلوتيلد وإنما أودعته خير ما فيها فهي إذا في قلبه، هي إذا تقاسمه حياته الذائلة حتى إذا انقضت هذه الحياة الموقوتة امتزجت بنفسه فكانت منها نفس واحدة خالدة. عكف الفيلسوف في داره على هذه الصورة يعبدها ويهيم بها وما هي الا أن استحال حبه لكلوتيلد ديناً وضعت له التقاليد وألوان الصلوات والعبادات. وأغرب من هذا كله أن الحياة الظاهرة للفيلسوف لم تتغير. فدروسه كانت تلقى في نظام ومجلاته كانت تقرأ في نظام ورسائله كانت تقرأ ويرد عليها في نظام أيضاً.

ما أعجب أمر الإنسان تراه ساذجا يسيرا وأن شخصه لشديد التعقيد.