مجلة الرسالة/العدد 6/خواطر!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 6/خواطر!

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1933



ضجة!

هي موسيقى كلها نشوز، موسيقى خفاقة مضطربة؛ يثيرها فرد بل تثيرها في الفرد يده اليمنى، وليست الموسيقى الا تعبيراً عن الذوق والإحساس. وقد اشتهر المصريون من يوم خوفو وأترابه بالذوق الرفيع، والإحساس السامي. . .

والمصريون أمة مرحة طروب؛ وإذا كان هناك شك فقد بطل الشك، وأثبت نزعة المرح في أمتنا بائع العرقسوس!

في أحيائنا الوطنية وأنصاف الوطنية يسير هذا الرجل يحمل إلى صدره آنية ضخمة، خرج من فوهتها لوح من الثلج طويل يترجح بين البياض والسمرة. . . ويمسك بيده اليمنى وعاءين من النحاس الأصفر، يتنافران أحياناً؛ فإذا تجاذبا تعانقا، وكانت قبلتهما تلك الموسيقى التي يضج لها الشارع، وتطل عليها الملاليم، وتملأ لها الكوبات، ويحسوها الناس فرحين، وتنفرج الشفاه عن لفظ الجلالة. .!!

وعلم الله أن بائع العرقسوس وشراب العرقسوس، لا يستحقان هذا التقدير، وليس من الذوق أن يثيرا هذه الضجة المزعومة، وإلا كان لبائع التمر هندي أو الرمالي أو جروبي أن يسير وفي معيته طبل بلدي.!!

تقليد!

يزعمون أن التقليد لا يفيد، وأن المقلد أعرج بالقياس إلى صاحب الفكرة، أو كالتل بالنسبة للجبل، ويعطينا الزاعمون أمثلة من الأدب، فيقولون: إن الأدب الروماني ظل للأدب اليوناني، ولهذا كان الأدب الروماني ضعيفاً بالقياس إلى أدب اليونان. ثم يعرجون على حياة الجماعة، فيقولون: إن تقليد الناس للناس في مظاهر حياتهم معناه أن المقلد يستمر على ذيل القافلة يتطلع ولا يتقدم، ويبصر ولا يفكر.

وسواء أكان هذا الرأي صواباً أم خطأ فأنا أرى أن تقليد الإنسان للإنسان هو قضاء على تفكير المقلد، وعبودية لعبقريته الكامنة. وأن النفس التي تعيش على تفكير نفس أخرى، أجدر بالزراية وأحق بالتثريب.

فتياتنا في مصر أردن خلع البراقع وأردن تقليد الغربيات، فماذا اخترن لرؤوسهن من لباس؟ اخترن (البيريه) وما أعجب وضع هذا البيريه على الرأس! ذلك الوضع الذي يحتاج إلى حارس يراقب رأس الآسنة! محافظة على ذلك البيريه الذي تنافر مع معظم الرأس وتجاذب مع بعضه، مصغياً إلى الشمال جدا. .! وحسب موقع البيريه من الرأس أنه يترجح بينها وبين الأرض، وأنه في حاجة إلى إنسان يراقبه من عثرة السقوط! أما لون البيريه فأغلب الظن أنه تقليد أعمى لجوارب كرة القدم في ملاعب القاهرة. .!

أنا لا أكره البيريه وإنما أكره وضعه من الرأس ولونه السخيف. . .

سخاء!

لعل طبيعة السخاء في المصريين تغلب على طبائعهم جميعا، وليس يشك عاقل في أن السخاء طبيعة محبوبة ترضاها الإنسانية المعذبة التي لا تجدها في كثير من الأحيان. ولكن، نعم، ولكن السخاء قد يركب العقل والقلب ويصبح نوعا من الإسراف، فيه ثورة على أمن الناس وراحتهم!. .

في الترام أو في السيارات العمومية تجد هذا السخاء يمتط ويعرض وتطول حباله فإذا به ثورة. . سحاء يدفعه الوفاء حيناً وتدفعه المظاهر أحياناً، هذا يريد أن يكلف نفسه ما وسعت فيتحمل عن صديقه عبء التذكرة. . . والصديق يأبى أن يستغرقه هذا الفضل!. ويرغب في أن يكون سباقاً في هذا المضمار!

وتقوم ثورة تحسها في اللسان، وقد اجتمعت عنده أغلظ الايمان، وتراها في العينين الزائغتين، وفي اليدين المندفعتين، تحمل القروش إلى المحصل! وتبدأ الثورة رويداً رويداً ثم تتكاتف الألسنة، وتبرق العيون، وتندفع الأيدي؛ هذا يريد أن يدفع، وذاك يود أن يسبق صاحبه، والمحصل يظل حائرا، وقد وسعت يده أكثر مما يطلب، ويرجو إن أمكن أن تصل يد قبل أختها. فأغلب الظن أن يدي الصديقين تصلان معاً في فترة واحدة، وفي عاصفة من التهليل والتكبير!. أما الراكبون فلست أشك أنهم لا يغضبون، لأنهم في هذا السخاء سواء يعلنونه ما ملكت إيمانهم وما وسعت جيوبهم، وكم أخاف أن تقوم هذه الضجة فلا يجد أحدهما في جيبه غير ثمن تذكرته، وتصبح ثورة السخاء هباء في هباء، والناس من حولهما يضحكون أو يأسفون؟!.

إبراهيم عبده