مجلة الرسالة/العدد 6/الشاي
مجلة الرسالة/العدد 6/الشاي
في عام 543 بعد الميلاد، حضر من الهند إلى الصين ناسك متعبد، يذيع في الناس دينه ويدعو إلى الخير والسلام. وما وطئت رجلاه أرض الصين، حتى نذر أن يصوم عن النوم تسعة أعوام، يتأمل فيها فضائل ربه (بوذا) ويعدد مناقبه، ويسبح بآلائه وحمده، وظل على هذه الحال صاحياً ثلاثة أعوام، ثم غلبه النوم، فلما استيقظ استشاط غضباً من نفسه. ولما كان لكل زلة عقاب، قص أجفان عينيه، وألقى بهما إلى الأرض. ثم أخذ من جديد في التأمل والتعبد خمس سنين أخر، ثم بدأت رأسه تميل للنعاس، ولكن وقعت يده اذ ذاك على شجيرة قريبة، فأخذ يتلهى بمضغ أوراقها، فوجد فيها القوة على مغالبة النوم، ووجد فيها اليقظة المنشودة، فأتم تسعة الأعوام المنذورة في يقظة وتهجد. وكانت هذه الشجيرة تسمى بالصينية (شا).
بهذا تتحدث أساطير الصين. ومهما يكن من الأمر، فلا شك أن الشاي أول ما عرف في الصين، ثم انتقل منها إلى اليابان، وهناك زرعوه تعمداً، ثم انتقل غرباً إلى الهند، فأوربا. ولعل أكثر الأمم الأوربية شرباً للشاي، الأمة الإنجليزية، حتى ليظن ظان أنه نبات متوطن بها، وأن عادة شربه نشأت بداءة في تلك الجزيرة الغربية، ثم تفشت في الأمم مشرِّقة. وليس الأمر كذلك، فان الشاي كان شيئاً نادراً في إنجلترا في منتصف القرن السابع عشر، وكان ثمن الرطل منه نحو عشرة من الجنيهات. وكان شراباً جديداً يسقاه الخاصة في مقاهي مختارة. ولما بدأ يدخل المنازل كانوا يغلونه كما يغلون الخضر، ثم يصفونه، فأما الماء فيصبونه في البلاعة جهلا، وأما الورق فيبسطونه كالمربيات على الخبز المزبود فيأكلونه. وبالطبع صحح هذا الخطأ سريعاً تجار لهم في ذلك مصالح، وزاد المستهلك من الشاي في تلك البلاد عاما بعد عام، حتى أربى في السنوات الأخيرة على 400 مليون رطل بمعدل نحو من ثمانية أرطال للفرد في العام.
والشاي أوراق شجيرات لا يكاد يزيد ارتفاعها على متر ونصف المتر، تظل خضراء طول العام، فلا تعرو في الخريف، تحمل وريقات صغيرة، يتراوح طولها بين خمس السنتيمترات والعشر، لها شكل كسنان الرمح، وحرف ذو أسنان. وتزرع تلك الشجيرات فلا يقطف منها شيء في العام الأول، فإذا حانت السنة الثانية تهيأت وريقاتها للقطاف، ويزداد المقطوف منها بتتابع الأعوام. ولما كانت تزرع لورقها، لا لخشبها أو ثمرها، كان لا بد من تقليم أفرعها، كي لا تطول مُصعِدَة، وينتج عن هذا خروج أفرع جديدة من جوانب الأفرع المقلمة، أفرع تكتسي كلها بالورق فيكثر المحصول من الأوراق. وبعد قطف الأوراق تنشَّر على حصر لتجف وتذبل، ثم تدرج وتبرم باليد في ضغط على أسطح من الخشب، والقصد من ذلك تكسير الخلايا لتجود بزيتها العطري، فتطيب رائحته. ويعقب ذلك عملية الاختمار فتعرض الأوراق لدرجة حرارة تتراوح بين 35، 40 درجة مئوية، فتتحول من اللون الأخضر إلى الأصفر، ثم يقتم لونها إقتماما، وذلك بسبب الخمائر التي فيها، فهي تؤكسد بعض حامض التنيك الذي بالورق، فتستحيل إلى مادة ذات لون قاتم تكسب الشاي لونه المألوف. وعملية الاختمار هذه من الأهمية بالمكان الأول، وعلى إجادتها تتوقف جودة الشاي.
أما الشاي ذو اللون الأخضر الذي يباع في الأسواق فيحضر بطريقة كطريقة الشاي الأسود الآنفة، غير انه يحمص قبل تخميره في أوعية تسخن بالغاز تسخيناً هيناً، وهذا التسخين يقتل بعض تلك الخماير التي كانت سبباً في أكسدة حامض التنيك، وفي إحداث اللون القاتم، فإذا تخمرت الأوراق بعد ذلك، قامت بالتخمير بقية الخمائر التي لم يقتلها التسخين، ولهذا يظل الشاي حافظاً لشيء من إخضراره الأول وانفتاح لونه.
والشاي يحتوي مواد كيميائية كثيرة، أهمها ثلاثة أصول: أولها الزيت الطيار، وهو الذي يكسب الشاي نكهة تصعد إلى أنف شاربه فتجد منها السبيل إلى قلبه ونفسه. ومقدار هذا الزيت بالغ في القلة، ولعله لو زاد لما طاب الشاي شرابا. وثانيهما حامض التنِّيك، ويسمى التنِّين كذلك؛ وهو مادة صلبة سحيقة بين البياض والسمرة تذوب في الماء. ويبلغ مقدار التنين في الشاي على العادة من 10 إلى 17 في المائة من وزن الأوراق. والتنين قابض شديد، تعرف أثره في لسانك إذا تذوَّقته. وسبب قبضه انه يرسِّب الزلال والمخاط اللذين باللسان والفم، وبأغشية الجسم الأخرى كالتي تتبطَّن بها القناة الهضمية من معدة وأمعاء. فتجف تلك الأغشية وتنقبض وتقل إفرازاتها. ولذلك كان التنين دواء للإسهال، ودواء للالتهابات التي تعتري القناة الهضمية. فانه فضلا عن تقليل الإفرازات، فإن الراسب الذي يحدثه عند التقائه بمخاط جدران الأمعاء الملتهبة، يقي هذه الجدران مس الطعام في سيره واحتكاكها بما فيه من بقايا خشنة مؤذية. ويستخدم التنين دواء للثة الدامية، وفي التهاب الحلق فيتعاطى غرغرة. هذه كلها لا شك فضائل ولكن في المرض، أما في الصحة فهي مؤذيات يزيد أذاها بالإسراف من شرب الشاي. فمن ذا الذي يحب الإقلال من إفرازاته الطبيعية التي عليها مدار الهضم؟ ومن ذا الذي يحب أن يستعيض عن معدته الطرية الملساء بما فيها من مخاط بمعدة كجلد القرب؟ عرفت سيدة عجوزا يؤذيها الشاي خفيفا، ولكنها تستريح عليه إذا كان ثقيلا كلون الدم السكيب. وكانت تتتعاطاه في بدء كل طعام وفي آخره؛ وما ذاك الا أنها كانت قريحة المعدة لا تحتمل مس الطعام وإن لان. ولكن ليت شعري عمَّ يتساقاه فلاحونا عافاهم الله، فتلك بكارجهم لا تكاد تطفأ من تحتها النار، فيقذفون فيها بالماء فالشاي، فالماء فالشاي، حتى يصبح الشراب أقتم من طالعهم الأسود، أعن أمعدة قريحة يتساقونه فيجدوا فيه شفاء من ألم؟ أم لأنهم لم يجدوا في سوء الغذاء وقلته وفي الامراض الكثيرة المتوطنة بمصر كالبلهارسيا والانكلستوما أداة كافية لهد قواهم فاتخذوا من الشاي في العقد الاخير أداة جديدة تقتل في بطأ وطول؟
وثالث الأصول التي بالشاي وأهمها مادة قلوية تسمى بالكافيين، وإن شئت قلت القهوتين، وإن شئت قلت الشايين، وهذه كلها معناها الأصل الفعّال في الشاي أو في القهوة المتعارفة؛ فالأصلان واحد. وهذا الأصل أهم ما في هذين الشرابين من الأصول الطبية. أما أثره فيظهر في مراكز المخ العليا، فهو يزيد في يقظة العقل عامة، وفي المقدرة على الحكم في الأمور وعلى حسن الاستنتاج، وربط الفِكَر. وهو يذهب بالتعب عقليا كان أو جثمانياً. ولعل شرب الناس له في العصر بعد انقضاء أكثر عمل اليوم، كان لحكمة اهتدى إليها الشاربون بغريزتهم. وهو فوق ذلك يدرّ البول.
وللشاي في الأمم المدنية الحديثة أثر اجتماعي كبير، فقد اتخذت منه تلك الأمم وجبة خفيفة، خفيفة على المعدة وعلى الجيب على السواء، يجتمع عليها أهل الأعمال يتحدثون برهات قصيرة، وأهل المودة يتسامرون ساعات قليلة، ويلتقي عليها الأحباب في برء وعفة، يتجاذبون أطراف الأحاديث الحلوة، ببطون بالطعام خفيفة، وقلوب بالحب مفعمة ثقيلة.