مجلة الرسالة/العدد 6/الثور في مستودع الخزف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 6/الثور في مستودع الخزف

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1933



للدكتور محمد عوض محمد

جعل الثور يطوف في نواحي المدينة، ويجول في طرقاتها في ساعة غفل فيها الرعاة، وغاب الحراس. فلم يزل يمشي على غير هُدىً، حتى ساقه القدر المحتوم إلى مستودع الخزف:

في دار صغيرة متعددة الحجرات، جمع أهل المدينة تراثهم الخالد (أو الذي حسبوه خالداً) من خَزَف قديم وحديث.

وصناعة الخزف أقدم صناعات الإنسان جميعاً. بدأ يمارسها منذ آلاف السنين، وهو بعد في مثل سذاجة الأطفال، فكانت في العصور الأولى شكولاً ساذجة، وصوراً بسيطة. يراد بها النفع والفائدة، لا الزينة والحسن، فلا نقش فيها ولا تزويق، ولا إتقان في الصنع ولا إبداع. ثم لم تزل ترقى برقي الإنسان، وتمشي وإياه جنبا إلى جنب، وتحاكيه في تقدمه ورفعته، حتى غدت فناً من أجلّ الفنون، وصناعة من أشرف الصناعات. وأبدع فيها الخيال البشري أيَّما إبداع، فأصبح منها اليوم ما يعد تحفة القرون وفخار الفنون.

وهذه المدينة عريقة في صناعة الخزف البديع، قد نبغ فيها في جميع العصور، رهط من كبار رجال الفن، فرفعوا في العالم ذكرها. وحلقت شهرتها في سماء الفنون. ولم يكن لها في هذه الصناعة ضريب.

وفي هذه الدار الصغيرة، قد أودع أهل المدينة خير ما أنتجته قرائح بنيها على مدى القرون، لكي تكون معرضاً لهذه الصناعة، يزورها الناس في كل آونة، فتنعم عيونهم بما فيها من جمال باهر، وتنعم نفوسهم بما يبعثه الجمال في النفس من سعادة وغبطة. فكان بابها مفتوحاً النهار كله، يقصد إليها الناس على الرحب والسعة، في كل ساعة من الزمان.

وفي ساعة نامت فيها ملائكة السعد واليمن، واستيقضت أبالسة النحس والشؤم، ساقت المقادير العجيبة الغريبة، ذلك الثور العنيف المخيف، إلى هذه الدار - من دون الديار جميعاً!

ولم يلبث طويلاً حتى حملته أرجله إلى داخل الدار. فأجال عينيه فيما حوله، فإذا أمامه آيات الفن، مصفوفة على المناضد والرفاف: من أواني قد ألبستها الحسن يد صناع، وتعاونت على نقشها وتصويرها البراعة والخيال. . . ها هنا صور تمثل الطبيعة بزهرها ونَوْرها، وخضرتها ونضرتها، وأنهارها وعينها، ونبتها ودوحها، ومائها وسمائها. . . وهناك صور تمثل الطبيعة كما يراها خيال العبقري، لا كما يراها الناس، فيزيد في حسنها حسناً، وفي شكولها أشكالا وضروباً. . .

وها هنا صور للحياة، تذكرنا وصف أبي نؤاس للكؤوس، تتمثل فيها الناس في جدهم ولعبهم، وفي سرورهم وكمدهم؛ وحين يريحون وحين يسرحون؛ وحين يدأبون وحين يمرحون. . ومن تماثيل ذات حسن عزيز؛ كأنما نصبت هناك لتقيم المعاذير لمن عَبَدَ الأوثان، ومجَّد الأصنام: منها القائم الناهض، والجاثم الرابض، والمتكئ والمستلقي، والساكن الهادئ، والثائر النافر. . بعضها قد ألبس ثوباً أو بعض ثوب. وبعضها عارٍ إلا من الحسن. وكلها آيات في الإبداع والابتكار.

فتباركت الأيدي القديرة، التي أحالت الطين والصلصال، إلى كل هذا الجمال والجلال!.

رأى الثور هذا كله، وما برأسه إدراك للفن أو تقدير للحسن؛ وما في غريزته فهم لهذا الجمال المتَّسِقِ المؤتلف، وهذه الصناعة الباهرة الساحرة. . .

كلا. . . بل في غريزته عنف وبطش، وتحطيم وتدمير، فأجال فيما حوله نظرة بهيم. ثم تراجع إلى الوراء قليلا، شاهراً قرنين حديديين كالفولاذ. واندفع نحو تلك التحف والطرف وصال فيها وجال. . وهي (وا أسفاه!) هَشَّة ضعيفة، سهلة المكسر، لا حول لها أمام العنف ولا قوة. فطاحت تلك الآيات إلى الثرى، وتناثرت قطعها الغالية في جوانب الدار!

وحملق الثور في التدمير الذي أحدثه، وكأنما راقه منظره. فأعاد الكرة، المرة بعد المرة.

وما هي الا دقائق معدودة، حتى لم يبق بالدار تمثال قائم، ولا إناء منصوب؛ بل استحالت جميعا إلى شظايا مبعثرة، وأجزاء متناثرة. وقد اختلط بعضها ببعض، فما تميز العين جديدها من قديمها، ولا طارفها من تليدها؛ ولا آنيةً من تمثال، ولا رأساً من جسم. . . لقد صارت جميعاً أكداساً من الخزف المحطم، ليس فيها من الجمال أثر، ولا يرى فيها شاهد على براعة الصناعة.

في بضع دقائق استطاع هذا البهيم العنيف أن يقضي على تراث القرون، وثمار القرائح، وخلاصة الفن؛ وأن يحيل هذه الدار، ولم يكن لها نظير في جمال التنسيق، إلى دار فوضى قد شاع فيها الخراب والدمار!

ولم يكن بالدار غير فتاة ترعاها. هالها أن رأت ذلك الثور المخيف، وأحست بالشر، يوشك أن يحدق بالدار ومن بها. فغافلته وهو يلهو بالكسر وبالتحطيم؛ وانطلقت تنشد النجدة والمعونة. . .

وبعد لأى أقبل الناس، علَّهم أن ينقذوا البقية الباقية. فلم يجدوا بقية باقية. . .

وهل شفي الغليل أن قُتل الثور ومُزِّق كل مُمَزق؟

إن دماء ثِيَرَةِ الأرض جميعا لا تعادل آية واحدة من آيات الفنون!

ويلُ الورى من عَنيفٍ أحمقٍ خَرِفِ، ... كأنه الثورُ في مستودع الخزفِ

رأى جمالا وفناً ليس يفهمه ... وهاله ما رأى من مُبْدَع الطُّرَفِ

فلم يزل مُرْهِفاً قَرْنَيه، مندفعاً ... يجري، فيكسر ما ألْفَى من التحف

كأن في صدره حقداً ومَوْجِدة ... لكل شيء بديع الصنع مؤتلف

وكيف يدرك (ثور) أنَّ ذي تُحَف ... للحفظ والصون، لا للمحوَ والتلفِ؟