مجلة الرسالة/العدد 599/الدستور في شعر شوقي
مجلة الرسالة/العدد 599/الدستور في شعر شوقي
بمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله
(بقية المنشور في العدد الماضي)
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
- 6 -
وأية علاقة بين توت عنخ آمون والدستور؟ قد تكون الجمع بين النقيضين: قديم مغرق في القدم يبعث الدهش والعجب، وحديث طريف تمت إليه النهضات بسبب، وقد تكون إخبار توت عنخ بأروع ما جد في مصر بعد تلك الحقب، وقد تكون غير ذلك، ولكنها على أي حال ليست بالعلاقة القوية التي تتداعى لها المعاني وتتوافى الخواطر، فلم يبق إلا أنها نزعة أصيلة في نفس شوقي إلى الدستور يتلمس للتصريح بها معارض القول، فيشيد بفضل الدستور في هداية الأمم وحياتها.
يحدث شوقي توت عنخ في شماتة بدثور حكم الفرد، وغبور عهد الظلم، ويفخر عليه بأنه في عصر الشورى والحرية وسلطان الرأي العام على الرعاة والحكام، وكأنما هجس في قلب شوقي أن توت عنخ قد يجد في خضوع الملوك لشعوبهم غضاضة أو انتقاصاً من سلطتهم وأبهتهم، فبدره بأن الملك فؤاد أجل منه في قلوب شعبه المتمتع بالدستور؛ على إنه أشرف بنعمة الإسلام.
وكأنه وازن مجد مصر في عهد توت عنخ واتساع ملكها ومناعتها وبأسها بحالها في عهد فؤاد، فرجح الدستور وحده ما مضى، وانه لشرف للدستور أن يرجح عند الموازنة، وشرف للملك فؤاد أن يفوق في المفاضلة والمقارنة.
وينتقل إلى أثر الدستور في إعزاز الرعاة والرعية، فيبين في فخامة وضخامة وجلال أن قوة الملوك وسلطانهم وحبهم، إنما يكفلها الحكم النيابي وحده لهم، وأنه لا استقلال لمصر ما لم يمضه الدستور وحكم الشورى، لأنه يجمع رواد الأمة وزعماءها في ناد واحد يتحاجون ويقترحون ويراقبون، وإذا لم ينعقد مجلس النواب فقلوبهم شتى، نجد الحوادث وهم يلهثون، وأمور مصر فوضى وإن وليها الخلفاء الراشدون لا عاصم لمصر إلا دستورها، تصلح به ما فسد من أمورها، وإن شوقي لصنع بارع الحيلة في مطالبة الملك فؤاد بالتعجيل به، وفي بيان آثاره وفضائله، فهو النور يهدي الضالين، والمصباح يستضيء به المصلحون فيبعثون من الكهوف الجهال الغافلين، وهم يعدون بالملايين يرسفون في قيودهم، وينقادون لأفراد يحكمونهم طاغين، وليس مثله في علاج هؤلاء الزمني إلا معجزة سيدنا عيسى، فنوره سيشع على الجهلة عمي القلوب فيبصرون ويعلمون، ويده الرقيقة القوية ستحطم قيود المتخلفين فينهضون ويعدون، وأنه للحق والعدل والدواء الوحيد.
هاهنا جلال الفكرة، وجلال الأداء، وتأثيره، وطرافة الخيال، وهاهنا قلب الشعب يخفق، ولسانه ينطق، ويده تصفق، ومن أدلى من شوقي بذلك كله؟؟
زمان الفرد يا فرعون ولى ... ودالت دولة المتجبرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرض ... على حكم البرية نازلينا
فؤاد أجل بالدستور دنيا ... واشرف منك بالإسلام دينا
بني (الدار) التي لا عز إلا ... على جنباتها للمالكينا
ولا استقلال إلا في ذراها ... لمتبوع ولا للتابعينا
ترى الأحزاب ما لم يدخلوها ... على جد الحوادث لاعبينا
وإن فقدت فأمر القوم فوضى ... وإن وليته أيدى (الراشدينا)
إذا سارت به أيد شمالا ... أتت أيد فسرن به يمينا
فعجل يا ابن إسماعيل عجل ... وهات النور واهد الحائرينا
هو المصباح فأت به وأخرج ... من الكهف السواد الغافلينا
ملايين تجر الجهل قيداً ... وتسحب بالقليل المطلقينا
فداو به البصائر فهو عيسى ... وفك براحتيه المقعدينا
ومن ير دونه حقاً فإني ... أراه وحده الحق المبينا
وفي قصيدة أخرى بعنوان توت عنخ والبرلمان يتجلى اعتزازه بالحكم النيابي، وكفالته بأن تسود مصر ويحكمها بنوها، وكأنه يلمح دعاوى خصومها بأنها لم تبلغ بعد رشدها، فليست جديرة بالدستور والبرلمان فيرد عليهم في حماسة وثقة بالشعب وسلامة عنصره وجدارته بالدستور والبرلمان.
وتنطق أبياته ببهجته بافتتاح البرلمان يوم المهرجان، وقد احتفى به الشعب من شيب وشبان وعقائل وفتيات، وتهادى موكب الملك فؤاد علي الريحان، تخطر العظمة في ركبه، ومن كفؤاد في عظمته وعظمة آبائه؟ وانه ليقيم في دار الندوة مجد مصر، ويؤسس الشورى ويوطد دعائمها، ويسوس بها هذا الجيل السعيد، وليس أدل على عظمة فؤاد وعلى سخائه من تنازله عن سلطته لشعبه الوفي.
مصر الفتاة بلغت أشدها ... وأثبت الدم الزكي رشدها
ولعبت على الجبال وحدها ... وجربت إرخاءها وشدها
وبعثت للبرلمان جندها ... وحشدها للمهرجان حشدها
حدت إليه شيبها ومردها ... وأبرزت كعابها وخودها
ونثرت فوق الطريق وردها ... واستقبات فؤادها ووفدها
موثلها وكهفها وردّها ... وابن الذين قوموا مقدها
وألقوا بعد انفراط عقدها ... وجعلوا صحراء ليبيا حدها
وبسطوا على الحجاز أيدها ... وسيروا العاتي فيه عبدها
حتى أتى الدار التي أعدها ... لمصر تبني في ذراها مجدها
فثبت الشورى وشد عقدها ... وقلد الجيل السعيد عهدها
سلطته إلى بنينا ردها
- 7 -
ولما ائتلفت الأحزاب صاغ قصيدته (البرلمان) فكرر الاطمئنان إلى الدستور وأنه أمان من طغيان الفرد، وعهده ظليل جميل، وهو الكفيل لكل مجد أن يجني ثمار جده، ولقد كسبته مصر بجدها لم تنله عفواً أو يوهب لها وهباً، فقد جالد رجالها بسلاحهم في الثورة العرابية فسجلوا جدارتهم بالحياة الراقية والحرية، وجاهد أبناؤها في الثورة الحديثة فباعوا دماءهم وأرواحهم. فالدستور إذن يقوم على دعامتين: إحداهما ضحايا النضال في التل الكبير، والأخرى شهداء الصيال في الثورة. والدستور عصمة من الهوى، ونواب الأمة حراص على مالها لا يغتنمونه، أعوان لسلطانها لا يستصغرونه، يتساندون في الضراء، ويتعاونون في السراء، ويعالجون الأمور برفق وأناة إذا عصف الجو، وتنمر العدو، أو اصطدم الإصلاح بقديم من التقاليد لا خير فيه فترسو السفينة على شاطئ السلامة وقد سلم ربابنتها وركبها.
وشوقي ليبق في امتداح النواب بهذه الصفات، لأنه يدعوهم لها في معرض المدح بها، وينههم عليها في أسلوب من الأخبار، ومن هنا يزكيهم للشعب، ويحصنهم بوصاياه من وراء ستار.
الحق ابلج والكنانة حرة ... والعز للدستور والإكبار
الأمر شورى لا يعيث مسلط ... فيه ولا يطغي به جبار
عهد من الشورى الظليلة نضرت ... آصاله واخضلت الأسحار
تجني البلاد به ثمار جهودها ... ولكل جهد في الحياة ثمار
بنيان آباء مشوا بسلاحهم ... وبنين لم يجدوا السلاح فثاروا
فيه من التل المدرج حائط ... ومن المشانق والسجون جدار
أبت التقيد بالهوى وتقيدت ... بالحق أو بالواجب الأحرار
في مجلس لا مال مصر غنيمة ... فيه ولا سلطان مصر صغار
ما للرجال سوى المراشد منهج ... فيه ولا غير الصلاح شعار
يتعاونون كأهل دار زلزلت ... حتى تقر وتطمئن الدار
يجرون بالرفق الأمور وفلكها ... والريح دون الفلك والإعصار
ومع المجدد بالأناة سلامة ... ومع المجدد بالجماح عثار
- 8 -
ولقد عرض للدستور المصري ما يعرض لكل وليد أو لكل جديد، فحورب وأوقف، فماذا كان موقف شوقي نصير الدستور؟ لما ائتلفت الأحزاب سنة 1926 لإنقاذه برئاسة الزعيم الخالد سعد سجل شوقي هذا الاجتماع الخطير في قصيدته (المؤتمر) فامتدح الحرية ومدح الزعماء ثم خلص إلى أن الله أنعم على مصر بائتلاف أقطابها، وفيهم الحول القلب، والصرحة العلنة يكمل بعضهم بعضاً، وهم جميعا أسنادها وأعلامها وأبطالها يشيدون سياج الملك بالدستور لا بالقنا والسيوف.
وبرع شوقي غاية البراعة فعبر في جلال وروعة إنه لا جلال ولا جمال لتاج لا تلتمع فيه جواهر الدستور وإن شرق بنوادر الماس وروائع الدر. ومن ذا الذي يقرأ له هذا البيت فلا يشعر بالجلال؟ ومن ذا الذي يقرأ هذا البيت ثم يجحد أن الشاعر كلف بالدستور أيما كلف؟؟ ثم يأسف أن عطل الدستور وأقفر ناديه وطيرت عنه بلابله، ويصف في حسرة هذا التعطيل، وبشاعة إغلاق البرلمان حصن الحق كما يسميه، فثكناته في شوق إلى أبطالها وكماتها، ومقاعد النواب مهجورة ومنبره معطل، وإنه لموحش قد نسج العنكبوت به بيوته، ويشبه حاله إذن بغار ثور حين اختبأ فيه الرسول عليه الصلاة والسلام ومعه صديقه فنسج العنكبوت على بابه، ولعله يريد أن الغار حمى الرسول والإسلام، وأن البرلمان سيحمي الحق والعدل والشورى، وإلا فلا وجه للمشابهة بين هذا وذياك.
الله ألف للبلاد صدورها ... من كل داهية وكل صُراح
وزراء مملكة دعائم دولة ... أعلام مؤتمر أسود صباح
يبنون بالدستور حائط ملكهم ... لا بالصفاح ولا على الأرماح
وجواهر التيجان ما لم تتخذ ... من معدن الدستور غير صحاح
احتل حصن الحق غير جنوده ... وتكاليف أيد على المفتاح
ضحت على أبطالها ثكناته ... واستوحشت لكماتها النزَّاح
هجرت أرائكه وعطل عوده ... وخلا من الغادين والرواح
وعلاه نسج العنكبوت فزاده ... كالغار من شرف وسمت صلاح
- 9 -
وقبيل 15 مارس سنة 1924 يوم افتتاح البرلمان الأول أقام نادي المعلمين حفلا ألقيت فيه قصيدة لشوقي عرض فيها للدستور كعادته، فيوم افتتاح البرلمان غرة في تاريخ مصر، وهو في الأيام عيدها، وسيتفيأ المصريون بظلال الدستور ويسعدون، وإذ كان في حفل تكريم المعلمين العلم دعامة من دعائم الملك فقد رجا النواب ألا يضنوا على التعليم بالمال، ويبارك للشبان أن جهادهم أثمر وأينع:
مصر إذا راجعت أيامها ... لم تلق للثبت العظيم مثيلا
البرلمان غدا يمد رواقه ... ظلا على الوادي السعيد ظليلا نرجو إذا التعليم حرك شجوه ... ألا يكون على البلاد بخيلا
قل للشباب اليوم بروك غرسكم ... دنت القطوف وذللت تذليلا
- 10 -
وبعد فنختم دعواته إلى الدستور وضرورته وآثاره بأبيات من تحيته للنسر المصري المرحوم محمد صدقي حين قدم طائرا من برلين إلى القاهرة سنة 1930 يدعوه فيها أن يحلق فوق قبة البرلمان السامقة المسموكة للفصل في مشكلات مصر، يتنافس النواب والشيوخ هناك ذائدين عن الحق كالبنيان المرصوص
قف تأمل من علو قبة ... رفعت للفصل والرأي الصراح
نزل النواب فيها فتية ... في جناح وشيوخا في جناح
حملوا الحق وقاموا دونه ... كرعيل الخيل أو صف الرماح
ثم في رثاء المرحوم أبى هيف بك يسر إليه حديث الائتلاف، ويختم الحديث والقصيدة بقوله لسعد:
أخرج لأبناء الحضارة مجلساً ... يبقى على اسمك في العصور ثناء
ويقول في رثاء سعد:
أو لم يكتب لها دستورها ... بالدم الحر ويرفع منتداها؟؟
وفي رثاء إسماعيل باشا أباظة يقول:
إذا سلم الدستور هان الذي مضى ... وهان من الأحداث ما كان آتيا
ألا كل ذنب لليالي لأجله ... سد لنا عليه صفحنا والتناسيا
- 11 -
ولقد كنا نحمد شوقي لو أنه استمسك بالدستور واستعصم ثم استكفى، وبحسبنا منه الإثارة والتوجيه، ولكنه مع ذلك أرشد الشعب إلى واجبه في اختيار نوابه، السفراء برأيه، المعبرين عن رغباته، الناظرين بلسانه، الذائدين عن كرامته وحريته وسلطانه، فليحسن الشعب اصطفاءهم، وليحذر عوامل الخديعة ومضلة الاختيار.
فلا يؤثر الثراء أو الجاه، ولا يبيع التزكية بمال، ولا يتخدر بخلابة الخطابة، أو يتأثر بسحر الوعود الكذابة، وضمان ذلك أن ينشر الناخبون أمام عيونهم صفحات المرشحين للنيابة عنهم فيشرفو بالنيابة ذوي الجهاد والخلق والفضل والعلم ونزاهة النفس وعفة اليد والاعتزاز بكرامتهم وكرامة مصر سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، وجهاء أم من صميم الشعب، ومن العار عليهم أن يبعثوا إلى دار النيابة تماثيل من حجر أو من خشب، لها حسبان في العدة، ولا أثر لها في رخاء أو شدة، وإذا كان الدستور قد استنقذ من بين أنياب الاحتلال فإن الإنجليز يرصدون على الشعب هفواته، ويحصون على كل نائب زلاته، فليدقق الشعب في الاختيار، وليفقه النواب تبعة هذا الفخار،
أيها الشعب لقد صر ... ت من المجلس قابا
فكن الحر اختيارا ... وكن الحر انتخابا
إن للقوم لعْينا ... ليس تألوك ارتقابا
فتوقع أن يقولوا ... من عن العمال نابا
ليس بالأمر جديراً ... كل من ألقى خطابا
أو سخا بالمال أو قد ... م جاهاً وانتسابا
أو رأى أمية فاخ ... تلب الجهل اختلابا
فتخير كل من شَبَّ ... على الصدق وشابا
وفي قصيدة مشروع 28 فبراير يكرر هذا النصح، وبين وظيفة البرلمان وخطره:
قل للكنانة قول الصدق من مَلكٍ ... مؤيد بالهدى لا ينطق الكذبا
دار النيابة قد صفت أرائكها ... لا تجلسوا فوقها الأحجار والخشبا
اليوم يا قوم إذ تبنون مجلسكم ... تبنون للعقب الأيام والحقبا
وإن رضيتم عمرتم ركنه ثقة ... وإن غضبتم تركتم ركنه خربا
وإنما هو سلطان يُدَان له ... إذا تكفل بالأعباء وانتدبا
يقول عنكم ويقضي غير متهم ... العهد ما قال والميثاق ما كتبا
وفي قصيدته (العلم) يقول:
ناشدتكم تلك الدماء زكية ... لا تبعثوا للبرلمان جهولا
فليسألن عن الأرائك سائل ... أحملن فضلا أم حملن فضولا إن أنت أطلعت الممثل ناقصاً ... لم نلق عند كماله التمثيلا
فادعوا لها أهل الأمانة واجعلوا ... لأولى البصائر منهم التفضيلا
إن المقصر قد يحول ولن ترى ... لجهالة الطبع الغبي محيلا
ويختم قصيدته (الأزهر) بهذه الصيحة:
دار النيابة هُيئت درجاتها ... فليرق في الدرج الذوائب والذرا
الصارخون إذا أسيء إلى الحمى ... والزائرون إذا أغير على الشرى
لا الجاهلون العاجزون ولا الألى ... يمشون في ذهب القيود تبخترا
نضر الله ذكراك يا شوقي، وكتب لك الخلود، فلقد كنت كما قلت:
وإني لغريد هذى البطاح ... تغدي جناها وسلسالها
ترى مصر كعبة أشعاره ... وكل معلقة قالها
أدار النسيب إلى حبها ... وولى المدائح إجلالها
احمد محمد الحوني
المدرس بالسعيدية الثانوية