مجلة الرسالة/العدد 598/على هامش النقد
مجلة الرسالة/العدد 598/على هامش النقد
الرباط المقدس
كتاب توفيق الحكيم
للأستاذ سيد قطب
خيل إليَّ في وقت من الأوقات أن توفيق الحكيم قد بلغ مداه وارتقى آفاقه، وأنه منذ الآن سيكرر نفسه، مع شيء من التحوير والتعديل
خيل إليَّ هذا وأنا أقرأ (سليمان الحكيم) فأجد فيه اختلافاً ما في موضوعه وشخصياته عن أهل الكهف، وشهرزاد، وبيجماليون؛ ولكنه يتفق معهما في طريقة تناول الموضوع وفي إدارة الحوار مع تعديل طفيف
ثم كتب (زهرة العمر)، فلاحت بوادر آفاق جديدة، ولكن لها شبهاً في خطرات المصباح الأخضر والبرج العاجي. وإن ظهرت في صورة رسائل لا في هيئة مقالات فالفرق في صميم العمل الفني هنا كذلك طفيف.
ولكن هذا الوهم قد تبدد من نفسي وأنا أقرأ (الرباط المقدس) كتابه الأخير. هنا أفق جديد من آفاق توفيق الحكيم ونغمة جديدة، وعطر جديد. . . إنه عطر النضوج، ونغمة الاكتمال، وأفق الأستاذية. في الموضوع والأداء والطريقة، وسائر ما يقاس به العمل الفني الكبير.
ولقد التمعت من قبل ومضات من هذا الجديد في أعمال توفيق الحكيم؛ ولكنها بالقياس إلى (الرباط المقدس) تبدو بواكير فيها الالتماع والحلاوة، دون النكهة العميقة والنضوج الأخير.
فالخطرات الذهنية - التي اعتدناها من المؤلف - لا تقف هنا عادية، تتخايل بالألاقة والالتماع. إنما هي هنا تسري في مادة حية، وتخطر في إطار من اللحم والدم يمنحها الحرارة والحياة. . . هنا قلب إنساني يضبطه ويدل على حركاته ذهن فنان. وهذه هي اللمحة الجديدة في فن توفيق الحكيم.
لقد كان في (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) شيء من هذا. ولكن النبض الحيوي كان هناك باهتا ساكناً غير ملحوظ في ثنايا التنسيق الفني الدقيق. أما في (الرباط المقدس) فالنبض الحيوي يساوق التنسيق الفني، ويبدو كلاهما كاللحمة والسدى في النسيج الواحد، أو كالجسد والروح في الكائن الحي.
وفي الكتاب صفحات من خطرات الفكر، ووثبات الغريزة، وسبحات الروح، ووسوسة الضمير، ونزوات اللحم والدم، وصراع القوى البشرية في النفس الواحدة يقل نظيرها في كل ما سجله الأدب العربي الحديث.
والمهم ليس هو التماع هذه الصفحات في الكتاب. ولكن تناسق العمل الأدبي كله في مبدئه إلى نهايته، في مستوى متقارب من النبض والحرارة والالتماع والنضوج.
لقد أدركت بعد قراءة الكتاب خطورة الأحكام النهائية على المعاصرين. فلقد أعد بحثاً عن (المدارس الأدبية المعاصرة) وكدت أنتهي إلى حكم قاطع في فن توفيق الحكيم وطبيعته وطريقته. . . فهاأنذا أجدني في حاجة إلى تعديلات أستعد حيثياتها من (الرباط المقدس). وإلا فما كان أدراني أن في طاقة المؤلف بلوغ هذا الأفق الجديد. وإن كل ناقد يحترم نفسه يكون قد أصدر حكما سابقاً على توفيق الحكيم يجب أن يعاود حكمه فيتناوله بالتعديل!
القصة قصة امرأة تخون، امرأة منحرفة، تدعوها نوازع اللحم والدم فتستجيب، وتغريها بدعة العصر في التحلل من القيود فتفلسف السقوط بالحرية والتجديد، وتنظر إلى ما تسميه (مغامرة) نظرتها إلى أمر يومي صغير، لا يجوز أن يحطم عشا ولا أن يحدث ضجة؛ ثم تسخر ما شاءت لها السخرية من رجعية الرجل ومن أنانيته لأنه يتطلب فراشا نظيفا وذرية مضمونة!!!
وقصة رجل مستقيم الفطرة تربى في إنجلترا، ولكنه لم ينحل، وعرف كيف يؤدي حقوق الزوجية كاملة. ولكن في حدود الفطرة السليمة. فضاقت المرأة المنحرفة بهذه الحدود.
وتاقت نفسها إلى (المغامرة) اللذيذة، والاستجابة الممنوعة.
وهي تصف في مذكراتها لحظات هذه الاستجابة وصفا حسيا عنيفا. تصفها كما وقعت محوطة بالوهج واللهب، مغلفة باللذة الحيوانية الهائجة، غارقة في بحران الغيبوبة. . . فإذا وقعت هذه المذكرات مصادفة في يد الزوج الواثق المسكين كانت المفاجأة التي تهد القوى وتذهل اللب، وتمسخ كل لحظة من لحظات الماضي، فتحيلها غولا لئيما يعذب فريسته بالسخرية اللاذعة قبل أن ينقض عليها ليمزقها شر تمزيق!
والقصة بعد هذا كله قصة (راهب الفكر) الذي رأى هذه المرأة أول مرة فرفعها إلى مصاف الحوريات في الفراديس، ونسج حولها هالات من القداسة والسحر، وأقامها في مصاف الآلهة والقديسين. . ثم. . . ثم إذا هو يطلع على الكارثة مع الزوج المنكوب، فيفجع في أحلافه فجيعة الزوج في كيانه، ويحس لها بالحقد والازدراء، ويخيل إليه إنها انتهت من عالمه. . . ولكن!
أجل. ولكنها (المرأة). المرأة الخالدة في ضمير كل (رجل). وراهب الفكر هو كذلك رجل أيضاً. هو مزيج من اللحم والدم والفكر والشعور. ولئن كانت هذه الأفعى قد سحرت فيه رجل الفكر والشعور أيام أن كانت - عنده على الأقل - حورية أو قديسة، فإنها اليوم لتستطيع أن تسحر فيه رجل اللحم والدم، بعطرها العابق ونكهتها الأنثوية، وأن تدعوه لصوت الغريزة الخالدة فيستجيب. ولولا سبب خارج عن إرادته - حسب تعبير القانون - لتم كل شيء في عالم الواقع المحسوس، بعد أن تم في عالم الضمير المكنون!
يا للمرأة! بل يا للحياة في صورة المرأة!
وعلى الهامش رجل آخر أوقعته مذكرات الزوجة المفضوحة في شك مفترس في عشه وفراشه هو الآخر، ولكنه لا يستطيع الحزم واليقين، ولا يطيق جحيم الشك المؤلم فيستريح من قريب. . . ينتحر! ولا يستغرق من القصة إلا القليل، الذي يكفي للموازنة السريعة بين قسوة اليقين المحتملة على كل حال، وقسوة الشك التي تجل عن الاحتمال
أشهد أن الصفحات التي تناول فيها المؤلف عرض نظريات المرأة ودواعيها، ووصف نزواتها ومفاتنها؛ وكشف حيلها ومغرياتها. كالصفحات التي صور فيها كارثة الرجل وعاطفته، وأوضح منطقه واتجاهه. كالصفحات التي أبرز فيها (راهب الفكر) ونزعاته، واختلاجاته ونزواته، كالصفحات التي كشفت روح العصر والعوامل الخفية والظاهرة التي تعمل في كيانه. . . كلها صفحات رائعة فيها ذلك النضوج الأخير
ولكن الصفحات التي عرض فيها صورة (الشك) لم تجيء في مستوى تلك الصفحات. جاءت مختصرة ومجملة، جاءت في لمسات عريضة لم تتناول الجزئيات الثمينة في لحظات الشك المريرة. وختمت في عجلة ظاهرة
حقيقة إن (التنسيق الفني) سمة توفيق الحكيم الأصيلة - هو الذي يجبره في هذه القصة - حسب وضعها الحالي - إلى الاختصار في صورة الشك؛ فكيان القصة قائم على مواجهة الرجل المستقيم بالمرأة المنحرفة في العصر الحديث وعلى اضطراب رجل الفكريين الغريزة والوجدان أمام المرأة الخالدة، وعلى منطق الغريزة العميقة ومنطق الفكر المحلق، وعلى لغة الفناء الأرضي ولغة الخلود السماوي. . . الخ فلا مجال فيها لعرض صورة (الشك) إلا في هذا الحيز المحدود
ولكني أخشى أن يكون تصوير (الشك) في هذا المستوى الرفيع في حاجة إلى طاقة أخرى لم يزاولها حتى اليوم (توفيق الحكيم). طاقة كطاقة شكسبير في (عطيل) أو طاقة العقاد في (سارة) وطاقة الأضواء تتداخل في الظلال، لا طاقة الخطوط الحاسمة التي تفرق بين الظل والنور وإن كنت لا أظنها - بعد اليوم - بعيدة عن توفيق الحكيم. فتصويره لتأرجح (راهب الفكر) في اللحظات الأخيرة يمنحه المقدرة على تصوير (الشك) في النفس الإنسانية في هذا المستوى الرفيع
ونحن منتظرون. . .!
ثم لقد استوقفني المؤلف عند هذا الحوار بين راهب الفكر والزوجة المستهترة كانت تسخر من غيرة الرجل على فراشه، وتعد دفاعه عن هذه الغيرة حماسة منه للرجال.
- (ولماذا لم تتكلم بهذه الحماسة عن خيانة الأزواج؟
- إني لم أبح للزوج أن يخون زوجته
- وإذا خانها. أليس لها الحق أن تخونه؟
- لا
- النغمة القديمة التي نسمعها من الرجال. تبيحون لأنفسكم ما تحرمون علينا لأنكم أنتم السادة ونحن الإماء.
- بل لأن الرجل هو الذي يعرق، والمرأة هي التي تنفق. اكدحي كما يكدح زوجك واعرقي كما يعرق؛ فإذا تساويتما في التضحيات تساويتما في الحقوق. لا أقول إن الرجل يجب أن يخون. ولكنه إذا خان خان من ماله. ولكن الزوجة تخون من مال زوجها. ثم هنالك شيء آخر، هو النسل. . فالزوج يخون ولا يدخل على زوجته نسلا مدلساً. أما الزوجة فإذا خانت أدخلت على زوجها نسلا ليس من صلبه. لن تكون هناك مساواة مطلقة بينكن وبين الرجال في هذا الإثم إلا إذا تطوراً الزمن تطورا آخر فرأينا الزوجة تناضل في الحياة وتكتسب بالقدر الذي يربحه الزوج. . . ثم يستطاع بواسطة العلم أو بغيره من الوسائل أن يفرز للزوج نسله عن نسل غيره بغير وقوع في شك أو ارتياب. . . إلى أن يتم ذلك فلا تتحدثن عن المساواة في الخيانة.
- إذا حدث ذلك فلن تكون هنالك زوجية. ولن يكون لها محل على الإطلاق. .
- ولن يكون للخيانة عندكن لذة ولا طعم. إذ لن يكون الزوج ضحيتها. . .
- (يا لك من خبيث!)
أحسب أن هناك اعتبارات غير الاعتبارات الاقتصادية الخاصة بالإنفاق والعائلية الخاصة بالنسل، بل أكبر من العوامل النفسية بين الرجل والمرأة حين يراد منهما بناء أسرة ورعاية أطفال. . . فلندع هذا كله، ولندع منطق الأخلاق لننظر من ورائه إلى منطق الطبيعة. . .
أحسب أن الطبيعة الخالدة كانت تقصد الإشارة إلى معنى خاص وهي تقدم أنثى الإنسان - وحدها دون بقية إناث الحيوان - مختومة مقفلة بذلك القفل الخاص! وأنها لم تحسب حساب العلم في تطوراته التي يستطيع بها فرز النسل أو لا يستطيع. فقامت هي بوسائلها الخفية الخاصة بضمان العفة في الحدود التي تملكها. وما كان عمل فرسان القرون الوسطى حين كانوا يلبسون زوجاتهم أحزمة ذات قفل في ثنايا اغترابهم للحرب، إلا محاكاة لفعل الطبيعة وامتدادا له في صورة عنيفة. فمهما كانت نظرتنا نحن اليوم إلى طريقة التنفيذ، فيجب أن نقدر أصالة الفكرة، وعمقها في تفكير الطبيعة. وإذا كان عصر من العصور ولا يسمح بفكرة القفل المادي، فإن هذا لا ينفي أن فكرة القفل المعنوي أصيلة في صميم الطبيعة كلها لا في صميم النفس الإنسانية وحدها!
إن الطبيعة لأحكم من كل فلسفة أخلاقية، ومن كل سفسطة إباحية. وإن كل انحراف عن سنتها لهو انزلاق إلى مهاوي الفناء!
سيد قطب