مجلة الرسالة/العدد 598/الثقافة والأخلاق
مجلة الرسالة/العدد 598/الثقافة والأخلاق
للدكتور محمد مندور
هذه مشكلة ما زالت تلح على عقلي منذ أخذت أفكر لنفسي، ولقد كنت ولا أزال أحس أن حلها ضرورة من ضرورات الحياة، لأنها تفسر الكثير من مواقفنا إزاء الناس، فالحديث عنها ليس مجرد رياضة عقلية نلهو بها ونلهي القارئ - وهذا نوع من الحديث تنفر عنه نفسي بطبيعتها وما أرى فيه نفعا لأحد - فمهمة الكاتب لا ينبغي أن تكون الإفحام بالجدل، بل الإقناع بالقلب، ولن تصل إلى إقناع إلا إذا اكتفيت بأن تعرض تجاربك النفسية داعيا الغير إلى مثلها
أول ما أثار تلك المشكلة في نفسي هو ما قرأته في صدر الشباب (لأفلاطون)، إذ يعرض نظرية (سقراط) في أسس الأخلاق؛ ومن المعلوم أن هذا الفيلسوف الجليل كان يرى أن المعرفة هي عماد الخلق، وقد زعم أنك لا تستطيع أن ترتكب الشر إذا أدركت إنه شر، وأنك لابد آت الخير إذا تحققته بنظرك. ولقد أبهج خيالي هذا الرأي، ولكنني كنت أنظر فأرى نفسي وأرى غيري ندرك الخير والشر، ثم لا نملك أنفسنا من الاندفاع في أعقاب الهوى، فيساورني الشك. ووقع بين يدي يوماً قول لفيلسوف فرنسي معاصر هو بول جانيه يقول فيه: (إن الإنسان بطبيعته يفضل الخير المحسوس على الخير المدرك). ولما كانت شهوات النفس أقرب إلى الحس منها إلى الإدراك المجرد، فقد كان من الطبيعي أن تستأثر بالنفس ما دام هدفنا الأخير من الحياة هو التماس السعادة بتحقيق أكبر قسط مستطاع من رغباتنا، وليس من شك في أننا نحس أن خيرنا في هذا التحقيق. وذلك ري يبلبل الفكر، ولكنك لن تعدم السبيل لرده إذا تعمقت الأمور، فأنه وإن يكن من الصحيح أننا نفضل الخير المحسوس على الخير المدرك، إلا أننا لن نعجز عن تغليب الخير الأخلاقي إذا أنزلناه هو الآخر منزلة الخير المحس. وذلك بألا نكتفي بتحقيقه بالنظر المجرد، بل نتعمق به إلى مجال الإحساس فندرك بقلوبنا ما فيه من جمال. وجماله تلحظه في صفات ثلاث يورثها النفس وهي: الحرية والقوة والمرح. فأما الحرية، فأي نشوة يستشعرها الفرد عندما يحس إنه لم يعد عبدا لشهواته، وأما القوة، فهل نحن بحاجة إلى أن نبصر القارئ بعظمة النفس البشرية عندما تنطلق بقوتها كاملة لا يحدها نفع حقير تحرص عليه، أو رغبة وضيع تبغي تحقيقها؟ وعندما تحس بنفسك حرة قوية أي مرح سيأخذ بالروح عندئذ؟ ثم هل هناك ما ينشط ملكات الخلق في الفرد مثلما ينشطها المرح الروحي؟ وأي سعادة في الحياة تعدل سعادة الخلق؟
هكذا نستطيع أن نجد حلا للجزئية التي عرضنا لها، ولكن المشكلة لا تزال قائمة في عمومها، ولقد لاحظ الكاتب الفرنسي (ديهامل) أن من الكتاب والفنانين من وهبوا ملكات ساحرة دون أن يمنعهم ذلك من انحلال الأخلاق. ولقد قسا بهم الرجل فشبههم بالعاهرات بلهو الناس بأجسامهن ثم لا يمنعهم ذلك من احتقارهن. ولابد لتفسير الظاهرة من أن نفرق بين ثقافة النفس وملكة الخلق، فليس من الضروري للأديب، أو الفنان الخالق، أن يكون رجلاً مثقفاً، بل من الناس يرى أن ثقل الثقافة قد يعوق الخلق، وباستطاعتك أن تستعرض أسماء الكثيرين من كبار الكتاب أمثال: شكسبير وموليير وروسو وديكنز وبلزاك وفالري، ممن لم يتلقوا تعليما جامعياً منظما، وإنما هم رجال وهبوا القدرة على الخلق، ثم جدوا فحصلوا بقراءاتهم مواد أولية يعملون فيها ملكاتهم، وليس هذا هو المقصود بالثقافة، وإنما الثقافة بأدق معانيها هي تكوين نظام عقلي وغرس روح علمية في النفس، وهذا النظام وتلك الروح لا ينموان بالتحصيل أو بجمع المواد الأولية، بل هما راسبان يتخلفان بالنفس بعد أن ننسى ما حصلنا وما جمعنا. وعلى هذا النحو نستطيع أن نحل هذا الجزء الآخر من المشكلة، فنميل إلى الاعتقاد بأن ثقافة النفس خليقة بأن تسدد الخلق
ولكن كيف تسدد الثقافة الخلق؟ للجواب على ذلك يجب أن نميز بين المعرفة والثقافة: فالمعرفة التي تنحصر في تحصيل المعلومات لا نظن أن لها تأثيراً ما على الأخلاق، وإلا فأي أثر تريد أن يكون لعلمك بقانون الجاذبية أو بأن نابليون قد انتصر في موقعة أوسترلتز أو ما شابه ذلك على سلوكك الخلقي. وعلى العكس من ذلك الثقافة بالمعنى الذي حددناه، فإذا وصلت بفضلها إلى نظام عقلي وروح علمية، نمت بنفسك قدرة على تمييز الحقيقة، ثم محبتها، وعندئذ ستحس بالحرية الروحية، وقوة النفس، ومرح العقل، التي ركزنا فيها جمال الخير. ولي على هذا شاهد في أستاذ تلقيت عنه العلم، وهو رجل دؤوب على القراءة، وإطالة التفكير فيما يقرأ، حتى لأحسبه لطول ما قرأ وفكر قد وصل إلى ما وصفت من نظام عقلي وروح علمية، وأكبر ظني أن هذا النظام وتلك الروح قد أصبحا اليوم أساس سماحته الأخلاقية، فهو من قلائل الناس الذين يحرصون على أن يعطوا كل ذي حق حقه، وهو من قلائل الناس الذين يسلمون لكل فرد بما ينبغي أن يكون له من كبرياء، دون أن يلقى هذا الكبرياء على نفوسهم أي شبح من ظلال. أي جمال تحس في نفسه عندما تلوح لك خالية من عتمة الحسد؟ وقديما قال المفكرون: (إن قليلاً من العلم يبعد بنا عن الله ولكن كثيره يعود بنا إليه)
ونترك العلاقة بين الثقافة والأخلاق في حياة الفرد لنواجهها في حياة الأمم، وهنا تبدو لنا ظاهرة كبيرة لابد من تفسيرها، وهي ما نلاحظه في التاريخ من أن جميع الأمم قد انتهى بها الأمر عندما اتسمت ثقافتها النظرية إلى الانحلال فالفناء، وهذا ما تجده عند اليونان والرومان والعرب على السواء، فما السر في ذلك؟ يخيل إليّ أننا نجد الجواب في أمرين: أولهما: أن الأمم لا تحيا بالثقافة النظرية فحسب، وإنما تحيا أيضاً بتقاليدها. وثانيهما: أن للثقافة النظرية نوعين من النشاط: نشاط هدم ونشاط بناء. فعندما يسبق التفكير الفردي التقاليد ويأخذ في تناولها بالبحث ومناقشة الأسس، لابد من أن يقوضها، لما هو معروف من أن كثيراً من التقاليد لا تقوم على أسس نظرية قوية بل تستند في الغالب إلى مواضعات اجتماعية خلفتها عصور موغلة في الظلام. وإذا كان العقل قادراً على الهدم فهو أقل قدرة على البناء، وبخاصة بناء التقاليد، وتلك لا يكفي في تدعيمها النظر المجرد بل لابد من أن تطرد بها الحياة حتى تنزل من الناس منزلة العادات الآلية، وهذا أمر يحتاج إلى زمن طويل. وهكذا نفس انحلال الأمم: عقل يهدم ثم لا يستطيع لساعته أن يقيم بناء على الأنقاض
وإذا كان العقل يقوض من دعائم الأمم، فإن ذلك لا ينبغي أن يصرفنا عن تثقيفه، فهو ليس منبع الشر وإنما منبعه إنه لم يثقف عند كافة أفراد الأمم المنحلة، بل عند نفر قليل منها هم الذين قوضوا التقاليد. والتقاليد في الحق ليست من ضرورات الحياة الاجتماعية إلا بحكم أنها تحل عند غير المثقفين محل النظام العقلي والروح العلمية اللذين أشرنا إليهما، وعندما تستطيع أمة من الأمم أن تدعي أن كل فرد من أفرادها يملك ذلك النظام وتلك الروح فلن يرهبها عندئذ أن تضيع تقاليدها
وهكذا نستطيع أن نخلص إلى أن الثقافة الحقيقية دعامة قوية من دعائم الأخلاق في حياة الأفراد وحياة الأمم على السواء، وإنما تأتي الكوارث عندما نتخبط في فهم معنى الثقافة ومدى انتشارها بين الأفراد الذين يكونون أمة واحدة
الثقافة ضوء ولابد للضوء من أن يبدد الظلمات.
محمد مندور
المحامي