مجلة الرسالة/العدد 597/جواب على نقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 597/جواب على نقد

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 12 - 1944



للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

تفضل الأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي فنقد كلمتي الرابعة في فساد الطريقة في كتاب النثر الفني، وخالفني في رأيين ارتأيتهما، الأول يتعلق بالبيت المعروف

كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء

والثاني يتعلق بنص من كتاب إعجاز القرآن للإمام الباقلاني

فأما البيت فقد أورده صاحب النثر الفني مثالاً للكلام يكون بالغ الصدق فلا يمنعه ذلك أن يكون بالغ التفاهة. وضربته في كلمتي مثلاً لسوء فهم صاحب الكتاب، لأنه لم يدرك أن تفاهة البيت البالغة راجعة إلى صدقه ولكن إلى نوع من الكذب فيه، لأنه في الواقع بيت كاذب من ناحية التشبيه إذ لم يغاير بين المشبه والمشبه به. وأردت أن أمتحن هذا الرأي باختيار عملي فقلت لو نقلنا البيت عن التشبيه إلى الإخبار، بحذف كأن وإحلال إن محلها، لصار البيت صادقاً ولارتفعت قيمته ارتفاعاً ينجيه من أن يكون مثلاً مضروباً للكلام المستهزأ به. وتعقب الأستاذ بدوي قولي هذا بأن البيت يظل تافهاً حتى بعد التعديل المقترح، بل يكون من وجهة اللغة غير صحيح لأن الخبر فيه لا يفيد فائدة تزيد على المبتدأ، ولأنه لا يحتمل أن يكون من قبيل قول أبي النجم (وشعري شعري)

فأما أن البيت يظل تافهاً فصحيح. لكني لم أزعم للبيت أنه بذلك التعديل ينجو من التفاهة، ولكن زعمت أنه ينجو من التفاهة البالغة التي جعلته مثلاً يسخر منه. وتحول الكلام من تافه بالغ إلى تافه مجرد ارتفاع في قيمته من غير شك، كالعدد السالب الكبير إذا صار سالباً صغيراً أو موجباً صغيراً، وليس كل تافه يستهزأ به، فالكلام التافه كثير، ومضرب المثل للمستهزأ به منه قليل

أما عدم صحة البيت برغم جعله إخبارياً فلست أوافق الأستاذ عليه. ألا يرى أن الإظهار بعد الإضمار، والوصف بعد أن لم يكن وصف، فائدة زائدة في الخبر، لها قيمتها في الإخبار وليس لها أية قيمة في التشبيه، بفرض أن ليس هناك فرق معنوي ما بين الجملة الحالية في الشطر الأول وأختها الوصفية في الشطر الثاني؟ إن الجملة الخبرية في صميمها هي (إننا قوم جلوس) وهي جملة مفيدة من غير شك، كبرت الفائدة أو صغرت. وإسقاط الجملتين، الحالية والوصفية، عند تجريد البيت المعدل هكذا لتقدير فائدته جائز عند الإخبار، غير جائز عند التشبيه، لأن الجملة الحالية - والماء من حولنا - هي من صميم المشبه في بيت التشبيه، وليست من صميم اسم إن بعد أن صار البيت إخبارياً. أي أنها جزء أساسي من المشبه، وليست أختها الوصفية - حولهم ماء - إلا صفراً في المشبه به في البيت فطرح كل منهما من طرفي البيت لتصفيته وتقدير قيمته ممكن في حالة الإخبار، غير ممكن في حالة التشبيه

وأنا مع الأستاذ في أن المبتدأ والخبر - لولا الوصف بالجلوس - ليسا من باب قول أبي النجم (وشعري شعري)، لا لأنه لا يحتمل شيئاً مما يحتمله قول أبي النجم كما يرى الأستاذ، فإن المسألة في مثل هذا مسألة توجيه الذهن إلى معنى غير ما في ظاهر اللفظ، وتوجيه الذهن ممكن في الحالين، ولكن لأن قائل البيت لا ينتظر منه مثل هذه الالتفاتة الذهنية، لأن الذي يعجز عن أن يغاير بين طرفي التشبيه يكون عن مثل هذه الالتفاتة أعجز

على أن الأمر كله هين من الناحية التي كتبت من اجلها الكلمة المنقودة. فلو صح نقد الأستاذ كله لما غير شيئاً من السبب الذي من أجله خطأت صاحب النثر الفني في فهمه أن البيت بالغ الصدق وبالغ التفاهة معاً. ولا أظن الأستاذ يصوب صاحب الكتاب في هذا. والتعديل الذي اقترحته وتعقبه الأستاذ لم يكن، كما قلت، إلا من باب الاختيار العملي للرأي الذي ارتأيته. ولو شئت لاختبرته من الطرف الآخر، بإبقاء حرف التشبيه وإدخال المغايرة على المشبه به، كأن يكون - طير جثوم حولها ماء - بدلاً من قوم جلوس. وهذا يرفع البيت حالاً من الوهد إلى النجد، ويجعله في حالة التشبيه أعلى مرتبة منه في حالة الإخبار، لوضوح التشبيه وخفاء الاستعارة فيما يبدو. لكن الأمر لا يستحق كل هذا التدقيق

أما النص المنقول من كتاب إعجاز القرآن فأمره أهم. والنص محل الخلاف هو: (السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع. وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى. وفصلٌ بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره. ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى)

هذا هو النص. وقد ذهبت إلى إنه مختلف غير متفق بعضه مع بعض، فما قبل قوله: (وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه إلخ. . .) مستقيم، وهو عمود الكلام وأصل رأي الباقلاني، إليه ينبغي أن يرد ما عداه؛ لكن ما بعده لا يتفق معه ولا مع نفسه إلا إذا تبودل المكان بين كلمتين تحل إحداهما محل الأخرى، وبين جملتين تحل إحداهما محل الأخرى كذلك. فتصير بقية الكلام كما يأتي: (وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون اللفظ منتظماً دون المعنى. (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع) كانت إفادة السجع كإفادة غيره. (ومتى ارتبط المعنى بالسجع) كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى). والشرطتان تبينان الكلمتين، والأقواس تبين الجملتين - على أحد وجهين - اللتين حلت إحداهما محل الأخرى ليستقيم الكلام كله

وذهب الأستاذ بدوي إلى أن النص كما هو في الأصل مستقيم واضح كل الوضوح، لا تداخل فيه ولا اختلاف، وجاء بتوجيه هو خير ما يمكن أن يوجه به النص، لولا موانع من ذلك في نفس الكلام.

وأظهر هذه الموانع هو أن توجيه الأستاذ للنص المطبوع يستقيم به أكثر لا كله. فهو مثلاً لم يوجه قول الباقلاني (دون تصحيح المعنى) في قوله: (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى) مع أن هذه الكلمات الثلاث هي التي تحول دون ما ذهب إليه الأستاذ بدوي لأنها صريحة في أن الباقلاني يقصد كلاماً غير منتظم المعنى ولا صحيحه، وهذا لا يتفق مع صدر الجملة الشرطية لأن ارتباط المعنى بنفسه لا بالسجع يضمن صحة المعنى من غير شك لأنه هو المقصود وله في هذه الحالة الاعتبار الأول فكيف يمكن أن يكون غير صحيح أو أن الكلام المرتبط معناه بنفسه مستجلباً للتجنيس دون تصحيح المعنى؟ إن من الواضح أن من فعل الشرط وجوابه مختلفان غير متسقين في هذه الجملة من النص المطبوع؛ كذلك من الواضح أن الاختلاف يزول بالإبدال الذي اقترحته، لأن استجلاب التجنيس دون تصحيح المعنى يتفق مع الحالة الأخرى التي ذكرها الباقلاني، حالة ارتباط المعنى بالسجع وخضوعه له، في القسم الذي قال عنه في صدر كلامه إن المعنى يقع تابعاً للفظ المسجوع. فإذا وضع فعلاً الشرطيتين - أو جواباهما - أحدهما مكان الآخر، زال الاختلاف واتسق الكلام

ونستطيع أن نتبين وجه الحق في هذا الموضوع من طريق آخر: طريق رد النظائر في النص بعضها إلى بعض، لننظر على أي الوجهين يمكن أن يستقيم الكلام كله في نفسه ووفق رأي الياقلاني في تقسيم ما هو على هيئة السجع من الكلام

لقد قسم الباقلاني ما هو على هيئة السجع إلى قسمين في صدر النص: قسم يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وقسم يتبع اللفظ فيه المعنى. ولا خلاف في المقصود من هذين القسمين فأولهما للفظ فيه الاعتبار الأول، وثانيهما للمعنى فيه الاعتبار الأول

هذا القسمان قد أشار إليهما الإمام الباقلاني في بقية النص مرتين: الأولى في قوله (وفصلٌ. . دون اللفظ) والثانية في قوله (ومتى ارتبط المعنى بالسجع. . . دون تصحيح المعنى)

ففي الأولى ذكر صنفين من الكلام: كلام منتظم في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه - وواضح أن هذا مراد به القسم الثاني الذي يتبع اللفظ فيه المعنى - وكلام يكون المعنى فيه منتظماً دون اللفظ ولا محيص من رد هذا إلى القسم الأول الذي يتبع فيه المعنى اللفظ. ويتبين بأدنى تأمل أن الوصف كما هو لا ينطبق على القسم الذي يجب رده إليه، لأن الوصف يذكر كلاما غير منتظم اللفظ منتظم المعنى، والقسم الأول على عكس ذلك تماماً: منتظم اللفظ لأنه قصد فيه إلى السجع، غير منتظم المعنى لخضوعه للفظ وتبعيته له. فلا يمكن أن يكون الباقلاني أراد هذا. فما تعليل الخلف؟ لا شيء إلا أن كلمتي (المعنى) (واللفظ) حلت إحداهما لسبب ما محل الأخرى في الوصف. هذا هو أبسط تفسير ممكن. وإذن يجب أن تكون حقيقة الوصف هي (أن يكون اللفظ منتظما دون المعنى) حتى ينطبق على أول القسمين اللذين قسم إليهما الباقلاني ما هو على هيئة السجع من الكلام

لننظر الآن في الإشارة الثانية إلى نفس القسمين. أشار الباقلاني إلى أحدهما بقوله (ومتى ارتبط المعنى بالسجع) وإلى الآخر بقوله (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع). فإلى أي القسمين ترجع كل من الإشارتين؟ إن من الواضح أن الإشارة الثانية راجعة إلى القسم الثاني الذي يتبع اللفظ فيه المعنى، وإذن تكون الإشارة الأولى راجعة إلى القسم الأول الذي يتبع المعنى فيه اللفظ ويكون للفظ فيه الاعتبار الأول. ليس عن ذلك محيص

من هذا يتبين أن معنى قول الباقلاني (ومتى ارتبط المعنى بالسجع) أي متى جاء تابعاً خاضعاً للسجع، ومعنى قوله (ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع) أي متى جاء مستقلاً عن السجع وجاء السجع تابعاً له. لكن توجيه الأستاذ بدوي عكس الوضع، وجعل ارتباط المعنى بالسجع معناه استلزامه السجع لأداء المعنى على وجهه، أي أن اللفظ المسجوع جاء في هذه الحالة تابعاً للمعنى، فرد صدر الإشارة إلى القسم الثاني، ورد آخرها إلى القسم الأول، أي عكس ما يحتمه رد النظير إلى نظيره في كلام الباقلاني

وما دام قد تبين أن ارتباط المعنى بالسجع هو تبعيته للفظ، وجب أن يكون هذا هو المستجلب لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى، وتكون فائدة السجع كفائدة غيره في حال ارتباط المعنى بنفسه واستقلاله عن اللفظ. ومن هنا التعديل الثاني الذي يقتضيه الاتساق، ويقضي به رد النظائر بعضها إلى بعض، من إحلال فعلي الشطريتين - أو جوابيهما - كل محل الآخر على النحو السابق في الكلمة التي كانت موضع نقد الأستاذ في هذا الجواب

وبعد فهذان طريقان كل منهما يؤدي إلى وجوب تعديل النص المطبوع ليتسق كلام الإمام الباقلاني كله

وتحيتي الخالصة وشكري إلى الناقد المفضال.

محمد أحمد الغمراوي