مجلة الرسالة/العدد 595/عبد الرحمن عزام بك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 595/عبد الرحمن عزام بك

مجلة الرسالة - العدد 595
عبد الرحمن عزام بك
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 11 - 1944



لمن لا يعرفه من قرب

(بمناسبة تعيينه رئيساً للشؤون العربية بوزارة الخارجية،

وأميراً على ركب الحج المصري هذا العام)

للأستاذ عبد المنعم خلاف

(كتلة) دقيقة من الأعصاب! كلها نقاء وطهر، ليس فيها شر أصلا. عليها وجه دقيق الملامح في سماحة وجد وتواضع، فيه نفس عجيبة في هذا الزمان بل وفي كل زمان، تطل من عينين نافذتين فيهما ذكاء، وليس فيهما خبث الذكاء. . . وتتضح عبقريتها إذا نطقت مسترسلة هادئة واصلة إلى أغوار الحق. إذا سمعتها تتحدث سمعت منطقا مسلسلا مرتباً واضحاً يلقى في هدوء وقوة استدلال وبلاغة استيعاب وهدى بصيرة ملهمة، ومنطق طبع سليم من الالتواء والاهتمام بصغارات الحياة وصغائر الناس.

له عقل ذو قدرة عجيبة على تلخيص القضايا الكبرى المربكة وإيضاحها في تحديد دقيق.

بكرت رجولته وحساسيته بالمسئوليات الوطنية والقومية والمالية الكبرى فحمل من أعباء المجد وأوشحته ما لم يحمله أحد في مثل شبابه الأول، وظفر من تقدير من اتصل به من رجال السياسة والحرب في الشرق والغرب، وهو حدث ناشئ في باكورة الشباب، فأدار ثورة وأقام دولة، وأصلح بين أقوام مختلفين، وألف بينهم ووحدهم وهو فيهم غريب نزيل في الحدود الأولى من العقد الثالث من عمره.

عليه سكينة منزلة من الله في جميع الظروف. صابر دائما، باذل دائما، يبذل من نفسه وماله وشعاره قول محمد رسول الله: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم) وهو قد وسع الناس بأخلاقه وماله معاً. فهو في بذل المال يحقق القول الشريف: (يعطي عطاء من لا يخشى الفقر). وما يبذله من النفس شيء كثير عظيم عميق يتصل بأصول الخير في الوجود. الخير السلبي والإيجابي.

نظيف اللسان والجسد. لم يقع عليه ظل شبهة، لا ينطق هذراً لا سخفاً ولا سباباً، ولا ينال أحداً في حضور أو غياب، ويغفر غفراناً واسعاً كل ذنب. يقدر ضعف النفوس البشرية وينظر إليها نظر الملأ الأعلى سواء أكانت قريبة أم بعيدة في الجنس أو الدين والقومية.

حيي يستحي من الناس فينالون منه بحيائه ما يرهقه في بعض الأحيان. ومع ذلك لا يتململ، فهو كالنهر الكبير يأتي إليه كل وارد فلا يرده ولو كان كلباً. . . لأنه واسع طهور لا يتنجس. . . مجمع على حبه من جميع الأحزاب والأجناس والأديان فليس له فيما أظن عدو بالمعنى المعروف للناس. .

متواضع ليس لديه فروق مصطنعة في معاملة الناس، يملكه الفقير الضعيف المحدود ويأنس به.

زاهد حقيقي في دنيا الناس وزينتها، فلا يهتم بصغائر اللباس والرياش. وحظه من الدنيا حظ قليل لم يجد لديه من الوقت ما يتذوقه. .

حليم لا يثور ولا يؤذي عشيرة بجارحة، ولا يحب السيطرة والتحكم، مع ثقة بالنفس واعتزاز بالكرامة في عدم تبجح أو ادعاء أو تظاهر.

ليس به لهفة على شيء مهما كان. فهو دائماً هادئ الأعصاب، وإن كان كثير الآلام الاجتماعية، عميق الأحزان المقدسة في الدين والوطنية والقومية

الخير عنده واضح المسالك، فلا تأويل ولا عذر يصرفه عنه ويصد قلبه عن مقتضيات البر والإحسان. . كأن لكل قاصدته عليه حقا لازماً يلام إذا قصر في أدائه، وطالما عجبت لصبره على رجاوات الناس، فهو كنز من الصبر والاحتمال لا ينفذ، أو هو كالشجرة المثمرة المباحة القريبة الجني، لا ترد يداً عن قطاف. ما عرفه أحد من الناس إلا وأمسك بتلابيبه وعض على علائقه معه بالتواجد! فإن كان من أهل العلم وجد عنده علما وفقها بلباب الحياة وبصرا في شئونها وعلومها. وإن كان من أهل السياسة وجد لديه بصيرة ملهمة تنفذ إلى بواطن الأمور وتشير إلى مصادر الأحداث، وتضع يدها على ما غاب عن أكثر الأذهان، وإن كان من أهل السلوك والخلق وجد عنده فهماً له وتقديراً ورفعاً لشأنه وتشجيعاً واسع المدى. وإن كان من أهل الشر الذين لا يؤمنون بالخير وجد في شخصيته وسلوكه رداً ونقضاً بليغاً على دعواه يحمله على أن يرجع النظر كرتين فيما رأى لنفسه وما اتخذه من مسالك الشر.

إنه يرفع الحياة الإنسانية ويرسم المثل الأعلى أمام (الماديين) وأمثالهم حتى يتيقظو إلى أن في الحياة روحاً من الخير هي أثمن وأعظم مما يملكون وما به يفتنون واليه وحده ينصرفون.

فهو لطيف النفس والجسم كالنسيم الرفيق الذي يدخل الرحمة على النفوس البائسة المغلقة. وبالإجمال لا حصر لوقائعه في المجد والخير والسياسة الرشيدة، ولذلك يستطيع كل من عرفه أن يذكر عنه قصة أو قصصاً تكفي لرفع نفس إلى العظمة والذكر الطيب الخالد.

وقد كافأه الله وجزاه بأن أراه الدنيا في الشرق والغرب فأوسع له في آفاق المعرفة والخبرة، وجمع عليه قلوب من عرفه من رجالات الشرق والغرب. وكثير ما هم!

ولن أنسى قول المرحوم (مستر ألبرت فيش) الوزير المفوض الأسبق للولايات المتحدة في مصر قبيل سفره من مصر إلى منصبه في أسبانيا بيوم واحد حينما زاره ليودعه في مكتبه برياسة القوات المرابطة منذ ثلاثة أعوام تقريباً: (ما كنت لأسافر من مصر قبل أن أودع اثنين: جلالة الملك فاروق وأنت)

فحسب عبد الرحمن بك شرفا أن يذكر هذا الذكر بجوار اسم (الفاروق) على لسان رجل أحب مصر والشرق العربي وفهم روحهما وعرف من يمثلها خير تمثيل.

هذا النموذج الإنساني الرفيع الذي عرفته من قرب معرفة جيدة، أحببت أن أرسم له صورة عاجلة لمناسبة تعيينه عميداً للشئون العربية بوزارة الخارجية وأميراً على ركب الحج هذا العام، أضعها أمام الشباب الذي اختلطت عليه نماذج الخير والمجد، ونماذج الشر والضعة. وإن فيه لقدوة صالحة لمن يريد أن يقتدي.

عبد المنعم خلاف