مجلة الرسالة/العدد 592/صلوات فكر
مجلة الرسالة/العدد 592/صلوات فكر
في محاريب الطبيعة!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
في فيض الحياة
أحياناً ينبثق في روحي فيض غامر من الحياة كما ينبثق الماء في حوض جاف. . . ولن يقيد روحي وقت ذاك قيد ما، بل تكون كعين ثرة تتفجر فتشق الصخر العاتي وتجرف السدود كما يجرف السيل الحصى والحطب والغثاء. . . وأنا حينذاك أحس بإنسانيتي الفائقة، ويزداد شعور ثقتي بنفسي وإقبالي على الحياة. . .
وأتمنى أن يشيع هذا الشعور الفائق الفياض في جميع أرواح أبناء آدم. سواء كانت أرواح تلك الأجسام العاجية الوردية ذات العيون الصافية والشعور الذهبية والعنبرية، التي أتخيلها راقصة ضاحكة في أفراح الحياة مخمورة بخمار الحب وسكرات الجمال وطفور القوة. . . أتمنى لها ذلك حتى لا يكون خمارها خمار الغفلة والزهو والركون إلى فترات الحياة اللاهية مع إهمال ما وراء هذا العالم الفاني من العالم الباقي. .
وأتمنى أن تشيع هذه القوة أيضاً وهذا الشعور الفياض في أرواح تلك الأجسام القبيحة الضعيفة الكئيبة ذات العيون المنطفئة والجلود المجعدة المخددة والشعور الكدرة التي تعبث بها نسائم الحياة كأنها شعور جماجم موتى تعبث بها ريح ثقيلة. . . والتي تتخيل بياض النهار سواد ليل، وذهب الضحى خزف تراب، وحرير الورد إبر شوك وقتاد. . . وترقص على ذلك رقصة ذبيح يجرجر جسمه المتهالك في رعشة الموت وحشرجة الفناء، وتغص بريقها وتأكل أكبادها من الحسرة، وتشرب حميم دموعها من الغصة وتطعم غسليناً وزقوماً. . . أتمنى ذلك حتى لا يكون وراء هذيانها وبحرانها بحمى الألم، وانكسار أعوادها بقاصمات الظهور شيء من يأس الكفر بالحياة والجحود لمستقبلها فيما وراء هذا العالم الفاني من العالم الباقي
فأسكب اللهم فيضك ونورك على أرواحنا، وأوسع ما بينها وبين رحمتك، ولا تظمئها فتجعل هذا الفيض غوراً يغيض ولا يفيض! حياة مضاعفة
لست أحيا حياتي وحدي. . . وإنما أشعر أني أحياها ومعها حيوات جميع الكائنات التي أدركتها بالفكر والقلب!
وتظهر قيمة رحب النفس الإنسانية من مثل هذا الشعور.
إن الإنسان إذا اتصل بالكون اتصالاً وثيقاً كان حرياً أن يقذف الله مفيض الحياة على قلبه فيوضاً من كل منبع من منابع الوجود التي يتعرف إليها بفكره وقلبه!
الحياة بالحس وحده
يلذ لي أن أعيش حيناً بالحس وحده في فراش دافئ وثير في صبح يوم من أيام الشتاء جامد الفكر والجوارح لا أكاد أحرك في فكري وجسدي قوة! حين أتلقى من الحياة فيضاً من فيوض الشعور بالجسد!. . . حينئذ أستقبل الحياة بأنفاسي وحدها آخذها شهيقاً وأرسلها زفيراً في رتابة واسترخاء. . .
وقد يدور في خلدي حينئذ طائف من الأفكار المختزنة أجترها في هدوء كما تجتر الأنعام الجاثمة على العشب الطعام المختزن في كسل واسترخاء واستغراق واستقبال لموجات فيض الحياة من منبعها الخفي غافلة عما يدور في الكون. . .
حينئذ يحلو لي أن أتسمع إلى أنفاسي تتردد بين الجو وصدري، وأن أتسمع إلى نبضات قلبي التي تختلج وتهتز لها كل خلية في جسدي وتنقضي بها لمعة من لمعات روحي. . .
حينئذ أشعر بحنان غامر يغمر أعضائي وآلاتي العاملة في دءوب وقوة وصبر منذ أن دارت دورتها الأولى مع نسمة الحياة التي نفخها فيها نافخ النسمات، فابتدأت تدور طائعة مع جماعات الأحياء التي ترقص برعشات الحياة!
الحياة بالفكر وحده
وفي كثر من الأحيان أشعر بخفة في جسمي كأني لا أحمله ولا صلة لي به إلا إذا تحسسته بيدي. . . وحينئذ قد أشعر أنني صوت أو نظر أو سمع لا أكثر
يعتريني هذا الشعور غالباً حين أكون في الظلام في مهب نسيم رفيق. . .
ترى، هل يكون إحساسنا بالكون بعد انسلاخ أرواحنا من أجسامنا هكذا؟ فنصير كائنات مجردة من الأجسام، ترى وتسمع وتحس بدون هذه الوسائط المادية؟
على أي حال إن هذا الشعور مدخل ندخل منه إلى عالم كائنات الأفق الأعلى الذي يلي أفق حياتنا. . .
الكون الجديد دائماً
أرى الكون صباح كل يوم كأنما فرغ من صنعه الصانع الأعلى في التو والساعة! ولا أجد فيه قديماً إلا ذهني الذي أحس أنه يعرض عليّ صوراً قديمة من الأيام السابقة. . .
إن الله محتف بالكون مجدد عوامل الحياة والنمو فيه!
ولو أنصفنا لصحونا من نومنا كل صباح كأننا مخلوقون في ذلك الصباح وحده. ولأهملنا ما في ذاكرتنا من ذكريات الآلام في الأيام السابقة، حتى نتجدد مع الكون
الكون أبو الهول
كلما تخيلت نفسي فرداً واحداً في غمرات الناس، وذرة ضئيلة بين هذا الكون الواسع الهائل الجبار تنظر بعينين ضئيلتين إلى دولاب الحياة الدائر والى وجه الله القيوم على ذلك الكون وما وراءه، أحسست بهول المسألة الكبرى والنبأ العظيم الذي ينبث في الكون والسر الخفي الذي خلق له. . .!
وحينئذ لا املك إلا ما تملكه الذرة الصغيرة التي تحملها ريح عاصف وتضرب بها في فجاج الأرض في سفر لا ينتهي!
روائح الجنة
الجنة في الأرض ولكنها غير دائمة، نراها في رحاب الجمال في زمان الربيع في سكرة الحب في حالة صفو النفس ورضاها عن نفسها وعن ربها، وقت أن تقول ليس في الإمكان أبدع مما كان!
ولو دامت النفس على هذه الحال لاستراح الناس إلى الدنيا باستراحتهم من أحاسيس القبح والشناعة والشقاء واعتكار البال والسخط على الحياة
ولكن الله حين لم يرد لنا الدوام في هذه الأرض، لوح لنا بالجمال والقبح، والرضا والسخط، والراحة والشقاء، وداولها على نفوسنا حتى نعلم أن الكمال ليس هنا، وأن النقص الذي نراه وندركه هنا هو وسيلة إلى إدراكنا للكمال التام هناك. وما تحلم به النفس من المتاع الدائم والقدرة عليه والانتقال السريع إلى درجة الكشف عن رحاب السموات والأرض في خطرة النفس ولمحة البصر، ولقاء الأحباب بعد الموت والخلود معهم، وعدم وقوف عائق أمام إرادة النفس، وعدم استعصاء شيء على الإدراك و. . . كل أولئك هو من عالم الجنة، عالم (ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) و (لهم فيها ما يدعون) و (لا مقطوعة ولا ممنوعة) و (عرضها كعرض السماء والأرض) و (ما اخفي لهم من قرة أعين) و (رضى الله عنهم ورضوا عنه) و (رضوان من الله أكبر)
إن الله يداول جميع المعاني الأرضية على القلب البشري كما يداول (الفنان) أنغامه على أوتار قيثارة، وفي القلب البشري أوتار للأم لابد من استعمالها لبرز نوعاً ما من الحياة لابد منه في الدنيا. وانفعال النفس نحن العوامل الدنيوية هو الذي ولد لها خواصها، وأخرج منها معانيها الكامنة
وكما تحرث الأرض بالمحاريث وتعزق بالفؤوس لتخرج كوامن العناصر تمد بها الزرع لابد من حرث النفس بعوامل النعمة والشقاء حتى تخرج كوامنها.
عبد المنعم خلاف