مجلة الرسالة/العدد 591/الحروف اللاتينية
مجلة الرسالة/العدد 591/الحروف اللاتينية
للكتابة العربية
للدكتور عبد الوهاب عزام
ذهب الأستاذ عبد العزيز باش فهمي مذهباً عجباً في نقد محاضرتي اللتين نشرت خلاصتهما في مجلة (الثقافة)، بعد أن حشر ما حشر من الكلم الجافي الذي ذكرت نبذة منه في المقال الأول، وإجمال هذا المذهب العجيب أنى كلما ذكرت مقدمة يقتضيها سياق الكلام قال هذا أمر معروف، وكلما عرضت لمزية من مزايا الخط العربي إيفاد لبحثي في (الخط العربي مزاياه وعيوبه) قال هذا ليس في الموضوع. فالموضوع في رأي الأستاذ هو الاعتراف بقصور الخط العربي وسقمه والعدول عنه فوراً إلى الخط اللاتيني. هذا هو الموضوع، فمن جادل فيه فقد حاد عن الموضوع.
بينت حاجة البشر إلى الإبانة عما في أنفسهم، ونقلت جملة من كلام الجاحظ في هذا. فقال الأستاذ: (آمنا وصدقنا، لا لأن الجاحظ أو غير الجاحظ قاله. بل لأن هذا ضرورة ماسة واقعة يدركها كل إنسان، سواء أرادها الجاحظ وغيره أو لم يريدوها. . . وليس هؤلاء المفكرون إلا مجرد مسجلين للواقع المقضي بالضرورة. وهذا التسجيل أستطيعه أنا وأنت وكل عالم متمكن وكل ناقصي التعليم. الخ). ولست في حاجة إلى أن أدحض هذا الرأي فهو داحض بنفسه
وبينت تاريخ الخط في العالم وتسلسل الخطوط من الخط الفينيقي إلى الخط العربي، فاستبان أن الأصل القريب للخط العربي هو الخط النبطي. فقال الأستاذ: (وهو تقرير يستطيعه كل إنسان يعرف لغة أجنبية فيطلع على معجم من معاجمها المطولة. الخ).
أفكان حتما علي أن أترك هذا الحديث وأحذف مقدمة لابد للبحث منها من أجل أن كل إنسان يعرف لغة أجنبية يستطيعه؟ وهل من الحق أن كل من عرف لغة أجنبية استطاع أن يكتب في هذا الموضوع. إن الأستاذ يكلف الناس علمه وذكاءه فيكلفهم شططاً
وقلت إن الخط العربي خط أمم منتشرة في أصقاع مترامية، وأن هذه الأمم على اختلاف لغاتها، أخذت هذا الخط فزادت فيه ما احتاجت إليه وأحكمته وجملته. فقال سعادة الأستاذ: (وهذا التقرير معروف الموضوع عند الجميع. . . فهو هنا مجرد حشو وتزيد لا غناء فيه).
وكذلك ادعى الأستاذ في مسائل أُخرى تحتاج إلى البيان أو يحتاج إليها الاستدلال: أنها معروفة ذكرها حشو وتزيد كأن كل مستدل يلزمه أن يحذف المقدمات المعروفة، ويأتي بدعواه منكرة يعوزها الدليل. أليس الاستدلال يا سعادة الأستاذ هو الاستعانة بالمعروف على معرفة المجهول
لم أستطع والله أن أنسى وأنا أقرا هذا الكلام وشبهه قصة جحا المشهورة، إذ صعد المنبر فقال: أتعرفون ما سأقول؟ - إلى آخر القصة التي يمنعني من ذكرها أنها معروفة يعد ذكرها حشواً وتزيداً
وقلت إن من مزايا الخط العربي أن السامع يستطيع أن يكتب به ما يسمع دون عناء. ولا كذلك الخطوط اللاتينية؛ فإن سامع الكلمة من بعض لغاتها لا يستطيع أن يضبط كتابتها بالسماع، ولابد له أن يراها مكتوبة أو يعلم كتابتها، ومقصدي أن أبين مزية من مزايا الخط العربي واللغة العربية، وموضوعي هو تبين المزايا والعيوب.
فقال الأستاذ: (إن حضرة المحاضر في هذه القطعة ينسى نفسه تماماً. . . إن أحداً لم يشك لحضرة المحاضر ولا لغير حضرة المحاضر من أن الكاتب بالعربية لا يستطيع أن يكتب ما يسمعه. ما شكا أحد هذا إليه قط، لأن أحداً - حتى ولا عطية كاتب الزراعة الجهول - لا يكاد يخطئ في رص حروف النغمات بعضها تلو بعض على الترتيب الذي يسمعه). إلى أن ذكر الأستاذ أن هذه الكتابة التي تسهل على السامع بشكل على القارئ قراءتها الخ. فهل إشكال القراءة وهو مسألة أُخرى ينفى هذه المزية، مزية السهولة واليسر على الكاتبين. أقول الكتابة العربية سهلة على الكاتب. فيقول الأستاذ: لا تقل هذا فإنها صعبة على القارئ. فهل هذا جدل يساير (أدب البحث والمناظرة). ومن الذي نفسه في هذا الجدال.
وقد رأيت - وهو رأي لم أسبق إليه، وإن عده الأستاذ معروفا عند الناس أو في غير الموضوع - أن حذف حروف الحركات من الكلمة ملائم للغات السامية، والعربية خاصة. ورددت هذا إلى اشتقاق هذه اللغات، والتفريق بين الأصول والزوائد فيها. وقلت لو كتبت الحركات أثناء الكلمات لاضطرب اصل الكلمة، وبان في صور مختلفة، وضربت مثلا مادة كتب وقلت لو كتبنا: (كاتابا يا كتوبو، في الماكتابي، كيتابن). بدل: (كتب، يكتب، في المكتب كتاباً) لالتبست مادة الفعل، وهي أصل الاشتقاق والعمدة في التصريف، وظهرت في صور تلبس الأصلي بالزائد - ولهذا كان خيراً أن تشكل الكلمات العربية شكلا خارجا عن بنية الكلمة.
قلت هذا فقال سعادة الأستاذ ما خلاصته: إن اشتقاق العربية وتغيير المادة فيها تغيراً كثيراً يجعلانها أولى بالضبط من اللغات الأُخرى التي لا تتغير موادها أو التي يقل فيها التغيير الخ.)، وما كانت دعواي أن العربية باشتقاقها غنية عن الشكل؛ بل كانت الدعوى أن الشكل الذي وضعه الخليل ابن أحمد أقرب إلى طبيعة العربية من إدخال حروف الحركات في ثنايا الكلمة، فنسى الأستاذ هذه الدعوى وذهب يجادل في غيرها. ثم ختم كلامه بقوله: (وعلى كل حال فإن الكلام في هذا الصدد هو كما ترى من قبيل الأدلة الخطابية المتخاذلة التي إذا عصرتها لم تجدها شيئاً، ولم تدرك لها آية فائدة فيما نحن فيه)
ولست أدري كيف سمى الأستاذ الاستدلال بالاشتقاق والتصريف والحروف والحركات أدلة خطابية. أنها أدلة برهانية واضحة، ليست من قبيل الخطابيات، ولكن الأستاذ يجادل كما يشاء، ويدعي على مجادليه ما يشاء، ويسمي الأشياء كما يشاء؛ فكيف يستقيم معه جدال؟
لم أرد الاستقصاء في هذا الجدال ولكن التمثيل. وحسبي ما ذكرت، وإني أعترف أني عاجز عن الجدال على هذه الطريقة، بل الجدال على غير طريقة، وقد رجعت إلى نصيحة صديق لي من زعماء فلسطين نصحني ألا أحفل بالرد على مثل هذا الكلام
عبد الوهاب عزام