مجلة الرسالة/العدد 59/قرطبة
مجلة الرسالة/العدد 59/قرطبة
نبذة تاريخية عنها
كانت قرطبة تعد من المدن العالمية المهمة، وكانت أعظم مدن الأندلس جميعاً، سواء بأبنيتها الجميلة الفخمة، أم بدور كتبها الكثيرة الواسعة، أم بحدائقها وبساتينها البديعة. وقد أتخذها عبد الرحمن الداخل عاصمة له، وشيد فيها القصور والحدائق والأبنية والمساجد، ولا سيما الجامع المعروف (بجامع قرطبة) وظلت عاصمة للأندلس حتى زمن عبد الرحمن الناصر، ثامن ملوك بني أمية هناك، إذ أنشأ على مقربة منها مدينة الزهراء المشهورة، وجعلها عاصمة له بدلاً منها، وفي عهد الحكم المستنصر ازدهرت البلاد ازدهاراً عظيماً، وكثرت دور الكتب والمدارس، وانتشرت العلوم والآداب بين طبقات الأمة، وكان لقرطبة النصيب الأوفر من عنايته، حتى لقد عين أخاه الأمير عبد العزيز مديراً لإحدى مكاتب (دور كتب) تلك المدينة العظيمة، ثم جاء هشام الثاني، فعجز عن إدارة المملكة، وتدخل أرباب المصالح والمطامع في أمورها، وكانت النتيجة انفصال الأقاليم واستقلالها، ومن جملتها (قرطبة) إذ استقلت سنة 421هـ - 1029م، واستولى عليها (أبو الحزم بن محمد بن جهور)، وأسس الدولة الجهورية فيها (422هـ - 1030م)، ولما مات (435هـ - 1043م) تولى الأمر بعده أبنه (أبو الوليد محمد بن جهور)، ثم توفى وخلفه ابنه عبد الملك بن محمد، فكرهته الرعية لسوء معاملته لهم، ثم خلعوه، وأخرجوه من قرطبة (461هـ) متحدين مع جيش محمد بن عباد. وبسقوطه انقرضت دولة بني جهور، ومنذ ذلك الوقت بدأت قرطبة في التأخر، وفي سنة 1236م استولى عليها الإفرنج، وطردوا أهلها، واتخذوها حصناً على حدود مملكتهم، وهي الآن من المدن الصغيرة، ويبلغ عدد نفوسها (80000) نسمة. . .
معيشة أهلها وصنائعهم
أما في تلك العصور الزاهرة فكان عدد نفوسها يربو على المليون، وكلهم يعيشون في خفض من العيش ورفاهية وسعادة، ومما ساعدهم على تلك الرفاهية إتقانهم لفنون وصنائع كثيرة، وزيادة نسبة المتعلمين والمثقفين بينهم، كما كان الحال في باقي المدن الأندلسية المتوسطة والكبيرة، فاشتهرت غرناطة بجودة حريرها وطليطلة بتفننها في صنع الأسلحة، وقونقة بجوخها الأخضر والأزرق، وقرطبة بصناعة السروج ودباغة الجلود الخ. . وكان في قرطبة مصانع كثيرة مختلفة، تصدر أنواع السلع الأخرى إلى المدن الأندلسية، وإلى خارج البلاد أيضاً. .
العلم والأدب
نقل صاحب نفح الطيب عن ابن سعيد (مؤلف الحلة المذهبة في مملكة قرطبة): (أن عرب قرطبة كانوا يتفاخرون بثلاث: بأصالة
البيت، وبالجندية، وبالعلم. قال: وهي أكثر بلاد الأندلس كتباً، وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب، صار ذلك عندهم من آلات التعين والرياسة، حتى أن الرئيس منهم الذي لا تكون له معرفة، يحتفل أن تكون في بيته خزانة كتب، ويحتفظ فيها، ليس إلا لأن يقول: عندي خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس عند غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به. . .)
وكان فيها مكاتب كثيرة كبيرة، تحوي أثمن الكتب وأجلها وأفضلها، ولهذا فاق القرطبيون غيرهم من أهل الأندلس والأقطار الأخرى، بكثرة علمائهم وأدبائهم، وبشدة إقبالهم على التعليم والتثقف، وعلى حبهم للعلماء والأدباء، واحترامهم لهم، ولصناعة العلم والأدب.
وكان للحكم الثاني في قرطبة مكتبة، فيها ستمائة ألف كتاب لها أربعة وأربعون فهرساً، في كل فهرس 20 ورقة لأسماء الدواوين فقط!!. ويقول جستاف لوبون - بهذه المناسبة - إن شارل الحكيم الذي تولي أمر فرنسا بعد خلافة الحكم بأربعمائة سنة (1364م) بذل جهده في أن يجمع أكبر عدد ممكن من الكتب للمكتبة الأهلية بباريس - حين أسسها - ولكنه لم يستطع أن يجمع أكثر من تسعمائة مجلد ثلثها دينية!. . .
وكانت الكتب تردها من بغداد ودمشق وخراسان والأستانة، وكان فيها 80 مدرسة جامعة، يقصدها طلاب العلم الراقي والأدب الرفيع من أنحاء العالم المختلفة، ومنهم البابا سلفستر الثاني، وكان قد ذهب إلى أشبيلية فدرس فيها زمناً، ثم إلى قرطبة، وذلك قبل أن يصبح بابا (999م)، وكان يسمى قبلاً الراهب جربرت، وممن تخرجوا في جامعات قرطبة، بطرس فنرابل وقسيس كولوني، وكذلك (شانجة) ملك ليون، وغيرهم كثيرون من الأوربيين الذين نذهب اليوم إلى جامعاتهم التي حلت محل الجامعات العربية، والله يغير ولا يتغير، والله على كل شيء قدير!. . .
وكان في قرطبة علماء وأدباء وفضلاء كثيرون، نذكر منهم (أبو بكر يحيى سعدون الأزدي القرطبي) الملقب (بصائن الدين) وهو أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن والحديث والنحو واللغة الخ. . ولد بقرطبة (486هـ) ومات بالموصل (567هـ). وأبو الوليد عبد الله بن محمد يوسف المعروف (بابن الفرضي) وكان فقيهاً عالماً من مؤلفاته (تاريخ علماء الأندلس) و (حسن في المختلف والمؤتلف) و (في أخبار شعراء الأندلس)، وقد ولد سنة 351هـ. وقتله البربر يوم فتح قرطبة سنة 403هـ ابن زيدون ولد سنة 394هـ. ومات بأشبيلية سنة 463هـ.
وأحمد بن محمد بن البر، من موالي بني أمية، له كتاب في الفقهاء بقرطبة، ومات في السجن ليلتين بقيتا من رمضان. ومنهم (أحمد بن محمد بن موسى) له مؤلفات كثيرة في أخبار الأندلس، توفي في 12 رجب سنة 344هـ. وولد في (10) ذي الحجة سنة 274.
و (خالد بن سعيد القرطبي) أحد أئمة الأندلس، مات فجأة في سنة 352هـ في الستين من عمره، وحسن بن الوليد بن نصر وابن الدباغ الأزدي، وغيرهم. وغيرهم. . .
خطط قرطبة
تقع قرطبة على الشاطئ الغربي من نهر الوادي الكبير، وبينها وبين البحر خمسة أيام، وذكر ياقوت الحموي في معجمه أنها كانت (أعظم مدينة في الأندلس، وليس لها في المغرب شبيه في كثرة الأهل وسعة الرقعة، ويقال إنها كأحد جانبي بغداد، وان لم تكن كذلك فهي قريبة منها، وهي حصينة بسور من حجارة، ولها بابان مشرعان في نفس السور إلى طريق الوادي من الرصافة - والرصافة مساكن أعالي البلد متصلة بأسفله من ربضها وأبنيتها، مشتبكة محيطة من شرقيها وشماليها وغربيها وجنوبيها، فهو إلى واديها، وعليه الرصيف المعروف بالأسواق والبيوع ومساكن العامة يربضها. . .)
وكان طول قرطبة أربعة وعشرين ميلاً، وعرضها ستة أميال (وكان عدد اربضها 21ربضاً، في كل ربض من المساجد والأسواق ما يقوم بأهله، ولا يحتاجون إلى غيره، وكان بخارج قرطبة ثلاث آلاف قرية في كل واحدة منها منبر وفقيه.)
وكان فيها (200000) بيت و (600) مسجد و (50) مستشفى و (900) حمام سوقي، فضلاً عن الثمانين مدرسة التي ذكرنا، وكان فيها قنطرة طولها 800 ذراع وارتفاعها 60 ذراعاً وعرضها 20 ذراعاً، وفيها ثماني عشرة حنية، وتسعة عشر برجاً.
وقد تنافس الخلفاء والأمويون في تعمير هذه المدينة وتزينها وتجميلها، فبنى عبد الرحمن الداخل (القصر الكبير) وجعله مقراً له، وشيد المنصور بن أبي عامر قصر الزهراء سنة 360 على نهر الوادي الكبير، وأنتقل إليه سنة (370هـ) وبنى باقي الملوك والوزراء والعظماء قصوراً كثيرة نذكر منها (الحائر)، الروضة، المعشوق، المبارك، التاج، السرور الخ. .
ولكن أعظم بنايات قرطبة، بل الأندلس كلها، المسجد الجامع، الذي شيده عبد الرحمن الداخل، وكان في الأصل كنيسة فأعجبه موقعها فأخذها من النصارى مقابل أموال وأراض كثيرة.
جامع قرطبة
والواقع أن هذا المسجد آية من آيات الفن العربي، ودليل قاطع على علو كعب العرب في النقش والبناء، وبرهان ساطع على سمو الذوق العربي، والمقدرة الفنية العربية. ولم يكن يضاهيه من المساجد والقصور في ذلك العصر سوى الجامع الأموي بدمشق، وليس من السهل وصف عظمة جامع قرطبة وتصويره للقارئ وصفاً وتصويراً صادقين، بل ليس من السهل على القارئ أن يدرك عظمته إذا ما نظر إلى عدة صور فوتوغرافية عنه، ومع ذلك فنحن باذلون جهدنا في أن نعطيك فكرة عامة عنه:
فطول المسجد 600 قدم وعرضه 250 قدماً وارتفاعه 20 متراً، وفي عرضه الأيمن 38 صحناً، والأيسر 29 صحناً، وفيه 1293 عموداً من الرخام، تيجانها منقوشة بمختلف النقوش الرائعة. (وفيه من جهة الجنوب 19 باباً مبطنة بصفائح من النحاس المتوج (نحاس المدافع)، وأوسطها مرصع بصفائح من الذهب، وبأعلاه ثلاث كرات ذهبية فوقها رمانة من العسجد)
أما الباب العمومي - وهو باب المنارة - فهو من النحاس أيضاً، عرضه 8 م وارتفاعه 20 م، وفي الزاوية القبلية من لمسجد تقوم منارته العظيمة، وهي مربعة الشكل، وطول كل ضلع منها 12 م وارتفاعها 13 م، وتتحلى بتفاحات فضية وذهبية، محيط كل منها نصف متر أو أكثر بقليل. ويقول صاحب (رحلة في الأندلس): أنها خمس طبقات في كل طبقة عدد كبير من الأجراس.
وكانت قبة المسجد مشيدة على 365 عموداً من المرمر، والمحراب والمقصورة من أجمل ما في المسجد، ففي تلك المقصورة كان الخلفاء يصلون (وهي بناء مرتفع مربع مزين بنقوش جصية بديعة جداً، وعليها كتابات قرآنية وأحاديث نبوية) وأما المحراب ففسيح واسع، ويتكون سقفه من قطعة رخامية واحدة وفيه كتابات كوفية قرآنية، وكان فيه المصحف العثماني الشريف، وقد نقله عبد المؤمن بن علي إلى مراكش عند استيلاء الموحدين على الأندلس سنة 552 هـ.
وفي المسجد (4700) قنديل من الذهب الإبريز، واحد منها في المحراب، وكان يصرف عليها سنويا (24000) رطل زيتاً و (120) رطلاً من العنبر والعود القاقلي. . .
قال الأستاذ سديو: (وكانت هذه المدينة تصبح مضيئة، وحاراتها مطيبة، بما يلقى فيها من الزهور، مع استعمال الألحان المطربة في المتنزهات والميادين العامة. .)
هذا بعض من كل، وقليل من كثير، عن حالة قرطبة في تلك العصور التي بلغت العظمة العربية فيها الحد الأقصى من الرفعة والسمو، والتي خلد فيها أبطال العرب أسماءهم في أنصع صفحات التاريخ، ورفعوا أمتهم إلى المكانة اللائقة بها.
البصرة
عبد الكريم وعبد الصمد الناصري