مجلة الرسالة/العدد 59/صراع بين ثقافتين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 59/صراع بين ثقافتين

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 08 - 1934


فتنة الثقافة الأجنبية

ظاهرة في تفكيرنا وأدبنا تحمل على جد الأسف، هي أن الشؤون والنواحي القومية ما تزال مهملة منسية، في حين أن الشؤون والنواحي الأجنبية تلقى بيننا دائماً كثيراً من العناية والاهتمام.

وتلك ظاهرة قديمة في تاريخنا الحديث، ترجع إلى سبب معروف، هو سيادة النزعة الأجنبية في برامج التعليم التي تفرض على مصر منذ نصف قرن، والتي يلحظ فيها دائماً إقصاء عناصر الثقافة القومية أو إضعافها حتى لا تكون عاملاً في تغذية الشعور القومي وإذكائه؛ وإذكاء الشعور القومي شر ما يخشى المستعمر من أمة مغلوبة تطمح إلىاسترداد حريتها

وقد رجونا خيراً يوم قيل لنا إن برامج التعليم سوف تحرر من أصفادها القديمة ويعنى فيها بكل ما يرفع شأن الثقافة القومية، وتتخذ فيها لغة البلاد وتاريخها ومسائلها وشئونها مكانها اللائق؛ ولكن سرعان ما خاب هذا الأمل، وإن كانت اللغة العربية قد استردت في العهد الأخير شيئاً من حقها المسلوب؛ وما زالت النزعة الأجنبية تبث اليوم في برامجنا وثقافتنا كما كانت تبث بالأمس، ولم تتغير الغاية وإن تغيرت الوسائل.

ومازالت هده النزعة الأجنبية تتجلى في تفكيرنا وأدبنا بشكل واضح. ففي بضعة الأعوام الأخيرة مثلاً صدرت بالعربية كتب عن الدكتور مازاريك رئيس جمهورية تشيكوسلوفاكيا، والسنيور موسوليني، والغازي مصطفى كمال، وجيته شاعر ألمانيا الأكبر، وأخيراً عن الهر أدولف هتلر؛ وصدر بالعربية أيضاً كتابان عن باريس وكتاب عن لندن. فهذه كلها كتب عربية أخرجتها أقلام مصرية في موضوعات أجنبية في بضعة أعوام فقط. هذا إلى ما تنشره صحفنا ومجلاتنا من فصول ومباحث لا نهاية لها عن الموضوعات والشخصيات، وما يغرق فيه بعض أدبائنا الناشئين من الكتابة عن الكتاب الغربيين والأدب الغربي مما يسمونه بميسم الطرافة والتجديد.

وهذا حسن في ذاته لو أن مثل هذه العناية بالموضوعات الأجنبية يبذل لتناول الموضوعات الأجنبية والمسائل القومية. ولكن ماذا أخرجنا من الكتب والرسائل عن عظمائنا؟ وماذ نشرت أو تنشر عنهم صحفنا ومجلاتنا؟ لقد أصدرنا كتباً عن مازاريك وموسوليني ومصطفى كمال وجيته وهتلر، ولكن لم نصدر في تلك الفترة كتاباً واحداً عن أحد عظمائنا الذين يحفل بهم تاريخنا الحديث مثل عرابي، والبارودي، ومحمد عبده، وعلي مبارك، وقاسم أمين، وصبري، وسعد زغلول، وحافظ، وشوقي، وغيرهم ممن يغمطون إلى اليوم حقهم من الناحية الأدبية، ولا يفكر أحد من كتابنا في أن يعني بدراستهم وترجمتهم بما يجب من إفاضة وتحقيق.

نعم إن الأدب لا وطن له، والتفكير تراث الإنسانية كلها، والقلم حر له أن يجول أنى شاء؛ ولكن هذه الفتنة الغربية التي تأخذ علينا سبل التفكير في تراثنا القومي جديرة بكثير من التأمل والاهتمام؛ ففي الأمم الحرة التي يزدهر تفكيرها وأدبها في ظل الاستقلال والحرية، تأخذ جميع ألوان التفكير والأدب، قومية كانت أو خارجية مكانها من النهضة الأدبية العامة. ومع ذلك فإن التراث القومي يحتفظ دائماً بالمقام الأول، ويعتبر دائماً أقوى وأنفس غذاء للشعور القومي. فإذا كانت هذه الأمم التي يحتفظ فيها الشعور القومي بكل قوته واضطرامه تقدر دائماً فعل التراث والذكريات القومية في تغذية هذا الشعور وتكوينه، فأولى بالأمم المغلوبة التي يعمل فيها الغالب الأجنبي على محاربة الشعور القومي وإضعافه أن تجعل تراثها وذكرياتها نصب عينها دائماً، وأن تتخذها عدة وذخراً لتغذية هذا الشعور وإذكائه. ولما كان التفكير والأدب خير أداة لتحقيق هذه الغاية، فإن الواجب

الوطني يقضي على كتابنا أن يرعوا هذه الناحية وأن يجعلوا لها أوفر نصيب من عنايتهم، وأن يؤثروها دائماً بدرسهم

واهتمامهم.

إن الآداب القومية التي نضجت وازدهرت في كل النواحي والفنون لا غبار عليها إذا عنيت بالنواحي والشؤون الأجنبية ما شاءت وما وسعت، فهي بذلك تكسب دائماً ثروات جديدة، ولكن حيثما كانت الآداب القومية فقيرة كآدابنا، وحيثما كان التاريخ القومي منسياً مغموطاً، وحيثما كانت برامج التعليم والتربية عرضة لأهواء المستعمر ينفث فيها من وحيه الخطر، ويعمل دائماً على محاربة عناصرها القومية، يجب على قادة الفكر أن يتداركوا هذا النقص بأقلامهم وتفكيرهم، وأن يقاوموا هذا الخطر، فيقدموا دائماً إلى الشباب الذي يحرم في معاهد الدرس من الإلمام الشامل بعناصر الثقافة القومية، كل ما يقوم الشعور الوطني ويصقله ويغذيه؛ ويجب على الأدباء الناشئين أن يفكروا طويلاً في اختيار الطريق المنشود قبل أن يحملهم تيار هذه الفتنة الأجنبية المضللة من عالم الآداب القومية إلى فوضى موضوعات وشئون لسنا في كبير حاجة إليها.

يجب علينا قبل أن نقرأ عن مازاريك وموسوليني وهتلر، وقبل أن نشيد بذكرهم في كتب خاصة، أن نقرأ عن أبطالنا وعظمائنا الذين يغمرهم النسيان والجحود، وأن ندرسهم ونكتب عنهم؛ فذلك دليل الأدب القوي المستنير، وذلك دليل الوطنية الرفيعة، والشعور القومي الحي.

(ع)