مجلة الرسالة/العدد 59/شخصية نسوية أندلسية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 59/شخصية نسوية أندلسية

مجلة الرسالة - العدد 59
شخصية نسوية أندلسية
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 08 - 1934


1 - صبح أو صبيحة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

حظية خليفة، أم خليفة؛ سيدة مطلقة الرأي، تولي وتعزل الوزراء والقادة؛ وتدير شئون السلام والحرب، حسناء يغنم جمالها ملكاً، ويأسر خليفة، ويسيطر على قصر وحكومة؛ صاحبة السلطان المطلق في دولة من أعظم دول الإسلام؛ نصرانية نافارية مع ذلك؛ تلك هي صبح أو صبيحة أو (اورور) قرينة الحكم المستنصر بالله الأموي خليفة الأندلس، وأم ولده هشام المؤيد بالله يقدم إلينا التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة لنساء أجنبيات من الرقيق أو الأسرى، سطعن في قصور الخلفاء والسلاطين، وتمتعن بالسلطان والنفوذ؛ ولكنه لا يقدم إلينا كثيراً من لمواطن التي تستأثر فيها أجنبية نصرانية بالسلطان والحكم المطلق في دولة إسلامية قوية، وتسهر على مصاير هذه الدولة بذكاء وعزم، وتقودها لخير الإسلام والخلافة. والواقع أننا لا نستطيع أن نجد لذلك مثلاً أسطع من مثل صبح أو (اورور)، تلك الفرنجية الحسناء التي لبثت زهاء عشرين عاماً تسيطر بسحرها ونفوذها على خلافة قرطبة، وتقوم بتدبير شئونها في السلام والحرب مع أعظم رجالات الأندلس. ولم تك صبح سوى إحدى كواكب هذا الثبت الحافل من النساء الفرنجيات اللائي يقدمهن إلينا تاريخ الأندلس منذ الفتح، واللائي يتركن أثرهن في سير الحوادث أحياناً. ونستطيع ان نذكر منهن (ايلونا) القوطية أرملة ردوريك (لذريق) ملك القوط عند الفتح، وهي التي يسميها العرب (بأم عاصم)، فقد تزوجها عبد العزيز بن موسى بن نصير أول حاكم للأندلس بعد الفتح، وكان نفوذها ووحيها السيء من الأسباب التي أدت إلى مقتل عبد العزيز بن موسى (سنة 95 هـ)؛ ومنهن لامبيجيا الفرنجية الحسناء ابنة اودو أمير اكوتين، تزوجها عثمان بن أبي نسعة الذي تسميه الرواية الفرنجية (منوزا) أو (مونز)، وكان حاكماً للولايات الشمالية (البرنيه)، وتحالف مع أبيها الدوق اودو، وأخذ يدبر الخروج على حكومة الأندلس والاستقلال بولايته؛ ولكن عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس يومئذ وقف على مشروعه وأرسل لقتاله جيشا قوياً لبث يطارده في الجبال حتى أخذ وقتل وأسرت زوجته الأميرة الحسناء لامبيجيا وأرسلت إلى بلاط دمشق (سنة 113 هـ)؛ ومنهن ماريا الأسبانية النصرانية زوج الأمير محمد بن محمد ووالدة عبد الرحمن الناصر أعظم خلفاء الإسلام في الأندلس ويسميها العرب (مزنة)؛ ومنهن أخيراً (ثريا) النصرانية زوج السلطان أبي الحسن النصري ملك غرناطة، وهي فتاة أسبانية وأبنة قائد شهير، أخذت أسيرة في بعض المعارك التي وقعت بين المسلمين والنصارى وألحقت وصيفة بقصر الحمراء، فأحبها السلطان أبو الحسن وتزوجها؛ وكان لنفوذها ودسائسها أثر كبير في إضرام نار الحرب الأهلية في غرناطة وفي سير الحوادث التي أدت إلى ذهاب دولة الإسلام في الأندلس.

ظهرت صبح في بلاط قرطبة في أوائل عهد الحكم المستنصر بالله (350 - 366هـ) (961 - 976م). ولسنا نعرف كثيراً عن نشأتها وحياتها الأولى؛ وكل ما تقدمه إلينا الرواية الإسلامية في ذلك هو أن (صبحاً) كانت جارية بشكنسية أي نافارية؛ ولا تذكر الرواية إن كانت قد استرقت بالأسر في بعض المواقع بين المسلمين والنصارى، أم كانت رقيقا بالملك والتداول؛ ولكنها تصفها بالجارية والحظية. وصبح أو صبيحة ترجمة لكلمة (اورورا) ومعناها الفجر أو الصبح الباكر، وهو الاسم النصراني الذي كانت تحمله صبح فيما يظهر. وكانت صبح فتاة رائعة الحسن والخلال فشغف بها الحكم، وأغدق عليها حبه وعطفه وسماها بجعفر، ولم تلبث أن استأثرت لديه بكل نفوذ ورأى. وكان الحكم حينما تولى الملك بعد وفاة أبيه عبد الرحمن الناصر قد بلغ السابعة والأربعين من عمره، ولم يكن رزق ولد بعد؛ وكان يتوق إلى ولد يرث الملك من بعده؛ فحققت أمنيته على يد صبح، ورزق منها بولد سماه عبد الرحمن سنة 352هـ (962م) وفرح بمولده أيما فرح، وسمت لديه مكانة صبح؛ ثم ولدت له بعد ذلك بثلاثة أعوام ولدا آخر سماه هشاماً (سنة 354هـ)، ولكن الحكم رزئ بعدئذ بقليل بوفاة ولده عبد الرحمن فاشتد حزنه عليه، وعقد كل آماله على ولده هشام؛ ولبثت صبح تستأثر في البلاد والحكومة بكل نفوذ وسلطان. بيد أنها كانت وافرة الذكاء والحزم، بارعة في تدبير الشؤون، مخلصة لسيدها تعاونه في تدبير مهام الحكم بذكاء وبصيرة، وتسهر معه على سلامة الدولة والعرش. ولم تك صبح يومئذ جارية أو حظية فقط، بل كانت ملكة حقيقية. ولا تشير الرواية الإسلامية إلى أنها غدت زوجة حرة للحكم المستنصر بعد أن كانت جارية وحظية؛ ولكن هنالك ما يدل على أن صبحا كانت تتمتع في البلاط والحكومة بمركز الملكة الشرعية، فالرواية الإسلامية تنعتها بالسيدة صبح أم المؤيد، وتصفها التواريخ الأفرنجية (بالسلطانة صبح). بيد أن هنالك ما يقطع مع ذلك بأنها بقيت من الوجهة الشرعية جارية و (أم ولد) فقط. وتصفها الرواية الإسلامية بعد موت الحكم بأنها (أم ولد)، وهو في الشريعة وصف الجارية التي حملت من سيدها وأصبحت أماً لولده.

وعلى أي حال فقد كانت صبح تحتل مكان الملكة الشرعية، وتتمتع في البلاط والحكومة بنفوذ لا حد له؛ وكان الحكم يثق بإخلاصها وحزمها ويستمع لرأيها في معظم الشؤون؛ وكانت كلمتها هي العليا في تعيين الوزراء ورجال البطانة. وكان كبير الوزراء، الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي يجتهد في خدمتها وإرضائها، ويستأثر لديها ولدى الحكم بنفوذ كبير. واستمرت الحال حيناً على ذلك حتى دخلت في الميدان شخصية جديدة قدر لها أن تضطلع فيما بعد بأعظم قسط في توجيه مصاير الأندلس. تلك هي شخصية فتى مغمور يدعى محمد بن عبد الله بن أبي عامر المعافري؛ أصله من الجزيرة الخضراء من قرية طرش، ووفد على قرطبة حدثاً ودرس في معاهدها درساً مستفيضاً، وبرع في الآداب والشريعة. وكان طموحاً مضطرم النفس والعزم، رفيع المواهب والخلال، وكان في نحو السابعة والعشرين من عمره حينما أراد الحكم أن يعين مشرفاً لإدارة أملاك ولده عبد الرحمن، ورشحه الحاجب المصحفي في من رشح لتولي هذا المنصب. وأعجبت صبح بذكائه وحسن روائه وظرف شمائله فاخترته دون غيره، وعين بمرتب قدره خمسة عشر ديناراً في الشهر، وذلك في أوائل سنة 356هـ (967م). ولما توفي عبد الرحمن عين مشرفاً لأملاك أخيه هشام. وتقدم بسرعة في وظائف الدولة فأضيف إليه النظر إلى الخزانة العامة، ثم عين للنظر على خطة المواريث، فقاضياً لكورة إشبيلية، ثم عينه الحكم مديراً للشرطة، وفي أواخر أيامه عينه ناظراً على الحشم (ناظراً للخاص).

ويرجع الفضل في تقدم محمد بن أبي عامر بتلك السرعة إلى مواهبه وكفاياته الباهرة، ولكنه يرجع بالأخص إلى عطف صبح عليه وحمايتها له. وقد انتهى هذا العطف غير بعيد إلى النتيجة الطبيعية. كانت صبح امرأة حسناء لا تزال في زهرة شبابها، ولا يزال قلبها يضطرم حباً وجوى، وكان سيدها الحكم قد أشرف على الستين وهدمه الإعياء والمرض؛ أما ابن أبي عامر فقد كان فتى في نضرة الشباب، وسيم المحيى، حسن القد والتكوين، ساحر الخلال، وكان يفتن من جهة أخرى في خدمة صبح وإرضائها ولا ينفك يغمرها بنفيس الهدايا والتحف، حتى لقد أهداها ذات مرة قصراً صغيراً من الفضة بديع الصنع والزخرف لم ير مثله من قبل بين تحف القصر وذخائره، وشهده أهل قرطبة حين حمله من دار ابن أبي عامر إلى القصر، فكان منظراً يخلب الألباب ولبثوا يتحدثون بشأنه حيناً. فكانت هذه العناية تقع من قلب صبح أحسن موقع وتزيدها عطفاً على ابن أبي عامر وشغفاً به. وكان الحكم يشهد هذا السحر الذي ينفثه ابن أبي عامر إلى حظيته وإلى نساء قصره جميعاً ويعجب له؛ ويروى أنه قال يوماً لبعض ثقاته: (ما الذي استلطف به هذا الفتى حرمنا حتى ملك قلوبهن مع اجتماع زخرف الدنيا عندهن، حتى صرن لا يصفن إلا

هداياه، ولا يرضين إلا ما أتاه؛ إنه لساحر عليم أو خادم لبيب. وإني خائف على ما بيده)، ولم تلبث علائق صبح ابن أبي عامر أن ذاعت وغدت حديث أهل قرطبة؛ ولم يك ريب في أنها استحالت غير بعيد إلى علائق غرامية. وربما ارتاب الحكم في طبيعة هذه العلائق، وثاب له رأي في نكبة ابن أبي عامر؛ وسعى لديه بعض خصومه واتهموه بأنه يبدد الأموال العامة التي عين للنظر عليها في شراء التحف والأنفاق على أصدقائه؛ فأمره الحكم أن يقدم حساب الخزانة العامة ليتحقق من سلامتها؛ وكان بالخزانة عجز لجأ ابن أبي عامر في تداركه وسده إلى صديقه الوزير ابن جدير فأغاثه؛ وتقدم إلى الحكم سليم العهدة برئ الذمة؛ فزالت شكوكه، وتوطدت ثقته فيه، واستمر ابن أبي عامر متمتعاً بنفوذه، ينتدب لعظيم المهام والشئون؛ وهو خلال ذلك كله يحرص على عطف صبح ويستزيد منه، ويصانع الحاجب جعفر ويجتهد في إرضائه وكسب ثقته، ويخلق حوله حزباً من الصحب والأنصار بسحر خلاله، ووافر بذله ومروءته وبارع وسائله وأساليبه.

وكانت أعظم أمنية للحكم في آخر أيامه أن يضمن البيعة من بعد وفاته لولده أبي الوليد هشام، وهو يومئذ غلام في نحو العاشرة من عمره؛ وكانت أمه صبح تشاطره هذه الأمنية؛ وكان أشد ما يخشاه الحكم أن ينتزع الملك من بعده أخوه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر؛ فرأى تفادياً من ذلك أن يعلن بيعة ولده أثناء حياته ويضع رجال الدولة والأمة أمام الأمر الواقع. نفذ هذا المشروع في جمادي الآخر سنة 365هـ (فبراير سنة 976 م) وعقدت البيعة لهشام في حفل جامع بالقصر، وأعلن الحكم أنه يقلد ولده الخلافة من بعده، وأخذت البيعة من الحاضرين ودعي له في الخطبة على المنابر ونقش أسمه في السكة، وأنفذت الكتب إلى النواحي لأخذها من الأكابر والأعيان، وتولى تنظيم البيعة والشهادة محمد بن أبي عامر، وهو يومئذ مدير الشرطة وناظر المواريث، وميسور الكاتب مولى صبح، واطمأن الحكم بذلك على مصير ملكه ومستقبل ولده نوعاً. ولكنه لم يعش بعد ذلك سوى بضعة أشهر؛ وكان المرض يشتد عليه منذ حين، ثم أصابه الشلل، وتوفي في الثالث من صفر سنة 366 (أول أكتوبر سنة 976م).

ولما توفي الحكم المستنصر بالله كانت مقاليد السلطة مجتمعة في أيدي ثلاثة: هم صبح أم هشام، والحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، ومحمد بن أبي عامر، وكان قد أضيف إليه النظر على الحشم (نظر الخاص). ولم يكن يعترض على بيعة هشام سوى صقالبة القصر، وكانوا زهاء ألف، ولهم نفوذ عظيم؛ وكان رأيهم أن تؤخذ البيعة للمغيرة بن الناصر أخي الحكم؛ ولكن الحاجب جعفر وقف على مشروعهم في الحال، واستدعى القواد والجند الذين يثق بإخلاصهم تحوطا للطوارى، واتفقت الكلمة على توليت هشام، وقتل المغيرة؛ ولم تمض ثلاثة أيام على وفاة الحكم حتى بويع ولده هشام ولقب المؤيد بالله، وتولى الحاجب جعفر ابن أبي عامر تنظيم البيعة، وتولى ابن أبي عامر في نفس الوقت تدبير مقتل المغيرة بن الناصر، فنفذ إليه الجند ليلة البيعة وقتلوه؛ ومنحت السيدة صبح الوصاية على ولدها، وكان في نحو الثانية عشرة من عمره؛ وتم بذلك مشروع الحكم المستنصر، ومشروع الثلاثة ذوي السلطان من بعده. وكان طبيعياً أن تحرص صبح على تولية ولدها لتحكم باسمه؛ وكان طبيعياً أن يؤازر ابن أبي عامر صاحبته والمحسنة إليه ليستمر بواسطتها محتفظاً بنفوذه، وليستطيع أن يحقق على يدها ومن طريق تغلبها على ولدها ما يضطرم به من الأطماع الخفية، أما الحاجب جعفر فكان له مثل ذلك الباعث في تولية هشام، إذ كان يخشى أن يتولى الملك رجل قوي كالمغيرة فيفقد نفوذه وسلطانه. وهكذا جمعت البواعث والغايات المشتركة بين الثلاثة، ولكن هذا التحالف الذي أملته الضرورة المؤقتة لم يكن طبيعياً، ولا سيما بين الحاجب جعفر ومنافسه القوي محمد بن أبي عامر، وكانت العلائق بين صبح ابن أبي عامر تزداد كل يوم تمكناً ووثوقاً، وكان ابن أبي عامر يرى عندئذ في صبح ملاذ حمايته ورعايته لدى الحكم، وكان وجود الحكم يحد يومئذ كثيراً من أطماعه ومشاريعه، ولكنه مذ توفي الحكم، وأضحت جميع السلطة الشرعية مجتمعة في يد صبح بوصايتها على أبنها هشام، أخذ يتأهب للعمل في طريق آخر، ويرى في خليلته صبح أداة صالحة هينة يستطيع أن يخضعها لإرادته، ويسخرها لمعاونته، وكانت صبح من جانبها تغدق كل عطفها وثقتها على هذا الرجل الذي سحرها بخلاله وقوة نفسه وباهر كفاياته، وتضع كل آمالها فيه لحماية العرش الذي يشغله ولدها الفتي. فلم تمض بضعة أيام على تولية هشام، حتى رفع ابن أبي عامر من خطة الشرطة إلى رتبة الوزارة، في نفس الوقت الذي أقر فيه هشام حاجب أبيه جعفر المصحفي حاجباً له، وهكذا أشرك ابن أبي عامر في تولي السلطة المباشرة مع المصحفي، ولم يعترض أحد من رجال القصر أو الحكومة على ذلك الاختيار سوى الحاجب جعفر، فقد كان يرى في هذا التعيين انتقاصاً لسلطته ونكراناً لجميله، بعد أن حمل أعباء السلطة كلها دهراً، وكان يرى في ابن أبي عامر بالأخص منافساً يخشى بأسه، ويرتاب في أطماعه ونياته ومن ذلك اليوم أضطرم بين الرجلين صراع عنيف صامت لم يك ثمة شك في نتيجته.

(للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان المحامي