مجلة الرسالة/العدد 59/سيوة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 59/سيوة

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 08 - 1934



تجارة سيوة

يجاور مسطاح البلح الكبير مقام سيدي سليمان، وهو عبارة عن بناء بسيط يحتوي على مقبرة، إلا أن له مكاناً محترماً في قلوب سكان سيوة، ويحيط بهذا المقام بعض قبور أخرى يقال أنها للمقربين إليه من أتباعه، ويعلو المقام سعف نخيل معلقة في نهايته قطع من أقمشة مختلفة الألوان؛ ويلاصق هذا المقام مسجد جلالة الملك فؤاد الأول، وبدأ في بناء هذا المسجد في عهد الخديو السابق عباس باشا، حتى وصل ارتفاعه أربعة أمتار، غير أن العمل وقف فيه لقلة المال وكثرة التكاليف، ثم تم بناؤه في عهد صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول في سنتي1928و1929، وأصبح مسجداً يضارع مساجد القاهرة الكبيرة في كبر حجمه وروعة بناءه. ولقد تحريت عن السبب الذي حدا بالخديو السابق أن يفكر في بناء مسجد كبير كهذا في واحة منعزلة مثل سيوة على الرغم من صعوبة المواصلات وقلة وسائل العمل في الوقت السابق، فروى لي أنه كان يقصد ببنائه أن يكون جامعة إسلامية في الصحراء الغربية، يؤمها السنوسيون وغيرهم لتكون لهم بمثابة الأزهر في وادي النيل، وأنه كان يتصور أن مثل هذه الجامعة تمكن له في قلوب السنوسيين فيفيدوه في الصحراء وقت الحاجة. وعدا هذا المسجد الكبير توجد مساجد أخرى مقامة على نظام المنازل السيوية من الملح والطين، والسقوف من خشب النخيل، ولها مآذن غريبة الشكل، أشبه بمداخن المعامل، وسمك حائطها من أسفل حوالي مترين، ثم يقل سمكها تدريجياً كلما أرتفع بناؤها حتى يصل في النهاية إلى ثلث متر تقريباً

وكان أئمة هذه المساجد يدرسون في الوقت الماضي القرآن للصبيان على طريقة عتيقة غير مألوفة، وهي أن يحفظوهم القرآن من غير أن يعرفوا القراءة والكتابة، ولكن مصلحة الحدود أنشأت مدرسة أولية بسيوة تتبع في تدريسها منهاج وزارة المعارف العمومية، ويؤمها أولاد السكان؛ غير أن الإقبال عليها غير كثير برغم كل تسهيل يقدم للأولاد، وتتساهل المدرسة فلا تطلب من الطلبة إلا أن يلبسوا جلباباً نظيفاً وطاقية نظيفة، على أن معظم الأطفال يحضرون حفاة من غير أحذية، ومع كل ذلك فالرجل يفضل أن يشغل ابنه في الحقل أو الحديقة على أن يعلمه أبسط المبادئ من القراءة والكتابة والحساب، ووصل الأمر بعناية الحكومة بهؤلاء الناس أن أرسلت أثنين منهم للجامع الأزهر ليتلقوا فيه العلوم الدينية على أحسن الأساتذة، غير أنهما بعد بضع سنين كرها الإقامة في القاهرة ودفعهما الحنين إلى سيوة فعادا إليها ولم يحصلا من العلم إلا قليلا

تتكون السوق في سيوة من بضعة حوانيت متجاورة تبيع كل ما يحتاجه السكان من مختلف الأصناف، وأثمان جميع الحوانيت واحدة، ولذا فلا يهم الشاري أن يشتري من هذا أو من ذاك ما دام الثمن واحداً، وإذا دخلت حانوتاً من هذه الحوانيت خيل إليك لأول وهلة إنك في مخزن بضائع إذ ترى فيه عدة رفوف من خشب قديم وميزان وبعض الأكياس (والمقاطف) فيها دقيق وعدس وفول وسكر، وفي ركن من أركان الحانوت بضعة أثواب من البفتة، ومعلق بسقف الحانوت بضعة مناديل للرجال وللنساء ذات ألوان متنافرة غريبة. وترى في ركن ثان من الحانوت بضع صفائح بها زيت الزيتون وأبسطة من الصوف تنسجها نساء العرب بأيديهن ويبعنها للتجار. ويربح بعض التجار كثيراً من حوانيتهم وبخاصة من بيع البلح وزيت الزيتون، على أن النقود المتداولة في سيوة هي النقود المصرية بجميع أنواعها، ولم أر بها عملة أخرى كما هو الحال في السلوم، إذ إنني رأيت فيها العملة التركية القديمة وبعض النقود الإيطالية متداولة في أيدي التجار والأهالي، وقد أعتاد الأهالي أن يرهنوا حدائقهم وحقولهم لبعض التجار نظير أرباح باهظة، حتى أن بعض التجار يتمادى في الجشع فيطلب من المدين أن يسدد دينه بلحاً وزيتوناً، ولكنه ينص في شروط الرهن على أن يكون سعر البلح والزيتون نصف سعره المعتاد في السوق، وبذلك يكون التاجر قد ضاعف مبلغه الذي أقرضه للمدين زيادة على الأرباح التي ينالها عن مبلغه الذي دفعه للمدين، وفي ظروف كثيرة يقبل المدين كل تلك الشروط الباهظة لحاجته للمال. وقل أن يرى المرء امرأة أمام حانوت من حوانيت البلد، والعادة أن تمر زوجة التاجر أو أمه ببضاعتها على المنازل ليشتري أصحابها ما يشاءون، وما تشتريه النساء عادة. يكون الكحل والحناء وبعض حلي من الفضة: كالدمالج، والأقراط الكبيرة الحجم التي تتدلى أطرافها من الأذن حتى تصل كتفي المرأة أو الفتاة. ثم إنهن لا يلبسن العقود الملونة من حبات متلاصقة كما هو الحال في المدن. بل إنهن يلبسن أطواقاً من الفضة حول أعناقهن بأن يدخلن رؤوسهن فيها. ولذا فهي تباع كثيراً لدى التجار، وأيضاً فإنهن يشترين أحذية من جلد أحمر رقيق، وملاءات يلتففن بها وقت خروجهن، وهي من قماش قطني ذات خطوط زرقاء تجاورها خطوط رمادية، وهذه الملاءات يحضرها لسيوة أحد التجار المصريين، إذ أن لعمه مصنعاً خاصاً ببلده بمديرية الجيزة، ويشترين أيضاً بعض الأصباغ الخضراء والحمراء والزرقاء، لصبغ سعف النخيل الذي يصنعن منه (مراجين) وسلات وغيرها

وكثيراً ما تبيع زوجات التجار الأحجية والتعاويذ الفضية التي عليها آيات من القرآن الكريم. وقد لاحظت أن النساء لا يحاولن أن يغيرن ملبسهن بأحسن منه، وكلهن في ذلك سواء. وليس في السوق سوى قصابين يبيعان عادة لحم الجمال للأهالي والعرب، ولكنهما مكلفان ببيع لحم الضأن ثلاثة أيام في الأسبوع هي الأحد والثلاثاء والجمعة، وهذا طبعاً ليتمكن الموظفون الحكوميون من أكل لحم الضان. ولذلك لا يذبح القصاب إلا كبشاً واحداً يكفي الموظفين، لأنهم يشترون في الأيام الثلاثة اللحم الذي يكفيهم كل أسبوع.

وأهم ما يشتريه الأهالي من التجار الشاي والسكر فهما عماد الحياة والعمل لدى السيويين والعرب، ولا يمكن أن يستغني عنهما منزل قط، ولاحظت أن إقبال السيويين على شرب القهوة قليل جداً بل يمكن القول بأنه معدوم، وحدث أن أحتاج خادمي بناً لعمل قهوة فبحث في حوانيت الواحة كلها فلم يجد.

يحيك السيويات ملابسهن وملابس أزواجهن وأولادهن بإتقان ودقة، وبعضهن يطرزن ملابسهن بخيوط حريرية مختلفة الألوان، غير أنه يخالف ما ألفناه في القاهرة، وبعض السيويات يغزلن الصوف وينسجنه ويصنعن منه جبباً للرجال يلبسونها وقت الشتاء القارس، وهذه الجبب وأن كانت رديئة المنظر إلا أنها تساعد الرجال على تحمل برودة الشتاء على كل حال.

على أن للسيويين والسيويات طباعاً نراها نحن شاذة لا تتمشى مع ما ألفناه من عادات وأخلاق، وسنأتي على سرد تلك العادات تباعاً إن شاء الله.

كابتن