مجلة الرسالة/العدد 59/إبراهيم بك مرزوق وشعره

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 59/إبراهيم بك مرزوق وشعره

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 08 - 1934



بقلم صلاح الدين الوداعي

قرأت في العدد السابع والخمسين من الرسالة ما كتبه الأستاذ محمود خيرت عن الشاعر المصري إبراهيم بك مرزوق تعقيباً

على كلمة المغفور له أحمد باشا تيمور التي لم يلم فيها بنواحي حياته الأدبية إلماماً وافياً، فوجدته في مستهل كلمته يقول انه كان يود لو أن بين يديه ديوان هذا الشاعر ليسد الفراغ الذي تركه تيمور باشا، ويسرني أن أحمل هذا الواجب الأدبي عنه، فقد أتيح لي أن أقرأ نسخة مخطوطة من هذا الديوان، سأنقل هنا شيئاً منها يعطينا صورة لحياة هذا الشاعر ومقدرته الأدبية.

أسلوبه في الشعر:

أما غزله فهو من الملاحة بمكان، قال رحمه الله:

أشجتكَ شمس ملاحةٍ ... في غيهب الليل استنارتْ

أم بدر حسنٍ طالع ... من حسنه الأقمار غارت

نَظرت له عين المها ... فتعجبتْ منها وحارت

مَن منصفي من أعين ... في حكمها في القلب جارت

يا جنة نيرانها ... في قلب عاشقها استعارت

ما ضرها لما نأت ... لو أنها زارت

يا شمس حسن بالحجا ... ب السندسي عني توارت

غصن القوام عليه ك ... ل قلوب أهل العشق طارت

ودوائر الأحزان من ... أطواقها بالصب دارت

وركائب الأشواق بال ... قلب الأسير إليك سارت

وقال أيضاً من قصيدة:

ما احتيالي قد صير الصد عاده ... ليته حين أسقم الصب عاده

ما احتيالي وكل من هام وجداً ... سلب الحب لبه ورشاده

بين كأس الهوى وكأس الحميا ... قدرٌ غالبٌ له وإراد فهو في حالتيه حيران ألقى ... بيد الذل والهوان قياده

ومن قصائده أيضاً هذه الخمرية البديعة:

هيا اسقياني ثلاثاً واشربا قدحاً ... يا ساقيّ فزند اللهو قد قدحا

وأحييا دولة القصف التي دثرت ... وخليا الزهد للوعاظ والنصحا

وبادرا فرص اللذات واجتنبا ... من لام في رشف كاسات الطلا ولحا

فقد خلعت عذارى غير معتذر ... ورحت أرفل في برد الصبا مرحا

وقلت للرشد مالي فيك من أرب ... فارحل وقمت بثوب الغيّ متّشحا

وفيها يقول بالتورية:

فعاطياني وعين النجم شاهدة ... شمساً يقصّر عن أوصافها الفصحا

لو أن عائبها قد ذاق لذتها ... ما كان عاب لها كأساً ولا (قدحًا)

وعلى ذكر التورية هنا أقول إنه كان ولوعاً بها مجيداً لها، فمن ذلك قوله في الرثاء:

يا راحلاً فيه ذقنا ... ما كانا منه احترزنا

كم قد حوينا هموما ... لما رحلت (وحزنا)

ومن محاسن اقتباساته قوله:

ومليح له سلاسل شعر ... وقلوب الورى بهن أسارى

كلما جال طرفه ترك النا ... س سكارى وما هُم بسكارى

وقوله أيضاً:

قد كنت سليماً لا تدري ... ماَ حلو الوصل من الهجر

فأطعت النفس وشهوتها=إن الإنسان لفي خسر

وللشاعر في التخميس والتشطير مقدرة عظمى تشهد له بالتمكن في النظم مع سمو الخيال، واتساق المعنى، وقد نظم في ذلك مقطوعات كثيرة لفحول الشعراء فخمس أغلب القصائد والمقاطيع المتداولة على ألسنة أهل الأدب للمتنبي، والكمال ابن النبيه، وتقي الدين السروجي، والمعري وغيرهم، وكلها في غاية الطرافة والحكمة، ولولا طولها وكثرتها لأوردت هنا طرفً منها لإثبات كفاية هذا الشاعر النادر، وأنا لذلك أكتفي بذكر تشطيره للبيتين المنسوبين إلى إبليس - على سبيل المثال - قال: (وحمراء قبل المزج صفراء بعده) ... كوجنة خود راعها لثم سارق

إذا صبّها في عسجدي مخضب ... (بدت بين ثوبي نرجس وشقائق)

(حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا) ... على نهبها الألحاظ من كل وامق

وصاغ حباب الماء في حال صبه ... (عليها مزاجاً فاكتست لون عاشق)

وعلى قلة الوصف والتشبيه في شعره بلغ حد الإجادة والإبداع، فمن ذلك وصفه لمنشية النزهة بإسكندرية:

بإسكندرية للصفا منشية ... غراء واضحة البها غناء

سطعت شموس الحسن في أرجائها ... وبدوره فلها سنىً وسناء

حيث ألتفتّ رأيت أبهى روضة ... (سال النظار بها وقام الماء)

وقال في (فسقية) يتصاعد منها الماء

لله بل للحسن ماءٌ أحكمت ... فسقية تصعيده فتقطَّرا

فجرى لجيناً أو مذاب الدر أو ... سيّار بّللور سما فتقنطرا

ومن قصائده في الفخر والحماسة هذه القصيدة:

قامت تساجلني العلا جدودي ... حتى تحقق فيّ رأي جدودي

واستنجدت فينا شمائل ماجد ... واستنجزت شيم الوفاء عهودي

وتغبّ في ذم الخمود مليحة ... لتشب ناري غير وشك خمود

وبمسمع مني تقول لمن دنت ... منها أهذي حالة المجدود

أيُردّ عما يبتغيه وعزمُه ... ماض وطالعه بسعد سعود

أولم يكن من لم تغر طلابه ... يوماً عليه لفضله والجود

أو ليس من بهر الكواكب رفعةً ... بعلوّ صائب رأيه المعهود - الخ

وفي الديوان غير ذلك من المدائح والتهاني والمراثي والتعازي وباقي الفنون الأدبية من القصائد الشيء الكثير، وكلها مليئة بالمحاسن والغرر - ولا سبيل إلى استقصائها هنا لكثرتها وتشعب أغراضها.

أسلوبه في النثر

وقد عثرت للشاعر على هذه الرسالة الفريدة، المسماة (برحلة الكرامة) التي كتبها إلى سعادة خيري باشا مهردار، واقتصرت

على بعض فقرات منها خشية الإطالة، وهي التي ضمنت وصف رحلته إلى الخرطوم، قال رحمه الله:

(أهدى إلى نسيم الصبا، الحاملة لرياض الربا، ووفود النسيم، المتحملة بالتكريم والتعظيم، ورسل الأصائل، المتضوعة بنشر الخمائل، وما يزري بنور الرياض، وتغازل المقل المراض، أرق من الدموع، في الربوع، وألعب من الراح، بالعقول والأرواح، وأشهى من الأمان، في الزمان، ووفاء الأخوان، وألذ من عناق أهل الاشتياق، بعد الفراق، وأعذب من الرحيق، على الريق، وأحلى من الإقبال، ببلوغ الآمال، وأحب من الأتحاف، بالأسعاف، وأهنأ من الورود، على حياض الوعود، وأشفى من الوصال، وأوفى من طيف الخيال. . . ولكني حيث تنقلت في البلاد، وهمت في كل واد، من أقطار السودان، القاصي منها والدان، واعتسفت طرقها، وشسوعة أسواقها، حيثما ذكره الأستاذ في الوقائع، وجنيته من ثمرها اليانع، التزمت أن أذكر بوجه الاختصار، ما يتذكر به ألو الأبصار، وعسى أن تنفق عنده بضاعتي المزجاة، وأفوز ببركة دعائه بطريق النجاة، فأقول معتمداً على الله، وما توفيقي إلا بالله. . . (قد اقتعدنا غوارب الأقتاد، وجبنا الصخور والأوتاد مسئدين في المهامة والقفار، مستندين إلى أعواد الأكوار، مصطحبين ما يفت في عضد الإصطبار، ويقلب قلب القرار على النار، إلى أن وصلنا إلى بندر الخرطوم، فكانت المحفوفة بالقذى، المحروسة بالأذى، لأنها القرية الظالم أهلها، المستحيل مثلها، بسبب هوائها الوخيم، ووبائها المستديم، فكنت تراها أقذر من بيت الدجاج، وأهون من تبالة على الحجاج، لما بها من الحشرات، المجهولة الأسماء والصفات، التي ليس منها خلاص، ولا للجروح قصاص، لتواردها من الست الجهات، إلى شن الغارات، ويكاد المقيم بها وقت القيظ، يتميز من الغيظ، ويستغيث بالسعير، في أوقات الزمهرير، فهي بين رياح متخالفة، وزعازع متوالفة، وظلل من الضباب، كأول يوم الحساب.)

بلاد لاسمين من رعاها ... ولا حسن بأهليها اليسار

إذا لبس الدروع ليوم بؤس ... فأحسن ما لبست لها الفرار

قلت مما اتفق لي نظمه في بلاد السودان وأهلها من جملة أبيات هذا البيت: قوم تخيلتهم جاناً لرؤيتهم ... وقلت أن خديوينا سليمان

فلو مكثت غير بعيد، واجتلبت خيل المعتصم والوليد، واستعديت بذي القرنين، واستنجدت من وراء الصدفين. ونشرت أبا مسلم الخراساني، وخرجت في رايات السفياني، وبعثت بالرياح السوافي، ورميت بثالثة الأثافي، ورصدت الكواكب، وميزت بين المغلوب والغالب، وزحفت في جنود صفين، وقاتلت إلى يوم الدين، لما كنت ظفرت على حشراتها بالفتوح، ولو عمرت عمر نوح، فأنا كنا في مصادمة الأمطار، ومزاحمة الأقدار. . . . .)

وبعد، فهذه صورة من أسلوب الشاعر المجيد إبراهيم بك مرزوق المصري في الشعر والنثر، أعرضها على قراء الرسالة علها تجد من أدبائنا من يولي أمثال هذا الشاعر المجيد، ما يستحق من ذكر وتخليد

القاهرة

صلاح الدين الوداعي