مجلة الرسالة/العدد 588/قبر أبي العلاء المعري
مجلة الرسالة/العدد 588/قبر أبي العلاء المعري
للأستاذ صبحي الياسيني
كان يوم الجمعة في الثالث من ربيع الأول عام 449 للهجرة، حين حضرت أبي العلاء الوفاة، وانطفأت تلك الجذوة المتقدة يوما مشهودا عند أهل المعرة، إذ وفد إليها غير الفضلاء والعلماء والخلق الكثير، أربعة وثمانون شاعرا، وقفوا حين مواراته الرمس يرثون عبقريته الفذة وعلمه المضيع
واليوم وقد انقضي ألف عام على مولده يعيد التاريخ نفسه فيقف مثل هذا العدد وأكثر منه من الشعراء والأدباء جاءوا من أقاصي البلاد على قبره ليستعيدوا ذكرى صاحب هذه الشعلة المتقدة التي مرت عليها القرون فما زادتها إلا وميضا واستعاراً.
والمعروف أن جثة المعري نقلت إلى ساحة لإحدى دور أهله ودفن بها، وهي واقعة في الطرف الغربي من المعرة، وقد كانت هذه الدار في عهده على ما يظهر من انقطاع آثار البناء ووجود القبور الأثرية بتاليها من الجهة الغربية، واقعة في أقصى البلدة باتجاه الغرب، وكانت قبور أهله وبني عشيرته وتلامذته قبل إنشاء الضريح الحالي تحيط به إحاطة السوار بالمعصم، إلا إنه كما حجب اسمه أسماءهم وفضله فضلهم في حياته، كالشمس إذا ظهرت غاب كل كوكب؛ فكذلك حجب قبره قبورهم، واضطر المهندسون الذين قاموا بتشييد الضريح إلى إزالة القبور الواقعة بجوار قبره، وحفظت حجارتها وشواهدها في حديقة خلفية لضريح أبي العلاء.
يروي التاريخ أن أبا العلاء أوصى أن يكتب على قبره البيت التالي:
هذا جناه أبي عليّ ... وما جنيت على أحد
وهذا البيت ليس له وجود على قبره ذي الكتابة الكوفية المشجرة، ولا يوجد على شاهد الضريح سوى الكلمات التالية: (هذا قبر أبي العلاء بن عبد الله بن سليمان). وقد محا الزمان كلمات: (هذا قبر أبي)، وكتب على ظهر الشاهد: رحمة الله عليه. وقد وجد بجوار ضريحه حجر مستطيل الشكل بقياس 50 30 مسطر عليه هذان البيتان بخط ثلث حديث:
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة ... نفيسة صاغها الرحمن من نطف
عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردَّها غيرة منه إلى الصدف وقد علمت من ثقة في المعرة أن هذا الحجر حديث، جدد عام 1903 بذيل آخر مكتوب بالخط الكوفي أتى عليه الزمان فجدده أهل الفضل.
وقد كان ضريح المعري في وضعه السابق على غير الاتجاه الصحيح؛ فكان منحرفا انحرافا قليلا نحو الشمال الغربي، وذلك على ما يظهر بسبب الزلازل أو انخفاض الأرض فعدل الآن إلى الاتجاه الصحيح.
أما الضريح القديم فقد كان حالة قبيحة من الإهمال ذكرها مؤرخو المعري حتى قام في عام 1903 المرحوم نورس باشا الحراكي، وهو رئيس للمعرة في ذلك العهد، وبني عند قبره غرفة يعلوها قبة وبجوارها مصلى جعل منه مدرسة للأولاد كان يقوم بالتدريس فيها شيخ أعمى دائما كلما مات واحد قام آخر.
ولما فتح قبره منذ خمس سنوات لم ير فيه من آثاره إلا بقية ضئيلة كالرماد من فتات عظامه، وقد صب الآن فوقها الأسمنت لتكون قاعدة قوية تحت حجارة القبر الثقيلة
وقد كان في النية نحت حجارة جديدة لقبره لتقوم مقام الحجارة الأثرية القديمة وتتناسب مع شكل البناء الجديد، إلا إنه صرف النظر أخيرا عن هذا العمل بعد القيام به، وكان ذلك الأوفق والأنسب.
وكان أمر بناء الضريح تكتنفه الصعوبات لعوامل شتى منها تبدل الحكومات المتعاقبة على البلاد السورية فكأن رغبة أبي العلاء التي أبداها في ترك قبره وعدم الاحتفاظ به إذ يقول:
لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي ... ريب المنون فلا فضيلة للجسد
أو يقول:
إن التوابيت أجداث مكررة ... فجنب القوم سجناً في التوابيت
تحققت بقوة خفية لا يمكن التغلب عليها
إلا إنه تقرر في موازنة الحكومة السورية لعام 1931 مبلغ من المال كاف لبناء الضريح ولم ينفذ المشروع، كما إنه تقرر ذلك أيضاً في موازنات الأعوام التالية - 1932 - 1933 - 1937 - 1938، وأضافوا على ذلك في عام 1932 مشروعا جديدا هو طبع طوابع بريدية موشحة باسم أبي العلاء يعود ريعها لإنشاء الضريح فنفقت الطوابع والقبر على ما هو عليه وكانوا في كل عام يرصدون مبلغا لإنشاء الضريح، ولا ينفذ العمل، حتى جاء عام 1939، إذ خصص 15000 ليرة سورية في موازنة الحكومة السورية (فصل 7 مادة 1 فقرة 4) وتقرر البدء بالعمل، وكان ذلك يوم الأحد في 18 تشرين الثاني 939 عيدا أهليا عند سكان المعرة الذين احتفلوا بنفس الوقت احتفالا شائقا بإنشاء شركة كهربائية أهلية مساهمة، وشركة مياه إذ أنارت الكهرباء بلدتهم لأول مرة، وجرت المياه النقية إلى قسم من دورهم
وكان المظنون أن الأمور أخيراً سوف تسير سيراً حسناً لولا أن اندلاع الحرب جعل مواد البناء من أسمنت وحديد مرتفعة الثمن ارتفاعا فاحشا. كذلك صارت اليد العاملة تطلب أجورا فاحشة، فاستنكف الملتزم عن البناء، وقامت الحكومة بعد أخذ ورد بنقل الالتزام إلى رجل آخر مع وضع اعتمادات مالية إضافية تتصاعد حسب ارتفاع الأسعار، وقد انتهى العمل في أوائل هذا العام
والضريح في وضعه الحالي عبارة عن فسحة دار مزروعة بالرياحين يدخل إليها من أروقة محيطة بها من الغرب والشمال، وفي صدر هذه الدار قبر أبي العلاء موضوع تحت إيوان جميل، وخلف القبر مسجد يدخل إليه من بابين على طرفي القبر، ومكتبة على جانب المسجد للغرب، وخلف المسجد حديقة صغيرة محفوظ بها الحجارة الأثرية التي وجدت حول القبر
وقد سبق أن قامت بلدية معرة النعمان بشق وتخطيط شارع كبير من شرقي البلدة إلى غربها بحيث جعلته يمر مباشرة أمام ضريحه، وقد عبدته وجعلت الأرصفة على جانبيه حتى صار من الشوارع اللائقة بمدينة كبيرة، واسمه شارع أبي العلاء، كما خصصت البلدية قطعة أرض مناسبة في مدخل البلدة لإقامة نصب تذكاري فيها لأبي العلاء
وقام أهالي المعرة بنصيب طريف من هذا التمجيد، فأسموا فندق أبي العلاء ومطعم أبي العلاء، وهم يملئون القلل بالماء ليلة الجمعة ويضعونها طوال تلك الليلة بجوار قبره ليشربها في اليوم التالي من بلد ذهنه من صبيان المدارس اعتقاداً منهم أن الذهن يصفو من بلادته بهذا الماء، وهم يقسمون بالمعري كما يقسمون بمقام النبي يوشع الموجود عندهم ويتعصبون له، ولا شاعر عندهم أو فيلسوف سباق للمعري في شاعريته أو حكمته، وهم أول من يسوق لك الدليل على ذلك من أشعاره وآثاره إن بلدة معرة النعمان اعترافاً منها بفضل أبي العلاء المعري عليها تدعو جميع الأدباء والفضلاء لزيارة قبره في المعرة يوم 27 أيلول 1944 احتفاء منها بمرور ألف عام انقضت على مولده.
صبحي الياسيني
قائمقام معرة النعمان