مجلة الرسالة/العدد 584/مستقبل رومانيا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 584/مستقبل رومانيا

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 09 - 1944



للأستاذ علي إسماعيل بك

(لماذا دخلت رومانيا الحرب)؟

ذلك هو السؤال الذي ردده طوال السنوات الأخيرة كل فرد من أفراد الديمقراطيات (فلماذا)؟

لقد دخلت ألمانيا الحرب لمطامع أغراها بها النازيون لا أقل من أن نذكر منها سيادة العالم بما سموه النظام الجديد

ودخلت بريطانيا وأمريكا الحرب دفاعاً عن حرية العالم. ودخلت روسيا الحرب دفاعاً عن نفسها. ودخلت إيطاليا الحرب للوهم الذي علق ونما في نفوس الفاشستيين لإحياء الإمبراطورية الرومانية المنقرضة. ودخلت بلغاريا الحرب لحلم دار في خلد الطامحين من ساستها بإعادة الإمبراطورية البلغارية في البلقان على يد حليفتها البطاشة

أما رومانيا، ذلك البلد الغني، المرح، الذي خرج من الحرب العظمى بأقصى ما يمكن أن ينال المنتصر من أسلاب وبأكثر مما كانت تحلم به من أراض غنية ومناطق تزخر بالمناجم وتغص بالصناعات فما بالها تدخل حرباً لا ناقة لها فيها ولا جمل؟

ذلك هو السؤال الذي يحار العقل في الإجابة عنه إجابة منطقية واضحة.

فلنرجع بالقارئ أولاً إلى حالة رومانيا قبل الحرب العظمى نجد أنها ما كانت إلا ولاية من ولايات البلقان الشرقية ترزح تحت أثقال الماضي العثماني وتتذمر من نفوذ عنصريين كبيرين يهددان كيانها على الدوام، وهما العنصر السلافي من الشرق والعنصر الجرماني من الغرب. فكان لها إذن أن تدخل الحرب العالمية، إذ كان لسيف ديموقليس حَدّان مسلولان على رأسها، ولا سبيل إلى التخلص من كابوسه إلا بإلقاء نفسها في أحضان الحلفاء. . .

وكان ذلك هو الطريق الذي اختارت رومانيا لنفسها. فحاربت في صف الديمقراطيات الغربية، وجلست معهم على موائد الصلح في سان جرمان، وخرجت من تلك الموائد ظافرة غانمة غنماً ما كانت لتحلم به. فقد سلخ الحلفاء من روسيا إقليم بسارابيا الغني الخصب في الشرق وقدموه إليها قرباناً، كما قدموا إليها أقاليم الدبروجا في الجنوب، وقد كان من ممتلكات بلغاريا وترانسلفانيا وبوكوفينا، وقد كانتا من ممتلكات الإمبراطورية النمساوية الهنجارية النحلة

تحققت إذن كل رغبات رومانيا الصغيرة بعد الحرب العظمى، وأصبحت بعد ذلك (رومانيا الكبرى) وجلست على عرشها إحدى الملكات التي يسجل لهن التاريخ أجل المواقف. فقد كان لنفوذ الملكة ماري ابنة دوق ادنبرة ابن الملكة فكتوريا العظيمة أشرف الأثر لا على الفرع الكاثوليكي لأسرة هوهنزلرن - سيجمارينجن وحسب، بل على الشعب الروماني أجمع. فقد أخذ ينطبع بالطابع الديمقراطي الذي كانت تتحلى به تلك الملكة الإنجليزية العظيمة، وبدأت تدب في مرافقها روح المدنية الغربية. فأخذت ترفل رومانيا في مطارف السعادة والرخاء. مملكة هذه حالها، ما الذي حدا بها إلى أن تصنع اليوم ضد ما كانت تقبله بالأمس.

عاشت (رومانيا الكبرى) العشرين سنة الأخيرة عيش الفأر الذي لبس جلد الهر ظناً منه بأن في لبس الجلد السلامة والنجاة. وكان الرومانيون يعلمون على بكرة أبيهم علم اليقين بأن الهر الجرماني إنما يتحفز لأنشاب أظفاره فيهم كي يسلخ منهم ترانسيلفانيا وبوكوفينا كما يتحفز لهم الهر الروسي كي يسلخ بسارابيا والهر البلغاري كي يسلخ الدوبروجا. ماذا يصنعون إذن؟ إذا طلبوا معاونة الحلفاء، تلقوا إجابة أفلاطونية لا تقترن بأساطيل ولا تعزز بجيوش. وإذا طلبوا معاونة الروس، فلا أقل من أن تطغى على الأراضي الرومانية أنظمة روسيا الاجتماعية وهو ما لم تكن رومانيا ولا الديمقراطيات لتقبله بأي حال. موقف مربك بلا ريب

لا مناص إذن من إلقاء نفسها في أحضان الهر الجرماني، ولو على غير رغبة منها (فلنحالف الألمان عسى أن يكافئونا على حلفنا) ذلك هو ما كان يدور في خلد الرومانيين، ولكن ما هي تلك المكافأة التي كانت تنتظرها رومانيا؟ إذن فاستمع: وعدت ألمانيا النازية بحل المشكلات المعلقة بين رومانيا وجاراتها بما يرضى الضمير الجرماني بشرط دخول رومانيا الحرب في صفها ضد حلفائها بالأمس فتضع بذلك مناطق الزيت والحبوب تحت تصرف الألمان!

تمخض الوعد عن اجتماع في فينا بين هتلر وساسة رومانيا وهنجاريا، وكانت النتيجة أن نُزعَت ترانسلفانيا من التاج الروماني وقُدِّمت قرباناً إلى نسور هنجاريا! تلك مأساة الثقة بوعد الهر الجرماني

دخلت رومانيا الحرب ووضعت جميع مواردها ومرافقها تحت تصرف الألمان، فما كان من هؤلاء إلا عاملوها معاملة السيد لتابعه، وبدلاً من أن يكافئوها بالاحتفاظ بالولايات كما كان مشروطاً كافأوها بسلخ ترانسلفانيا وبوكوفينا سلخاً لا شفقة فيه ولا شفاعة

ولما أن دار الفلك دورته وأنشبت روسيا أظفارها في قلب الهر الجرماني منتزعة بسارابيا من قبضتها بحد السيف ثاب الرومانيون إلى رشدهم وشعروا - ولكن بعد فوات الوقت - أن لا سلامة الآن لهم إلا بالخضوع والإذعان لمطالب روسيا المشروعة

وقد أذيع اليوم أن بين هذه المطالب - ولا أقل من أن يكون الأمر كذلك - أن تنقلب رومانيا إلى صف الحلفاء وأن تكون حكومة ديموقراطية تحمل السيف في وجه ألمانيا التي لم تجر عليها مخالفتها سوى الخراب والدمار على أنه من الواضح أن الحلفاء سوف يبرون بوعدهم على استرداد ما انتزع الألمان في اجتماع فينا فيضعون بذلك الحق في نصابه ويعيدون إلى قيصر ما لقيصر

علي إسماعيل