مجلة الرسالة/العدد 584/بحث نفسي علمي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 584/بحث نفسي علمي

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 09 - 1944


2 - الأحلام

للأستاذ عبد العزيز جادو

يرى بعض علماء النفس أن الأحلام عند الأطفال الصغار غالباً ما تكون منطقية معقولة. لأنه إن لم يكن الطفل شقياً بين أهله وفي بيئته، فإنه لا يملك وقتاً يبني فيه هيكلاً مركباً من الكبت. ومع أن أحلامهم ترمز إلى رغبات عقيمة غير مجدية، إلا أن هذه الرغبات نادراً ما تكون غير مقبولة للعقل الواعي عند الطفل الصغير، فتظهر واضحة غير مستترة. ولكن على قدر ما يكون المراهقون قلقين، تكون رغباتهم العقيمة غير مقبولة للعقل الواعي، ولذلك فهي تظهر في شكل يغاير الحقيقة

وهناك ثلاثة أنواع للأحلام:

1 - أحلام منطقية متَّسقة كأحلام الأطفال. مثال ذلك: والد يرفض أن يأخذ طفله إلى السينما، فيذهب الطفل في حلمه إلى سينما يتخيلها إدراكه العقلي

2 - أحلام تبدو مترابطة ولا يمكنها أن تتناسب مع حياة الحقيقة. مثال ذلك: شخص يحلم بأنه يسير بقرب منزله فيرى أن أخاه يكاد يهاجمه أسد

3 - أحلام تبدو مفككة، غير منسجمة، سخيفة، مشوشة

والنوعان الأخيران يعتبران نموذجاً من أحلام المراهقين

وأحلامنا ولو أنها تبدو غير معقولة وغير مفهومة، إلا أنها تبدو - دائماً - تعبيراً مستتراً لأساليبنا العقلية الكائنة. والأحلام يمكنها أن تحول إلى هذه الصورة، الفكر التي في الوجود. ولكي تفعل هذا فهي تنتفع بالطرق التي يمكن أن تبدو للعقل الواعي مضحكة. وهي مع ذلك تتجاهل المتناقضات الواضحة، وتأتي بفكر مختلفة بوساطة التداعي السطحي

ومصدر الحيرة الظاهرة منها ناتجة عن رقابة العقل الواعي. ومع أن كفايتها العملية تُعزى قلة أهميتها إلى الحقيقة بأننا نكون في سبات، فنمسي غير قادرين على استعمال المراقبة الشعورية، فهي لا تزال تحاول أن تمنع اللاشعور من أن يكون شعوراً

والعقل الواعي يمكن أن يُمهد للأوضاع ولبعض الصور التي تظهر في أحلامنا. فإذا انشغلنا يوماً بمواعيد كثيرة مع أناس، يمكننا أن ندهش إذا أخذت أحلامنا شكلاً مماثلاً. على أن عقلنا الباطن ربما يكون مسئولاً عن التعرف بأناس لم نكن قابلناهم فعلاً في ذلك اليوم، ونشاط حلمنا قد يبدو باطلاً نظراً إلى أننا لا يمكن أن نتحقق أو أن نذكر بتيقظ ما كنا نظنه يأتي في أحلامنا

يستيقظ كثير من الناس في الصباح بهذا التأثير الذي يرجع سببه إلى الرقابة على العقل الواعي. وبعض أجزاء الحلم كثيراً ما يُنسى في حين أن بعضها الآخر يكون محرفاً ومشوهاً في الذاكرة الواعية، ولذا يظل اللاشعور مكبوحاً، وإذا لم يكن هناك سبب ثابت لوجوب امتلاكنا نوعاً من الحلم الذي نكون مندفعين فيه بدون قصد من مكان إلى مكان، يحتمل أن يرجع السبب في ذلك إلى بعض مسائل شخصية نكون قد حاولنا دفعها في أعماق الصورة

وفي ساعات يقظتنا نحاول أن ننسى هذه المسألة في عمل ولهو مستديمين. وحلمنا جهد يحمى النوم لكيلا نستيقظ أو نقلق. والناس الذين يحاولون أن يتجنبوا حكماً خطيراً، أو الذين لا يمكنهم الوصول إلى حكم، عندهم في الغالب هذا النوع من الحلم

والأحلام التي نحاول فيها أن نهرب من بعض الأخطار والتي تكون الحركة فيها صعبة كأن نكون دائسين في وحل لزج أو متعلقين بأغصان أشجار، لها أهمية مماثلة. وهناك بعض المسائل الخطيرة التي نحاول أن ننساها أن نتحاشاها، ولكنها برغم جهودنا تتشكل في صورة غير مقبولة. وأحسن تصرف لنا هو أن نكشف المسألة ونسوِّيها. وحين يقف مثل هذا النوع من الأحلام تكراره عند حده، علينا أن نحاول فهم القليل عن معنى رموزها. ويجب علينا أن نحلل شعورنا واستجاباتنا وعلاقاتها بالأشباح التي تظهر على الدوام في أحلامنا. والأمانة التامة من ألزم اللزوميات، حتى ولو كانت مما لا تسر

ولنأت هنا بمثال للطريقة التي تساعد على الفهم الذاتي:

(فلان) كهل عَزبَ ثرثار، يعيش مع أخته العجوز الأرملة. إنه ينزعج من كل شيء وعلى الأخص صحة أخته. وقد اشتكى من أحلام مزعجة. ففي أوضاع غامضة مختلفة، رأى أخته ممدة ميتة وإما على وشك الموت. ويرى نفسه إما محاولاً إعادتها إلى الحياة وإما مندفعاً للتفتيش عن أشياء. وإنه يقول: (أردت أن أسرع ولكنني لم أستطع، كنت أوقع الأشياء دائماً وأخلط بين قطع الأثاث. وفي كل أحلامي (ا) موجوداً، وكانت توجد أيضاً ممرضة ولكنها كانت تتمثل في صور شتى. ففي بعض الأحيان كانت ابنة عمي السيدة (ب)، وكانت في بعض الأحايين الآنسة (ج) وأحياناً (د). ولم أكن أفهم سبب وجود (ا) هناك. إنه كان معي في الجامعة ولكني لم أكن أحبه كثيراً. وكنت لم أره زهاء العشرين عاماً. وكنت دائماً في حالة مزعجة أستنجد بهم أن يعملوا شيئاً. وفي معظم أحلامي، كان (ا) يخلع ساعة أختي الذهبية من رسغها. وكنت أطلب منه أن يعطينيها إذ كان لي الحق في أن أقرر لمن يجب أن تكون، وكان هو يتمسك يخطفها من يدي. فيبدأ الجميع في جذبها في اتجاهات مختلفة. وفي تلك اللحظة، كانت أختي تنتصب واقفة وتنظر إليّ)

وكان (فلان) يستيقظ من نومه دائماً عند هذه النقطة يائساً، قانطاً يتملكه الشعور بأنه يجب أن يذهب إلى غرفة أخته ليتحقق من أنها بخير

ولو أن هذا يبدو حلماً مزعجاً نموذجياً. فقد كانت هناك بواعث شديدة لا شعورية موجودة فيه. ففي الجامعة كان فلان حيياً خجولاً، ولقد أراد أن يكوِّن لنفسه أصدقاء من بعض النساء ويخص منهن فتاة وكتب قصيدة أهداها إليها، ولكنها وقعت صدفة في يد (ا)، وعرض فلان بعض الوعود، كما يفعل الشعراء، ولم يكن شعره رديئاً ومع ذلك فقد صار أكثر خجلاً وأكثر حساسية

(ا) مثال كريه جداً، حاول أن يهدم إدراك فلان المثالي للنساء، واتجاهه العف نحوهن بترديد حكايات ماجنة

وكانت الآنسة (ج) جارة أعجب بها فلان. وباستثناء أخته كانت ب المرأة الوحيدة التي عرفها معرفة حقيقية، ولقد قال لها ذات مرة أنه يحب (ج) حباً شديداً

(د) كانت نجماً سينمائياً تخصصت في الأدوار التي تمثل المرأة العاقلة الحكيمة

ولقد أراد فلان أن يتزوج، ولكنه كبت هذه الرغبة ووجد حلاً غير مرضي بمعيشته مع أخته التي كان سيصير مركزها إذا تزوج مشكلة صعبة. وكانت في الحقيقة، تتكدر إذا بين لها رغبته في التعرف إلى نساء أخريات. وكانت أحلامه بموتها إيضاحاً لرغبته اللاشعورية التي تحتم موتها حالاً، وبهذا يحل مشكلته هذه. وكان هذا غير مقبول لدى عقله الواعي وضميره اللذين عوضا على الرغبة باهتمام مضطرب قلق لصحة أخته. . .

إنه كان يميل إلى ج كثيراً، ولأن السيدة ب شجعته صارت المرأتان مشتركتين في (اللاشعورية). ورغبته الخائبة للإرضاء الطبيعي البحت كان محققاً بـ د التي أصبحت على هذا النمط مشتركة مع كل من المرأتين، وكان (ا) متبلبلاً في شعوره الشخصي بالضعة، بقدر ما كان قلقاً، وساعة أخته الذهبية كانت هدية منه، وتعبر عن العاطفة التي أراد أن يعطيها لامرأة أخرى. فكانت أحلامه لذلك انعكاساً مستتراً لفشله الشخصي

وبعد. فإن باختبار القارئ لأحلامه بإخلاص، كما فعلنا في هذا المقال، ربما يكون قادراً على شرح ما يبدو له منها غامضاً وفي الوقت ذاته يدرس عن نفسه الشيء الكثير

هل أحلامك إلهامية؟ لقد قال الدكتور الفريد أدلر إنها في بعض الدرجات ربما تكون كذلك. ليس لأي سبب خفي، ولكن لأنها ربما تدل على محاولات تجريبية عند حل المشكلة التي تتأتى

وقال أيضاً إن شخصاً ربما يركن إلى التنعم بأحلام السعادة والنجاح. غير أن هذا لا يتفق الآن للرجل الجريء الذي لا تبعد حقيقته عن خياله، فتكون أحلامه أقل تعبيراً عما يمتجنه وجدانه.

(الإسكندرية)

عبد العزيز جادو