مجلة الرسالة/العدد 582/البريد الأبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 582/البريد الأبي

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 08 - 1944



في سبيل وحدة الوجود

قرأت الكلمة الأخيرة للأستاذ دريني خشبة في الرد على الأستاذ معروف الرصافي، وهي كلمة لا تتسق مع موضوع البحث، لأن الأستاذ دريني سلك فيها مسلك التحدي للأستاذ الرصافي، وذلك مسلك لا أرتضيه في أمثال هذه المساجلات وسبب هذه المعارك القلمية يرجع إلى آرائي عن وحدة الوجود في كتاب التصوف الإسلامي، وكان المنتظر أن أقول كلمة في الفصل بين أولئك المتخاصمين، ولكني سكت عن عمد، لأن تلك المعارك اتجهت وجهة دينية، مع أن نظرية وحدة الوجود نظرية فلسفية، والدين يلاقي الفلسفة في حين ويفترق عنها في أحيان

كنت أستطيع أن أفصل بين أولئك المتخاصمين، لأن كتابي سبب هذه الخصومة، ولأني شغلت نفسي بدرس هذه النظرية عدداً من السنين، ولكني رأيت أن أقف على الحياد، لأن اشتراكي في المناظرة سيزيدها احتداماً إلى احتدام، وسيسوقنا جميعاً إلى متاعب فكرية تزلزل العقول، وتبلبل القلوب

أنا حاضر لخوض هذه المعركة من جديد، ولكن أين الميدان؟

سيتصدَّى للرد على ناس لا يفهمون مرامي كلامي، كالناس الذين زعموا أني أنكرت إعجاز القرآن في كتاب النثر الفني، مع أن آرائي في إعجاز القرآن هي الآراء الباقية، وإن قال بعض الخلق إنها من الكفر الموبق!

لن أعيد القول في نظرية وحدة الوجود إلا يوم أضمن أن ينظر الناس لحرية الرأي، كما كان ينظر المسلمون إلى تلك الحرية في عهد ازدهار المدنية الإسلامية

أما اليوم فأنا يائس من حرية الرأي، فكل كاتب يحاول أن يكون واعظاً في مسجد، أو راعياً في كنيسة، كأن الفكر الحر من القيود لم يبق له مكان في هذا الوجود

والذي يهمني في هذه الكلمة الوجيزة هو دعوة الباحث المفضال الأستاذ درينى خشبة إلى اجتياز عقبات هذه المساجلة بأسلوب لا يجرح الأستاذ الرصافي، ولا يصور الباحثين المصريين بصورة المتعنتين

وكنت وعدت بالرد على الأستاذ الرصافي، وسأفي بما وعدت ولكن بالتجمل والترفق، فم يجوز أن أجرح رجلاً شغل نفسه بتأليف كتاب يردّ به على كتابين من مؤلفاتي، والأستاذ دريني يعرف أن الذوق هو خير ما دعا إليه الأنبياء

والمودة الوثيقة التي أضمرها للأستاذ درينى توجب عليّ أن أدعوه إلى الاقتصاد في الغض من نظرية وحدة الوجود، فهي نظرية عبقرية، وهي خير ما جادت به قرائح الفلاسفة في تاريخ الفكر الإنساني، وليس من السهل أن تنهدم بمقالات يؤازره فيها الأستاذ عبد المنعم خلاف، وإن بلغا الغاية في قوة الحجاج

أنا أحترم كل رأي يصدر عن عقيدة، وأن أنكره عقلي، ولا أحتقر غير الآراء التي تصدر عن الرياء

ومن المؤكد عندي أن الأستاذ درينى والأستاذ عبد المنعم يصدران عن عقيدة في الغض من نظرية وحدة الوجود، فأنا أنظر إلى ما يكتبان بعين المحب العطوف

فإن قال قائل: وكيف جاز أن أسكت عن تأييد هذه النظرية والأقلام تنوشها من كل جانب؟ فجوابي أنني قلت فيها كل ما أملك من القول في كتاب التصرف الإسلامي، وأنا أكره الحديث المعاد

وأنا أيضاً نقضت هذه النظرية بعد أن شرحتها في كتابي، لأن طريقتي في التأليف تقوم على أساس الاستقصاء في موازنة الآراء

وهنالك مشكلة سكت عنها الأستاذ درينى وهي تأثير تلك النظرية في الحياة الإسلامية، إن كان قرأ الفصل الخاص بالمدائح النبوية في كتاب التصرف الإسلامي

فما رأيه في هذه المشكلة، وهي من كبريات المشكلات؟

سيدفع الأستاذ درينى ثمن المودة التي أضمرها لروحه اللطيف، والثمن هو دعوته إلى قراءة كتاب التصوف الإسلامي مرة ثانية ليرى كيف أقمت نظرية وحدة الوجود على أمتن أساس

يسرني أن أساجل باحثاً له في نفسي منزلة الصديق الغالي، ويسرني أن ينتصر في المساجلة؛ فما لي غرض غير الوصول إلى الحق، ولو كان دليلي إليه أعدي أعدائي

أنا أعلن أيماني بنظرية وحدة الوجود على نحو ما ذهبت إليه في كتاب التصوف الإسلامي، ولن أرتاب إلا بإقناع، فهل تستطيع إقناعي يا أيها الصديق؟ يجب أن تعرف أني سأقهرك على المشي فوق الأشواك، وأني سأصل إلى إقناعك بما لم يقنعك به الأستاذ معروف الرصافي

أنت تهدد بالعودة من المصيف، لتجتاح خصومك

وأنا أهددك بما ادّخرت لعقلي وقلبي من هجير مصر الجديدة فتعال إلى مساجلتي يا أيها الصديق الغالي

وأساس المساجلة أن تترك التفكير في أن نظرية وحدة الوجود تجني على العقيدة الإسلامية

وأنا أعتذر بالنيابة عنك للأستاذ معروف الرصافي، وهو رجل أعفى نفسه في جميع أطوار حياته من الرياء، وسيكون له في تاريخ الشعر والرأي مكان

إنه رجل يعتذر عن الضعف بشيخوخته، فكيف تستطيل عليه بشبابيك؟

سأرى ما تجيب به يا صديقي بعد عودتك من المصيف، إن كان لي سبيل إلى الهرب من مصاولتك، وهي أني أستعد لشرح مسابقة الأدب العربي، فقد بدأتها في الرسالة منذ أعوام ومكانها في مجلة الرسالة وهو مكانها الأول، فإلى اللقاء بعد أسابيع.

زكي مبارك

من الأستاذ خليل مطران إلى الأستاذ عبد الرحمن صدقي

حضرة الأديب الكبير والصديق الكريم الأستاذ عبد الرحمن صدقي

كتبت لأبي نواس ترجمةً وافيةً من طراز جديد، بلغة لا تختلف إلا قليلاً، فُصَحُها في هذا العهد، عما كانت في أزهر عهودها. وقد آثرت لها الأسلوب القصصي البارع في الجانب الذي صّلُح منها لهذا الأسلوب، فبلغت بقوة الخيال وحسن السبك، مع مراعاة الحقيقة التاريخية غاية ما يبلغه الكاتب القصصي المجيد من التشويق. وكم كانت لك جولة متعمقة وموفقة في نواحي تلك النفس المنغمسة في الشهوات، الحائرة الرتابة، المؤمنة في النهاية، التي فعلت فيها البيئة الظرفية أفاعيلها على الولاء

وما من شك في أن ذلك الشاعر المطبوع - الذي لم يدرك ذروته شاعر في العرب بعذوبة اللفظ، وجلاء المعنى، وطرافة الفطن، وبداعة التصوير - قد ظل طوال أيامه، وعلى اختلاف الحوادث التي مرت، وعلى علاتها الجمة صادقاً مع نفسه كل الصدق فيما استقر عليه رأيه الأدبي، أو الاجتماعي، أو معتقده الديني. ولذلك يستحق المعذرة لعبقريته، وإن تصرَّف في سيرته المتهتكة تصرفاً لا يحبه الناس من الرجل العظيم

فأشكر لك هديتك، وأثني عليك بما يحق لك. ولئن عاقني عن التوسع في متابعة دراستك الحلوة ضعفُ جسمي ووهى عزمي، لقد أوجزت لك بكلمة ما جرى به القلم على قدر

بارك الله فيك، ويسّر لك أن تزيد العالم العربي من ثمرات ألمعيتك.

المخلص

خليل مطران

حول الخوارزمي

حجزتنا أشاغيل طرآنية عن التعقيب على كلمة الأستاذ علي محمد حسن في حينها، ونحن إذ نحمد للكاتب يقظته في تتبع السقطات والعثرات في كل مقال أو قصيدة، نحب أن نطمئنه إلى أن (ظلم القرون) الذي تطوع بإزالته عن أبي بكر الخوارزمي، قد فطن إليه المتأخرون من نقدة الأدب العربي، ونحسب أن أحد المستشرقين وضع بحثاً علمياً في المناظرة بين البديع والخوارزمي، كما أن الدكتور عبد الوهاب عزام سلسل في (الرسالة) قبل سنين مقالات ماتعة أزال بها الوهم الذي علق بأذهان المتأدبين فيما يتصل بهذه المناظرة التي وصفها الخوارزمي نفسه بأنها (شعبذة)، وإذا لم تكن شعبذة فليست من الأدب في شيء

كذلك لم تغب عنا المراجع التي نقل عنها الأستاذ أسانيده في نصفة الخوارزمي، ومع احتفاظنا برأينا في أدب الرجلين لا نجزم بصحة المناظرة، ولا بجدّيتها إن صحت، وإنما جرنا إلى ذكرها في مقالنا الأول سياق الكلام لنثبت (رجعية) النظرة إلى الأديب من كلام الصاحب بن عباد الذي نسب إليه أيضاً قوله: (لو أدركت عيسى بن الهمذاني لأمرت بقطع يده) فلما سئل في ذلك قال: (لأنه جمع شذور اللغة فرفع عن المتأدبين عناء البحث) يعني بذلك كتاب (الألفاظ الكتابية) ومعنى هذا أن كل من وضع موسوعة أو صنّف معجماً استحق في دين (الصاحب) قطع يده. . . نسأل الله السلامة!

(الرمل) منصور جاب الله

حول أغلاط أيضاً

في عدد الرسالة الأخير تصويبات لغوية للأستاذ عبد الحميد ناصف المدرس بكلية اللغة العربية، وقد أدهشني أن أرى فيها كثيراً من الأخطاء التي لا يصح إغفالها والسكوت عليها فآثرت أن أنبه على بعضها

1 - يدعى الأستاذ أن الصدفة كلمة لغوية بالرغم مما شاع من عدم لغويتها، فكثير من المعاجم وكتب اللغة كاللسان أوردها، وفي حديث أبي ذر (والبر ما حاك في النفس ولم تلده الصدفة)

ولقد اطلعت على اللسان والقاموس والمختار والمصباح فلم أجد كتاباً أورد لفظ صدفة، على أن الذي حيرني واستوقفني أثار عجبي هذا الحديث الذي ذكره. وليت شعري كيف يسيغ الأستاذ مثل هذا الخلط العجيب الذي لا تصححه رواية، ولا تجيزه دراية ولا يلتئم عليه معنى؟ وهل يستجيز عقل أو يستبيح ذوق أن يكون البر مما يحوك في النفس ويتردد في القلب؟ وأين يقع الإثم إذا؟

لقد ورد هذا الحديث في كتب السنة هكذا (عن النواس ابن سمعان رضى الله عنه) قال: سألت رسول الله (ص) عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. وفي رواية أخرى سأل رجل رسول الله (ص) عن البر. فقال: جئت تسأل عن البر. قال: نعم فقال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وأن أفتاك الناس أفتوك، وهكذا كل روايات الحديث، وهي موافقة للمعنى المستقيم الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ولم يرد فيها لفظ الصدفة، ولا هي مما تمت إلى معانيه بسبب. فمن أين أدخلت على الأستاذ روايته وكتب السنة بأجمعها دون استثناء ليس فيها كلمة صدفة المقحمة في هذا الحديث

وأعجب شيء أن يستدل بصحة هناء يقول الشاعر:

هناء محا ذاك الغراء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما ومن هذا الشاعر الذي احتج بقوله؟ هو ابن نباته المصري المتوفي سنة 768هـ. قاله في تهنئة الملك الأفضل صاحب حماة، وتعزيته في وفاة والده المؤيد. فهل ابن نباته ممن يحتج بكلامهم في اللغة أم ذلك مذهب جديد في فن الاحتجاج والاستشهاد

2 - وصف الجمع بصفة المفرد لعله لم يرد إلا في كلام المؤلفين وافتراضات المتأخرين؛ فإن ذهبت تلتمس له شاهداً صحيحاً من كلام العرب أعجزك العثور عليه. أما البيت الذي زعم أن جريراً قاله فلا يوجد في ديوانه ولا هو مما يشبه شعره

عبد الحميد المسلوت

ملاحظات ورجاء

اطلعت على القسم الثاني من ملحمة السراب للأستاذ الكبير الدكتور إبراهيم ناجي في العدد 575 من الرسالة الغراء، فأعجبني تصويره أيما إعجاب حيث تجلت فيه عبقرية الشاعر العظيم. وبينما كنت في طريقي أثناء قراءة الملحمة لاحظت عند منتهاها قبل البيت الأخير أن ضلع الشطر الثاني مكسور. وهذا هو البيت:

مرحباً بالهوى الكبير فإن يب ... ق وإن تسلمي يطب لنفسي البقاء

ويمكن الجبر بحذف شيء منه أو بتغيير الشطر، وقد سبق في العدد الماضي من الرسالة 574 أن أبدى الأستاذ علي محمد حسن رأيه في القصيدة المعنونة بالسراب، حيث لا حظ كسراً في ضلع بعض الأبيات. والقصيدتان من بحر الخفيف، فأرجو أن يتفضل الشاعر الألمعي فيجبر الكسر مع قبول عظيم تشكراتي وخالص تحياتي.

مكة المكرمة

يوسف قستي