مجلة الرسالة/العدد 580/حول بعث القديم
مجلة الرسالة/العدد 580/حول بعث القديم
منزلة المنفلوطي بين كتابنا
للأستاذ محمد خليفة التونسي
أوردت في مقالي السابق (حول بعث القديم) خمس ملاحظات مما عن لي ملاحظته على مقال الدكتور محمد مندور (بعث القديم) وهأنذا أعود إلى مناقشة رأي الدكتور في المنفلوطي، وانقسام النثر إلى تيارين الآن، كما وعدت في آخر مقالي السابق، وكما أبيت على نفسي هناك أن أقف فيما لاحظت موقفاً سلبياً، فوقفت بعده موقفاً إيجابياً - سأقف هنا ليكون الرأي أوضح والكلام أتم، وسألزم نفسي الإيجاز هنا، كما ألزمتها إياه هناك لضيق المقام
رأي الدكتور أن القصة بمجرد ظهورها أخذت تغذي السجع بمادة الفكر، على نحو ما نجد في المويلحي (محمد)، ثم شاع الفكر بعدها، ومنها إلى المقالة (على نحو ما نجد عند السيد توفيق البكري الذي جمع في أسلوبه بين الصنعة اللفظية وجمال الصورة الخيالية وصدق الإحساس أو أصالة الرأي). ثم خطا النثر خطوة أخرى في القرن العشرين على يد المنفلوطي، فأصبح كالنثر الأوربي (تعبيراً مباشراً عن فكر غني أو إحساس صادق). ثم قال: (واليوم ننظر في نثرنا فنرى تيارين كبيرين ينطوي في أثناء أحدهما المويلحي والبكري ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات، على اختلاف في الأمزجة وعمق التفكير أو الإحساس، ولكنهم يجتمعون معاً في خاصية واحدة، هي أنهم وإن يكونوا أبعد من أن يمثلوا في شيء اللفظية التي سادت في عصور مصر الإسلامية المتأخرة، إلا أنهم رغم ذلك يحرصون على تجويد العبارة تجويداً فنياً، ويخضعون الفكر أو الإحساس لطرق الأداء، حتى ليأخذك في أدبهم جمال الصياغة قبل أصالة الموضوع، أو تحس بأن تلك الأصالة قد اضطرتهم إليها أصول الأسلوب التي ينتهجونها. والتيار الثاني يبتدئ كما قلنا بالمنفلوطي، ذلك الرجل المرهف الإحساس العذب الأسلوب. ذلك الكاتب الذي غذى أجيال الشباب الناهضة أجمل الغذاء، وبلغ من التأثير في نفوسهم ما لم يكد يبلغه كاتب آخر)
ولا تعنيني هنا مناقشة رأي الدكتور في تقدم الجد الفكري في القصة على المقال، فقد خالفته في ذلك ونقضته في المقال السابق، بل يعنيني ما نقلته بعد ذلك، وغنما ذكرته لأحفظ لآراء الدكتور اطرادها وتماسكها، ولأن ما لخصت أساس لما نقلت، ومن أجل هذه لجأت إلى نقل ما أريد مناقشته مع طوله دون التلخيص. وأسأل نفسي هنا سؤالاً يحدد الرأي الذي أريد مناقشته هنا، وسنرى أكان الدكتور موفقاً في الإجابة عنه أم لم يوفق
آلمنفلوطي ممن ينطوون في أثناء التيار الأول كالمويلحي والبكري والرافعي والزيات، أم ممن ينطوون في أثناء التيار الثاني كطه حسين الذي ضربه الدكتور مثلاً لرجال هذا التيار؟
يرى الدكتور أن المنفلوطي ممن ينطوون في أثناء التيار الثاني، بل يوغل فيرى أن التيار الثاني يبتدئ به، ونترك الآن أن هذا التيار ابتدأ به، وحسبنا أن نرى أكان أم لم يكن من رجاله؟
وقبل أن نناقش رأي الدكتور نلاحظ عليه أولاً أنه حدد الخاصية التي يجتمع فيها - كما عبر - رجال التيار الأول وسكت عن الخاصية التي يجتمع فيها رجال التيار الثاني، وقد تكرر هذا السكوت مرات منه حين لجأ إلى التقسيم
وما نظننا في حاجة إلى مقياس جديد غير مقياس الدكتور نطبقه لنرى أي تيار ينطوي فيه المنفلوطي، فعلينا أن نتمسك به وهو وحده كفيل ببيان الحق الذي ننشده، وكفيل ببيان أن الدكتور أخطأ في تطبيق مقياسه وناقض نفسه ولم يصل إلى الغاية التي كان يجب أن ينتهي إليها، فقد استقام على سنن واضح في أول أمره ثم حطم مقياسه فانتهى إلى نهاية لم يتخذ لها بدايتها، ولم تكن البداية التي سلكها لتصل به إليها
أما رجال التيار الأول - كما قال الدكتور - مثل (المويلحي والبكري ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات على اختلاف في الأمزجة وعمق التفكير أو الإحساس، ولكنهم يجتمعون في خاصية واحدة، هي أنهم وإن يكونوا أبعد من أن يمثلوا في شيء اللفظية التي سادت في عصور مصر الإسلامية المتأخرة، إلا أنهم رغم ذلك يحرصون على تجويد العبارة تجويداً فنياً ويخضعون الفكر أو الإحساس لطرق الأداء حتى ليأخذك في أدبهم جمال الصياغة قبل أصالة الموضوع، أو تحس بأن تلك الأصالة قد اضطرتهم إليها أصول الأسلوب التي ينتهجونها)
والمقام لا يتسع لإيراد الشواهد من كلام المنفلوطي، وما نظننا بحاجة إلى الوقوف عند شاهد خاص لنتبين أن هذه الخاصية تتحقق في كل ما كتب المنفلوطي كما تتحقق في المويلحي والبكري والرافعي والزيات من رجال التيار الأول، فأي كلام للمنفلوطي صالح لأن يكون شاهداً على قيام هذه الخاصية بأوضح سماتها، ومن أجل هذا ولضيق المقام تركت الاستشهاد، وأترك للدكتور أن يجيل بصره في أي صفحة مما كتب المنفلوطي - وإنه لكثير - سواء ما وضع وما ترجم وأنا واثق أنه سيجد هذه السمات التي رآها رجال التيار الأول القائمة في آثار المنفلوطي، بل سيجدها في آثاره أوضح مما هي في آثارهم، فما أكثر ما لجأ المنفلوطي في سبيل إخضاع الفكر أو الإحساس لطرق الأداء، وتجويد العبارة إلى إخراج الفكرة مضطربة، والإحساس شائهاً، وأظهر ما تظهر هذه السمات فيما ترجم المنفلوطي فإنه - لجهله الأصل يترجم عنه - لا يقف في تصرفه عند حد حتى ليضل من يقرأ جزءاً من ترجمته العربية حين يحاول أن يتعرف مقابله من الأصل الأجنبي، بل كان يلجأ أحياناً إلى القصة الأجنبية فيجعل مقدماتها أعجازها، ويشيع فيها الهدم علواً وسفلاً، ويقص بعض أطرافها ويزيد في بعضها الآخر، ولا يزال مكباً عليها مسخاً وتشويهاً حتى ليعجز متبعه عن السير معه وحتى ليكاد يخفي الأصل كله عنه لولا أن يهتدي إليه من طريق آخر كالأعلام مثلاً، وما علينا إلا أن نرجع إلى ترجمته لقصة غادة الكاميليا فقد غير حتى عنوانها ثم جعلها قصتين بعنوانين، كما يظهر ذلك من الرجوع إلى مجموعته (العبرات) وهذان العنوانان يظهران حتى في فهرس المجموعة، ولو وازناً بين ترجمة القصة في آخر مجموعته والأصل الفرنسي أو بينها وبين الترجمة العربية للدكتور أحمد زكي بك لرأينا مقدار ما جنى المنفلوطي بجهله الأصل وحريته التي لا تقف عند حد - على هذه القصة الفريدة الخالدة، ولقد كان مسخه يمتد إلى كل ما يترجم حتى العناوين، وما أظن الزيات فيما ترجم - مع حرصه أيضاً على تجويد العبارة - قد اجترح شيئاً من آثام المنفلوطي لأنه يعرف الأصل ولا يترك الاتصال به في أي موضع من المواضع، وإنما اخترت الزيات لأنه باعتراف الدكتور من رجال التيار الأول
ولم يكن المنفلوطي ليكتفي في الترجمة بما تضعه اللغة العربية بألفاظها وخصائصها من عراقيل في طريقه رغم أنفه، مع أن كثيراً من ذلك يستمد معناه من البيئة الصحراوية التي نشأت فيها العربية كما يستمده من الحوادث العربية المحضة، وإنه لعبء أي عبء يحس به من شاء الترجمة الشفافة من أي لغة أجنبية إلى العربية، بل كان المنفلوطي يضيف إلى العراقيل السابقة عراقيله هو من التشبيهات والكنايات والمجازات والاستعارات العربية التي يستمدها من أساليب الأقدمين، وإنها لرواشم توارثها العرب لاحقاً عن سابق، وهي تمت إلى خصائص عربية بدوية وتصبغ الكلام بصبغة عربية بدوية لا تخطر إلا في بال من عاش في هذه البيئة التي نشأت فيها تلك اللغة وتلك الأساليب مما لا يتصوره ذهن غربي ولا يلوكه لسان غربي ولا يوجد في لغة غربية
أما ما كان يضعه المنفلوطي، فقد كان حرصه فيه على جودة التعبير كما يفهمها هو من حيث البلاغة العربية أكثر منه فيما يترجم؛ فقد كانت الترجمة تمده بالفكر والإحساس، فلا يبقى له إلا التعبير، أما ما وضع، فالفكر والإحساس فيه له وحده. وإنه لفكر ركيك وإحساس إما فاتر وإما حار، ولكن المبالغة فيه تبعث الإنسان على السخرية أكثر مما تبعثه على المشاركة فيه والعدوى به
يرى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني أن الترجمة خير محك للكلام الجميل، فالجميل في لغة جميل في غيرها، والرديء في لغة رديء في غيرها، ونحن مع ذلك نعتقد أن الكلام في نقله من لغة إلى أخرى يفقد كثيراً من جماله، ولكن الأفكار والأحاسيس يستطاع نقلها مع المحافظة على جمالها، وليس يضيع في النقل إلا جمال التعبير
فماذا على الدكتور لو أنه نقل جزءاً مما كتب المنفلوطي إلى لغة أجنبية يعرفها ثم نظر فيه بعد ذلك!
أنا واثق أن الدكتور لن يجد بين يديه شيئاً تافهاً أو لا شيء، لأن جودة التعبير هي أبرز فضائل المنفلوطي، وهي شيء يضيع أثناء النقل، فلا يبقى له إلا الفكرة أو الإحساس، وإنهما لشيئان تافهان - هذا إذا كانت هناك فكرة وكان إحساس
وقد لاحظنا أننا نتكلم عن أسلوب التفكير وأسلوب التعبير، فلنلاحظ أنه كلما كانت الفكرة أو الإحساس أو الصورة أدنى إلى السذاجة كان التعبير عنها أيسر، فإذا كان المنفلوطي أيسر فهماً من الرافعي والزيات وغيرهما؛ فمصدر ذلك أنه لا يتعمق في فكره كما يتعمقون، ولا يرهف إحساسه ويصدق كما يرهفون ويصدقون، ولا يجهد نفسه ليرتقي إلى آفاق الفكر العليا والمثل الإنسانية الرفيعة كما يجهدون ويرتقون والصبي إذا استطاع أن يعبر الجدول قفزاً دون أن يصيبه البلل ليس له أن يفخر على الرجل إذ يعجز عن عبور النهر إلا سباحة فيقاسي ما يقاسي في عبوره من هول الأمواج والتيارات ووحوش الماء، ولا ينال ما يريد إلا بعد أن يأخذ منه النصب كل مأخذ ويلقى من المتاعب ما لا يخطر للصبي على بال، وما على الصبي إذا يشاء للفخر إلا أن يلقي بنفسه في النهر كالرجل وسيعرف أنه ليس الجدول كالنهر
من أجل هذا نرى أن المنفلوطي ليس من رجال التيار الثاني، فلا يجوز بحال أن نرى ما رأى الدكتور من أن التيار الثاني قد ابتدأ به، ومن أجل هذا كان المنفلوطي من رجال التيار الأول، بل إنه لآصل فيه من بعض من يظنهم الدكتور أصلاء فيه، وخاصة الرافعي وعلى وجه أخص الزيات؛ فإن الزيات أدنى منه إلى رجال التيار الثاني وأشبه بهم منه
ولطالما هجم الزيات على أعقد مما اضطرب فيه المنفلوطي من المشاكل الفكرية، ومع محافظته على اطراد آرائه واتزان خطاه وصفاء فكره وخصائص شخصيته - استطاع أن يحتفظ لتعبيره بطلاوته وأناقته وإشراقه على النحو الذي يفهمه من بلاغة أسلوب التعبير في اللغة العربية، كما أبان لنا عنه في مقالاته حين تعرض للدفاع عن البلاغة
وإنه ليبلغ من بلاغة التعبير ما يريد دون أن ينسى أو ينسيك المشكلة التي تعالجها، أو يخدعك بجمال الصياغة عن الموضوع الذي يحدثك به، وما هكذا المنفلوطي؛ فإنه ليبلغ منه الحرص على جودة التعبير أحياناً مبلغاً يخرجه حتى من رجال التيار الأول المحتفظين بجمال الصياغة، مع احتفاظهم بوضوح شخصيتهم وخصائص أمزجتهم والصدق في إحساسهم والجد في تفكيرهم - ويدنيه إلى الفئة الذين كل همهم أن يخدعوك عن ثقافتهم بحلية لفظية زائفة كرجال العصور الإسلامية المتأخرة أمثال الحريري وأبن زيدون والقاضي الفاضل والوطواط وابن نباتة والصفدي وابن حبيب الحلبي والجبرتي والشرقاوي وغيرهم ممن تخلو كتاباتهم الأدبية من كل فكر جاد وإحساس صادق. ونقول يدنيه منهم ولا نقول يضعه فيهم، لأن المنفلوطي - مهما يسف - لن ينحط حتى يكون مثلهم، ولن يتهافت حتى يبلغ مبلغهم من التفاهة والسخافة والفسولة، ولكنه كثيراً ما نزق مثل نزقهم، وإن كان أرفع منهم أفقاً وأقوم فكراً وأصدق حساً. فظهر كالمشعبذ مثلهم، ولو أن شعبذته من صنف أرقى وأدق وأعمق المنفلوطي من رجال التيار الأول، وليس أفضل رجاله، وإن كان من أفضلهم، ونحن نظلمه حين نخرجه عن أشباهه إلى غير أشباهه؛ فلنضعه حيث وضعه الله ووضعته ملكاته ومؤهلاته وتربيته وثقافته، وبهذا نوفيه حقه ونعرف له فضله، وإنه لفضل عظيم. . .
ووداعاً يا سيدي الدكتور إلى أن نلتقي في مقال آخر نجيب به عن هذا السؤال: آلمنفلوطي - كما قلت أنت - الكاتب الذي غذى أجيال الشباب الناهضة أجمل الغذاء، وبلغ من التأثير في نفوسهم ما لم يكد يبلغه كاتب آخر؟
وإليك مني خالص تحياتي وتجلاتي
(سمالوط)
محمد خليفة التونسي