مجلة الرسالة/العدد 58/في تاريخ الأدب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 58/في تاريخ الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 08 - 1934



رأي جديد في المعلقات

نقد وتعقيب

بقلم محمد طه الحاجري

كتب الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي فصلاً في (الرسالة) جعل عنوانه: (المعلقات. رأي جديد فيها)، وقد والله فتننى هذا العنوان أيما فتنة، واستوقفني عن قراءة المقال برهة، وأسلمني إلى طائفة من الخواطر غير قليلة. فقد طال عهدنا بالطريف من الآراء في تاريخ الأدب، واشتدت حاجتنا إلى إعادة النظر وتقليب الفكر في تراثنا الأدبي، واستشفاف الحقيقة المستكنة في ثنايا النصوص المختلفة، والتأويلات الكثيرة، ولا سيما فيما يتعلق بالعصر الجاهلي، وقد وقفنا منه في مجهل لا يتبين الباحث فيه إلا لمحات خاطفة، وأثارات ضئيلة، يكتفنها الغموض ويحيط بها الإبهام وتلعب بها الأوهام. . . وما نشك في أن المعلقات صورة صحيحة من ذلك العصر، مهما كان أمرها، ومهما اختلفت فيها مذاهب الباحثين وآراؤهم. فكل رأي جديد فيها جدير أن تلتفت إليه القلوب. وتصغي إليه العقول، ويتلقاه المتأدبون بالبشر والترحيب، إذ الجديد وحده هو الذي ينتظر منه أن يبدد الظلمات ويزيل الشبهات، ويفسر المشكلات. وليس الأستاذ الصعيدي ممن يتهم بأن له مع المستشرقين علاقة هوى، فيميل ميلهم، ويفسد الأدب والتاريخ بآرائهم! فجديده لابد أن يكون الجديد الخالص لا يشوبه شوب من تقليد. وهو رجل محافظ بطبعه، فيما يظن الناس، فجديده خالص لوجه العلم والحقيقة، لا عن رغبة في الخلاف وهيام بالتجديد.

حدثتني بهذا الحديث نفسي، وأنا واقف عند حد العنوان، ولكني كنت أنتقل في مدارج الغبطة والفخر والسرور، حتى أقبلت على المقال ألتهمه التهاماً، فإذا بي لا أحس شيئاً مما خيله لي المقام، وزينته لي الأوهام، ثم اتهمت مشاعري فعدت إلى المقال أقرؤه جملة جملة وكلمة كلمة. فإذا بي أر تكس على عقبي، وأحس في نفسي ما يحسه الطاعم لقاء طعام سئمته نفسه، ومجه حسه، وبرمت به معدته من كثرة ما تقلب فيها.

أما هذا الرأي (الجديد) فليس رأيا في المعلقات من حيث هي صورة للجاهلية، نلمح فيه صفاتها، ونقرأ فيها خلائقها وعاداتها، وليس بحثاً فيها من حيث وثاقة رواتها، أو الوضع في أبياتها، ولكنه رأى في سبب وتسميتها، ثم ما يحتاج من توجيه وتعضيد، وإنحاء على الآراء الأخرى بالمحاجة والمجادلة ثم التوهين، وهذا بحث جليل لا يضع من قيمته جزئية موضوعه، مادام متمشياً مع الأسلوب العلمي، قائماً على أصول البحث الصارمة.

يقول الأستاذ في سبب التسمية: (فهذه المعلقات معلقات مما حدث للناس بعد جمعها من حبهم لها وتتبعهم إياها بما كانوا يتتبعونها به من حفظها وشرحها، وهي معلقات بمعنى محفوظات أو مشروحات، وقد خصت بهذا الاسم لأنها كانت أول ما عنى بجمعه وتدوينه وحفظه وشرحه من الشعر).

فهو يذكر هنا سببين متداخلين: الحب والتتبع، ثم التتبع بالحفظ والشرح، وما أدري فيهم هذه المعاظلة؟. أما كان الأدنى إلى الاستقامة أن يقتصر على السبب الأول، ويكون ما بعده مرتباً عليه، راجعاً إليه ناتجاً منه، فيكون سبيل التسمية هو هذه الدرجة الرفيعة التي قدرها الناس لهذه القصائد، فتعلقوا بها، وأولها حبهم وإعجابهم، وما يمليه عليهم الحب والإعجاب من القيام عليها بالاستظهار والشرح، أما التعليق بمعنى كتابة الشرح على المتن فما نسحبه مما كان يسوغ في عرف اللغة حينذاك.

هذا هو الجديد فيما يزعم الأستاذ، ولوددت والله لو كان جديداً حقاً، فنرفع به رءوسنا تيهاً وفخراً، ولكنه رأي مقرر، يدرسه طلاب المعلقات فيما يدرسون من الآراء فيها منذ أصبح لدراسة المعلقات في مصر سبيل علمي معبد، وأسلوب جامعي ثابت، فليس الجديد في حقيقة الأمر إلا اعتبار هذا الرأي جديداً اليوم.

وإذا كان لابد من ثبت لما ندعيه من قدم هذا الرأي وإمعانه في الشيوع بين جمهرة العلماء، فها هو العلامة المستشرق الجليل نولدكه وهمك به من علامة ذائع الصيت، يقول في الفصل الذي كتبه عن المعلقات في دائرة المعارف البريطانية، وهي أدنى ما يقصد إليه الباحثون:

(إن قصة القول بأن هذه القصائد كتبت بالذهب ترجع إلى تسميتها بالقصائد المذهبات، وهي تسمية مجازية للدلالة على عظم أمرها، وكذلك يجب أن نؤول تسميتها بالمعلقات على هذا الأساس نفسه، فمن المحتمل جداً أن تعنى هذه التسمية أن هذه القصائد قد سمت إلى درجة خاصة مجيدة، وأن هناك اشتقاقاً آخر من المادة نفسها، وهو كلمة (علق)، ومعناها الشيء النفيس) فمدار القول هو الاعتبار المجازي في فهم الكلمة وإغفال المعنى الحرفي لها. فأين هي الجدة التي يسندها الأستاذ إلى رأيه؟.

وأما قوله إن المعلقات هي أول ما عنى بجمعه وتدوينه وحفظه بدعوى لا نحسب إلا أن علم الأستاذ وفضله ينوءان بها، وأيا كان الأمر، فان تعيين الأولية في هذا العصر البعيد أمر ليس من السهولة بحيث يلقى في كلمة في درج الكلام، بل لابد من النص الواضح أو الاستنتاج القاطع.

وبعد أن انتهى الأستاذ من عرض هذا الرأي وتوجيهه عمد إلى ما يخالفه من الآراء عرضاً ومناقشة، وقد اكتفى من هذا برأيين: الأول رأي ابن عبد ربه وابن خلدون وابن رشيق، والثاني رأي أبي جعفر النحاس المصري، وكان المنتظر أن يعرض إلى غير هذين الرأيين من آراء المحدثين، فقد جعل مستهل مقاله أن العلماء قد اختلفوا قديماً وحديثاً في سبب تسمية هذه القصائد، فالقارئ معذور إذا ظن أن الأستاذ يعرف مذهب المحدثين إلى التفسير المجازي، ثم أغضى عنه تمهيداً لوصف رأيه بالجدة والابتكار، وإلا فأين ما خالف فيه المحدثون عن رأي المتقدمين؟ ولكنا لا نقول بهذا، فليس مذهبنا في النقد أن ندخل إلى الضمائر ونحاسب على النيات، ولا نقول هنا إلا أن أول واجب يفرضه العلم على الباحث المؤرخ هو التقصي في طلب النصوص ومعرفة الآراء، والتثبت في وصف الرأي، والعصمة لله وحده.

أما أول الرأيين فيقول إن المعلقات كتبت بالذهب، وعلقت على أستار الكعبة، وكأن الأستاذ رأي هذا الرأي بين البطلان ظاهر الاستحالة، فاكتفى بعرض أقوال القائلين به وأغفل مناقشته ونقضه.

وأما الرأي الآخر فينكر دعوى تعليق المعلقات على أستار الكعبة، ويذهب إلى أن الملك كان إذا استحسن قصيدة مما كان ينشد في سوق عكاظ قال علقوا لنا هذه وأثبتوها في خزانتي فانظر ماذا يصنع النقد في هذا الكلام؟ يقول أبو جعفر (الملك) مطلقاً من غير تعيين، فيأبى الأستاذ إلا أن يفترض أن هذا الملك هو النعمان بن المنذر، ثم يبني على هذا الافتراض الذي افترضه هو اعتراضه موجهاً إلى أبي جعفر، فيقول إن عصر النعمان أحدث من عصر كثير من أصحاب المعلقات فلا يصح أن يكون هو الذي كان يعلق قصائدهم بخزانته بعد إنشادهم لها بسوق عكاظ واستحسانه إنشادها، وهذا ولا ريب سبيل ملتو، وتحكم في النقد غير محمود، وتحريف للكلم عن مواضعه، وتخصيص للعام بدون مخصص.

ويتوارد العلامة نولدكه والأستاذ الصعيدي في نقد عبارة النحاس عند هذه النقطة، أما الأستاذ الصعيدي فقد ذهب إلى ما رأينا من التحكم والبناء على الفرض، وأما نولدكه فيقول إن من الصعب احتمال أن ملكاً عربياً كان يشهد سوق عكاظ. ويؤلمنا والله أن يكون هذا العلامة الأعجمي أكثر توفيقاً، وأهدى إلى الجادة في فهم الكلام وتخريج النصوص.

ثم ينتقل الأستاذ إلى وجه آخر من وجوه النقد، فيقول إن سوق عكاظ التي أجمعوا على أن تلك القصائد كانت تلقى فيها أحدث بكثير من عهد أصحاب المعلقات، لأنها أقيمت بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، ولوددنا والله دلنا الأستاذ على مصدر هذا القول، فلسنا نذكر أن ياقوتاً تعرض في معجمه إلى تاريخ إنشائها، والذي نحسبه أن عهد هذه السوق أقدم مما ذكر الأستاذ، ففي سيرة ابن هشام أن رسول الله ()، شهد حرب الفجار وعمره أربع عشرة سنة، ويذكرون في سببها أن قريشاً حين بلغها مقتل عروة الرحال، كانت في عكاظ، وفيها قامت الحرب، وسميت باسمها، وقال ابن الزبعري في مدح العنابس:

وفي يوم عكاظ منعوا الناس من الظلم.

بل إنهم ليذكرون فجاراً آخر قامت وعمر الرسول صلوات الله عليه عشرة أعوام، ويذكرون في سببها أن أحد الغفاريين كان له مجلس في سوق عكاظ يفتخر فيه، ويزعم أنه أعز العرب فوثب عليه رجل فضربه بالسيف على ركبته.

وأوضح من هذا في الدلالة على قيام هذه السوق قبل التاريخ الذي حدده له الأستاذ ما جاء في أخبار عبد شمس بن عبد مناف أن زوجته عبلة بنت عبيد كانت قبله تحت رجل من بني جشم ابن بكر فبعثها بأنحاء سمن تبيعها له بعكاظ، فباعت السمن وراحلتين كان عليهما وشربت بثمنها الخمر. . الخ القصة، وهي مذكورة في الجزء الأول من الأغاني في أخبار عمر بن أبي ربيعة، وهي تدلنا دلالة قاطعة على قيام سوق عكاظ في عهد عبد شمس، وأين عبد شمس مما ذكره الأستاذ؟ فكيف يصح مع هذا أن يكون عام 586 تاريخياً لبدء قيامها؟

والأمر بعد هذه النصوص كلها بعيد الاحتمال بالنسبة للأمة العربية، وهي أمة تجارية منذ أقدم عصورها، وقد جعلت من أسواقها نطاقا يحيط بالجزيرة، ونظمت قيامها تنظيماً يتفق مع سير التجارة، وكانت عكاظ حلقة من هذه السلسلة. فكيف يسوغ القول بأن إنشاءها كان في هذا العهد المتأخر؟ ولكن لعل الأستاذ قد اعتمد على نص صريح قوي يضعف ما قدمنا من النصوص، ويهدما ما رأينا من منطق الأمور.

وبعد، فلا يحسبن القارئ أننا ندافع بهذا القول عن رأي أبي جعفر النحاس، فلسنا، ولله الحمد، من القائلين بالتفسير الحرفي لكلمة المعلقات، وما نبغي من كل ما أسلفنا إلا أن نقر الأمور في نصابها، فلا نغمض في الإقرار بالحقوق لأصحابها، وأن نصطنع الإنصاف يفي نقد ما نراه جديراً به، فلا نتجنى على الشيء مالا يحتمل، ولا نستعصم إلا بالقاطع من الأدلة والصحيح من الحجج. ونرجو أن نكون قد وقفنا على الجادة في هذا النقد فلم يستزلنا الهوى ولم يخطئنا التوفيق.

محمد طه الحاجري بكلية الآداب