مجلة الرسالة/العدد 579/طفيليون ومقترحون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 579/طفيليون ومقترحون

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 08 - 1944


للأستاذ عباس محمود العقاد

لبعض الهيئات الإنجليزية نشرات دورية تصدر بأسماء الكتب التي تؤلف وتطبع في الموضوعات المختلفة شهراً بعد شهر وموسماً بعد موسم، وترسل إلى من يشاء في أنحاء الأرض للتوصية والانتقاء

في النشرة التي صدرت أول السنة الحاضرة أسماء كتب كثيرة في موضوعات مختلفة، منها كتاب بعنوان النسر والحمامة، من تأليف ساكفيل وست، يدور على ترجمة القديسة تيريزا راعية أسبانيا، وترجمة القديسة تيريزا الليزية الملقبة بالزهرة الصغيرة!

ومن هذه الكتب ترجمة لقارع الجرس البيروني الذي استطاع في القرن الثامن عشر أن يقفز في أسبانيا من قارع جرس إلى كردينال وأن يحكم البلاد الأسبانية بسلطان الدين والدنيا. وعدة صفحات الكتاب نحو ثلثمائة صفحة يباع بواحد وعشرين شلناً

ومنها ترجمة جديدة - شعرية - لقصيدة دانتي الشاعر الإيطالي عن الجحيم

وهذا بعض المحصول في شهر واحد من السنة الحاضرة فأين المقترحون يا ترى في البلاد الإنجليزية؟

مسكينة تلك البلاد التي لا تظفر بمقترح واحد من مقترحينا الذين يعدون بالعشرات.

فأول ما يخطر على البال أن نزود أولئك المساكين ببعثة من هؤلاء المقترحين يعلمونهم ما يكتبون وما لا يكتبون، ويذكرونهم أنهم في حرب زبون، وأنهم يضربون بالقنابل صباح مساء، وأنهم مواجهون بمشكلة التعمير في لندن والبلاد الإنجليزية، ومشكلة التعمير في أوربا والقارات الأخرى، ومشكلة البلاد الحرة والمستعمرات، ومشكلة النقد والتصدير والمعاملات بينهم وبين الدول كبيرها وصغيرها، ومشكلة التفاهم على توحيد الخطة بينهم وبين الروس والأمريكيين والصينيين، ومشكلة العمال ورءوس الأموال، والتأمين الاجتماعي، والتوفيق بين الديمقراطية وسائر المذاهب الاجتماعية نسى المساكين هذه الحرب الحاضرة التي يذكرها المقترحون الطفيليون عندنا ويذكرون بها الكتاب والمؤلفين

نسى المساكين أنهم في سنة 1944. للميلاد، وأنهم مواجهون بتلك المشكلات التي لا تواجه أمة من الأمم. فظهر بينهم من يؤلف الكتب في القديسات في البلاد الأجنبية، وعن قارع الأجراس في بلاد الأسبان قبل قرنين، وعن شعر رجل إيطالي ينظم القصائد قبل ستة قرون

وعندنا نحن في مصر ذخيرة كافية من المقترحين و (المهنكرين) الذين يقفون على أيدي المؤلفين ليعلموهم ما يكتبون وما لا يكتبون

فلماذا نبخل على الناس بحفنة من هذه الذخيرة الكافية تذكرهم ما نسوه، وتحاسبهم على ما فرطوا فيه، وتمر بالمداد الأسود على أسماء الكتب التي لا يجوز أن تكتب أو تطبع في سنة 1944، لأنها ترجع إلى موضوعات في سنة 1800 أو سنة 1300 أو ما قبل ذلك بزمن يقصر أو يطول؟

لسبب واحد يصح أن نبخل على الناس بحفنة من تلك الذخيرة الكافية، وهو أنها ذخيرة مستغنى عنها في الأمم الصالحة كل الاستغناء، فيوشك أن تعود في السفينة التي ذهبت بها إلى الديار الإنجليزية، لتقترح بيننا ما تشاء في البلد الذي يحب المقترحات ويكره الأعمال

الأمم الصالحة تستغني عن تلك الذخيرة كل الاستغناء، لأنها تعلم أن المعرفة مطلوبة حيث كانت، وأن التاريخ قد خلق ليكتب عن الماضي البعيد والقريب، ولولا ذلك لما خلق التاريخ، وأن المؤلف يحاسب بشيء واحد وهو إحسان ما يكتب وإتقان ما يطرق من الموضوعات؛ فإن أحسن فهو مقبول نافع، وإن كتب عمل قبل الطوفان؛ وإن أساء فهو مرفوض غير نافع، وإن كتب عن موضوعات يومه ساعة بعد ساعة، ولم ينتظر بكتابته عن اليوم موعد الغروب

الأمم الصالحة لا تفهم تلك البدعة الزرية التي تجعل العقول البشرية مرهونة بالأفران والمطابخ، فلا تفكر ولا تكتب إلا في الطعام والشراب يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام

وأقسم أن الذين يتفيهقون بتلك البدعة عندنا لا يفهمون كذلك ما يقولون، ولا يدرون أو لا يدري كثير منهم أنهم مسخرون لأغراض يساقون إليها وهم لا يشعرون

فالواقع أن الكتابة عن الماضي لا تبطل في زمن الأزمان، لأن الناس كانوا يعرفون أن التاريخ (ماض) حين اخترعوه وكتبوا فيه

وأن الكتابة عن النفس الآدمية وأسرارها في العظماء وغير العظماء تبطل في زمن الأزمان، لأن التعريف بإنسان واحد هو تعريف بالنوع الإنساني كله من قديمه وحديثه وماضيه وآتيه، وهو معرفة ينمو بها العقل الذي تنميه كل معرفة في كل موضوع

ولكن الدعاة المغرضين للمذاهب الهدامة يكرهون الكتابة في بعض الأمور ولا يجسرون على الجهر بعلة الكراهة، لأنها تصرف عنهم الأسماع والعقول، فيحاولون الوصول إلى أغراضهم من طريق غير طريق العقول: من طريق المعدات والبطون

هاتوا الفتة! نحن لا نريد التاريخ ولا نريد النفس البشرية فتسمعهم البطون وإن لم تسمعهم العقول

أصحاب المذاهب الهدامة يكرهون الكتابة عن عمر ابن الخطاب وخالد بن الوليد وعن الأدب واللغة وتواريخ الأوطان وتواريخ الأديان

يكرهون الكتابة عن كل ما يحيى في الأمم نخوة وطنية أو نخوة روحية أو نخوة أدبية أو لغوية، لأنهم لا يريدون من الناس إلا أن يشعروا بطبقة واحدة تحارب جميع الطبقات ولا تجمعها بالآخرين جامعة دين ولا وطن ولا لغة ولا مطلب من المطالب الإنسانية التي تتجاوز الأجور والأسواق

يكرهون ذلك ولكنهم يخرسون دون الجهر بما يكرهون، فلا يقولون إنهم يكرهون الكتابة فيما يحيي الكرامة الوطنية أو الكرامة الروحية بل يصيحون: الفتة الفتة، والجوع الجوع، والحاضر الحاضر، لتعمى العيون وقت البطون كما يقولون

ومتى كانت (مشكلات اليوم) مانعة أن يفكر الناس في مقاصد المعرفة ومطالب النفس الإنسانية؟

ومتى كان الكلام في التاريخ وسير العظماء وأسرار النفس البشرية معطلاً لبحوث الزراعيين والصناعيين ودعاة الإصلاح الاجتماعي والعدالة الاجتماعية؟

هنا في مصر - ولا نقول في أوربا وأمريكا - تصدر بين الحين والحين كتب في الزراعة وتربية الحيوان ومستقبل النقد وقواعد المعاملات وأصول السياسة تزيد في العدد على كتب الأدب والتاريخ

فإن كان البحاثون الاقتصاديون لا يحسنون جمع الأرقام واستخلاص الحقائق التي يبنون عليها صلاح المجتمع المصري فقولوا لهؤلاء إنكم مقصرون وإنكم لا تكتبون فيما ينبغي لكم أن تكتبوا فيه

قولوا لبائع الملابس إنك لا تأتي بالصوف الأصيل والقطن الجيد والكتان المتين، ولكن لا تقولوا للصيدلي أو بائع السكر إنك المسئول دون غيرك عن الصوف المصنوع والقطن المخلوط والكتان المدخول والتفصيل المعيب

أو قولوا إن كنتم مخلصين إن المعرفة مطلوبة وإن دراسة النفوس البشرية حسنة نافعة، ولكننا نحتاج إلى مؤلفين آخرين يكتبون فيما نقترح عليهم من المقاصد والأغراض

لكنهم لا يقولون هذا ولا ذاك

وإنما الشيء الوحيد (غير اللازم) عندهم هو الكتابة في إحياء النخوة القومية أو النخوة الروحية أو أن تجعل بين أبناء آدم آصرة غير آصرة الأجور والأسواق. وليكتب من شاء بعد ذلك فيما يشاء

ويأتي المقترحون الطفيليون عندنا فلا يكتبون ولا يدعون غيرهم يكتب فيما يحسن أو يدرس، ويحسن الناس أن يقرأوه

فإن كان بهم لاعج من الهم أن يبسطوا القول في الزراعة والصناعة ومعارض الثروة ومحصول القمح والبرسيم فما منعهم أن يبسطوا القول فيها ويعقدوا الفصول عليها ويملئوا المكتبات بمصنفاتها ومترجماتها وهم يحملون الأقلام ويسطرون؟

نحن في شهر أغسطس وفيه ذكرى سعد العظيم وهو رحمه الله لا يجهل هؤلاء المقترحين لأنهم عاشوا في زمانه كما يعيشون في هذا الزمان

ففي سياق الذكرى والعبرة نشير إلى كلمة له في هذا الصدد تأتي ولا ريب في أوانها المقدور

قال لي مرة: (إن آفتنا الكبرى ألا نحمل تبعاتنا وأن نحاسب غيرنا على واجباتهم ولا نحاسب أنفسنا على واجباتنا. ثم استطرد قائلاً: منذ نحو ثلاثين سنة دعونا بفراش مشهور طلبنا إليه أن يقيم سرادق عرس وأوصيناه أن يفرغ من إقامته قبل المساء. وفي عصاري اليوم مررنا بالمكان فإذا بالسرادق أكوام من الأخشاب والكراسي والثريات والمصابيح ولا سرادق إلا العمدان مفرقة هنا وهناك لا تؤذن بالانتهاء قبل أيام. . . ما الخبر؟ الخبر أن العمال اختلفوا في التنظيم والتقسيم فراح كل عامل منهم يشير على غيره بما يعمل وينتظر هو تنفيذ الإشارة! واضع الكراسي يقول إنه لا يدري كيف يصفها قبل أن تقام العمدان، فيأمر من يقيم العمدان بأن يقيمها حسبما يأمره ويملي عليه! ومعلق الثريات في خلاف مع الاثنين يقول إن الكراسي ينبغي أن تصف هنا والعمدان يجب أن تقام هناك. . . ولو أقبل كل على عمله لانتهوا جميعاً واستطاعوا أن يفضوا فيما بينهم هذا الخلاف - 553 من كتاب سعد زغلول)

ونحن نعرف ما نصنع ونكتب ما نريد أن نكتب ونعرف لما نكتبه ونريده. فعلى غيرنا أن يلتفتوا إلى كراسيهم وثرياتهم وعمدانهم فيشتغلوا بها عن الاقتراح والإشارة وهم مكتوفو اليدين

أما الذين يتطاولون فيومئون إلى مكاسب الكتب فإنما نقطع ألسنتهم بكلمات معدودات لا نزيد عليها، وهي أنهم يعملون وغيرهم يعلم في أنحاء العالم العربي أن كاتب هذه السطور قادر على أن يكسب بقلمه أضعاف ما يكسبه من الكتب إذا سولت له نفسه أن يخدم الدعوات التي يخدمونها أو يخدمون أمثالها. . . وفي هذا الكفاية!

عباس محمود العقاد