مجلة الرسالة/العدد 575/على هامش زكي المعري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 575/على هامش زكي المعري

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 07 - 1944



(داعي الدعاة) مناظر المعري

للدكتور محمد كامل حسين

الآن يستعد العالم العربي للاحتفال بالعيد الألفي للفيلسوف الشاعر أبي العلاء المعري، فرأيت أن أميط اللثام عن شخصية معاصره ومناظره (المؤيد داعي الدعاة) بعد أن ظل مجهولا طوال هذه السنين، بالرغم من أنه كان رجلاً له خطره وشأنه يرجف الناس باسمه في القرن الخامس الهجري، خشي بأسه الخليفة العباسي ببغداد، وأبو كاليجار البويهي وطغرلبك التركماني، وخشيه المعري في مناظراته، هذا الرجل الذي وصفه المعري بقوله: (لو ناظر أرستطاليس لجاز أن يفحمه، وأفلاطون لنبذ حججه). فمن الغريب حقاً أن تظل شخصية هذا الداعي غامضة مجهولة بالرغم من المحاولات العديدة التي قام بها جماعة من المستشرقين للبحث عنه، ولو لم أعثر على نسخة خطية لسيرته كتبها بنفسه عن نفسه ما كنت أستطيع معرفة شئ عن هذا الداعية الداهية

عرف هذا الداعي في التاريخ بلقبه (المؤيد في الدين)، واسمه هبة الله بن موسى بن أبي عمران، ويكنى بأبي نصر، ولد بشيراز في أواخر القرن الرابع من الهجرة، وأرجح أنه ولد حوالي سنة تسعين وثلاثمائة من أسرة تدين بمذهب الفاطميين، وكان أبوه داعي دعاة هذا المذهب في فارس، وقد عثرت على جزء من رسالة من أبيه إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي يطلب فيها من الحاكم أن يعترف بالمؤيد داعي الدعاة بعده، ولكن الحاكم أجابه بشيء من الجفاء والغلظة، لأن أمر الدعوة لا يورث، ومع ذلك استطاع هبة الله أن يصل إلى مرتبة أبيه، وأن يصبح حجة جزيرة فارس، (وهذا بالاصطلاح الفاطمي ومعناه داعي دعاة إقليم فارس). أما كيف ومتى وصل إلى هذه المرتبة فهذا ما لم نوفق لمعرفته إلى الآن، وكل الذي وصلنا أنه نجح في اجتذاب عدد كبير من الناس لدعوته، وأنه كان محبوباً عند جمهور أهل مذهبه حتى قالوا عنه لوزير أبي كاليجار البويهي سنة 429: (إنهم يتخذون هذا الرجل أباً لهم وأخاً وصاحباً ومحلًا لكل سر ومفزعاً في كل خير وشر).

نحن لا نعرف من أمر المؤيد قبل سنة 429 شيئاً إلا أنه كان مضطهداً من جمهور أهل السنة لتمذهبه بمذهب الفاطميين، وأن العلماء أغروا به السلطان البويهي، ورموه هو ومذهبه بكل موبقة، حتى أن السلطان أبا كاليجار ما كان يطيق سماع شئ عنه لشدة مقته له، مع أنه لم يعرفه معرفة شخصية، ولما ضاق السلطان ذرعاً بما كان يسمعه على المؤيد أمر بإخراجه من شيراز في رمضان سنة 429، وأمهل المؤيد عدة أيام ليخرج فيها من المدينة، على أن يظل في داره لا ينتقل منها ولا يقابل فيها أحداً، فكبر ذلك عند شيعته وأثاروا فتنة شعواء في المدينة بين السنة والشيعة، فاضطر الوزير إلى أن يسمح للمؤيد بعقد مجالسه، وأن يفتح بابه لزائريه، كما هدد علماء أهل السنة بالقتل والتشريد إن هم أثاروا مرة أخرى مسألة الخلافات المذهبية؛ فركن الجميع إلى الخضوع على كره وبقيت حزازات النفوس كما هي

أما المؤيد فقد عمد إلى الدهاء والمكر حتى استطاع أن يقابل السلطان أبا كاليجار، بل استطاع بقوة حجته وفصاحة منطقه أن يكسب عطفه وأن يجوز إعجابه ورضاه، حتى أمره السلطان بأن يحضر المجلس السلطاني متى شاء كما سمح له بمناظرة مخالفي مذهبه، وكانت هذه المناظرات إما كتابة يطلع عليها السلطان بنفسه أو كانت شفاهاً على مسمع من السلطان، والمؤيد قوي الحجة بليغ في مناظراته مجادل له خطره فكان يخرج من مناظراته منتصرا دائماً مما أبهر السلطان وازداد به إعجاباً حتى قال له يوماً: (إني أسلمت نفسي وديني إليك وإنني راض بجملة ما أنت عليه) وهكذا اعتنق السلطان أبو كاليجار البويهي مذهب الفاطميين ودخل دعوتهم على يد المؤيد، ولكنه اعتنق هذا المذهب سراً فلم يجرؤ على الخطبة باسم الخليفة الفاطمي، ولم يستطع أن يعلن بين الناس تحوله عن مذهبه واعتناقه مذهب التشيع، إنما كان دخوله في الدعوة الفاطمية أمراً أخفاه إلا عن أستاذه المؤيد الذي خصص للسلطان مساء كل خميس لتلقينه أصول المذهب وجرت هذه الدروس بأن تبدأ بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم؛ ثم بباب من كتاب (دعائم الإسلام) للقاضي أبي حنيفة النعمان بن حيون المغربي، ثم يناقشه السلطان في بعض ما أشكل عليه من أمر المذهب، ثم يختم المؤيد دروسه بالحمد والدعاء للخليفة الفاطمي، ثم للسلطان أبي كاليجار البويهي

على أن أمر هذه المجالس الليلية سرعان ما عرفه الناس، وانتشر خبرها بين جمهور أهل السنة ولكنهم لم يستطيعوا أن يحركوا ساكناً، وإن كان بعض المقربين إلى السلطان نصحوه بالابتعاد عن المؤيد؛ والسلطان لا يزداد إلا تقرباً منه وتعلقاً به، وكلما مرت الأيام ازداد السلطان حباً لأستاذه وإعجاباً به، حتى قال الناس إن السلطان لا يقطع بأمر إلا بعد استشارة المؤيد؛ واعتقد المؤيد نفسه أن السلطان أصبح طوع أمره وأنه لا يخالفه في شئ فانتهز المؤيد هذه الفرصة وأخذ في تهجين الشراب والخلاعة للسلطان فأغضب ذلك جماعة الندماء الذين حول السلطان فانضموا إلى أعداء المؤيد وأجمعوا أمرهم على الإيقاع به والعمل على إبعاده عن السلطان حتى لا يستأثر به من دونهم، فأخذوا يحيكون الدسائس ويدبرون المؤامرات حتى نجحوا في مكائدهم وأظهر السلطان موجدته على المؤيد فأمر بقطع المجالس الليلية، وعدم السماح للمؤيد بدخول المجلس السلطاني. في هذا الوقت أي في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة تولى أبو منصور هبة الله الفسوي الوزارة لأبي كاليجار، وكان هذا الوزير الجديد من أشد الناس بغضاً للمؤيد، ومن أشد الناس نقمة على الشيعة عامة والمذهب الفاطمي خاصة، فكسب أعداء المؤيد بهذا الوزير الجديد ركناً مكيناً يأوون إليه وعضداً قوياً يعتمدون عليه في الإيقاع بالمؤيد؛ فالتفوا جميعاً حول الوزير يتلقون منه ما يحيكون به الشراك للمؤيد حتى كانت قصة مسجد الأهواز التي استغلها هؤلاء الأعداء في اقتلاع المؤيد من فارس بأسرها، أما هذه القصة فتلخص في أن المؤيد سافر إلى الأهواز لزيارة شيعته ورجال دعوته، وهناك احتوى على مسجد مهدم فأمر أتباعه بتجديد عمارته وكتب على محرابه اسم النبي الكريم (ص) وأسماء الأمة الفاطميين من علي بن أبي طالب حتى اسم المستنصر بالله وأمر دعاته بالأذان (بحي على خير العمل) ولم يكتفي بذلك بل أقام الخطبة باسم المستنصر الفاطمي. فأثار عمله هذا ثائرة الناس بالأهواز وقامت ضجة بالمدينة من أنصاره المهللين وأعدائه المستنكرين والناس في عجب من أمر هذا الرجل الذي استطاع أن يقيم دعوته ظاهرة مكشوفة في بلد يدين بمذهب يخالف مذهبه حتى أن قاضي الأهواز اضطر إلى أن يرسل إلى الخليفة العباسي ببغداد ينعى الخلافة العباسية، وينعى مذهب الجماعة والسنة وهول في القضية إن ترك المؤيد طليقاً حراً، ووجه لوماً عنيفاً للسلطان أبي كاليجار لأنه احتضن هذا الرجل مدة من الزمان، وفي ختام خطاب القاضي نصيحة للخليفة العباسي بأن يداهن أبا كاليجار حتى يسلمه المؤيد وإلا حلت الدعوة الفاطمية بالبلاد بدلاً من الخلافة العباسية وهنا نرى مقدار ما وصلت إليه الخلافة العباسية من الضعف حتى لم يبق للخليفة العباسي إلا الخطبة باسمه على المنابر، أما السلطة الحقيقية فكانت في أيدي البويهيين والوزراء إذ لم يستطع الخليفة العباسي القائم بأمر الله أن يفعل شيئاً عندما بلغه قضية مسجد الأهواز إلى أن يرسل رسولاً من قبله إلى أبي كاليجار ومعه بعض الهدايا والخلع نظير السماح للرسول في القبض على المؤيد، فاشتد بذلك ساعد أعداء المؤيد وأشاعوا في البلاد أن الخليفة أهدر دمه وانتهزوا فرصة وجود رسول الخليفة في شيراز وأقاموا مظاهرات صاخبة في أيام ركوب السلطان يلهجون بمدح السلطان الذي نقم على المؤيد ويرمون المؤيد ومذهبه بكل نقيصة حتى أحرج السلطان نفسه ولم يدر ماذا يصنع بعد فرط حبه وإعجابه بالمؤيد، وأخيراً أمر المؤيد أن لا يخرج من داره

أما رسول الخليفة؛ فكان يخشى المؤيد ويتجنب التعرض لذكره خوفاً من الشيعة، وخاصة من الديلم الذين دخلوا الدعوة الفاطمية، فلم يستطيع إلا أن يكتب للمؤيد يحذره من الاندفاع في عصيانه وخروجه عن الستر إلى الجهر، وأخذ يحبب إليه ترك المذهب الفاطمي والدخول في سلك الجماعة ويمنيه الأماني الطيبة من مراكز سامية في الدولة وأموال تغدق عليه؛ فكان رد المؤيد على ذلك بأنه لن يترك ما هو عليه، وأنه سيمضي في دعوته جهراً ولو أدى ذلك لموته لاعتقاده أنه على الحق وأن غيره على الباطل، فلم يسع رسول الخليفة إلا الرجوع إلى بغداد، أما السلطان فخرج إلى الصيد وبقى المؤيد بين أعداء ألداء فخشي على نفسه بغتة من بغتاتهم فرأى أن يخرج لزيارة شيعته ولكنه خشي أن يغتال في الطريق ولا سيما بعد شاع في الناس أن الخليفة أهدر دمه ولذلك خرج خفية، وكان في طريقه يلتمس الطرق الموحشة ولا يطرق الأماكن الآهلة، ومع ذلك كان يسمع من حين لآخر أن السلطان فعل به كيت وكيت، أو أنه قتل وقطع إرباً إرباً، وأن بغلته مزقت إلى غير ذلك من هذه الأقاويل التي كان يروجها الناس عنه وما بالك بمن يسمع بنفسه عن نفسه مثل هذه الأقاويل!

وانتهى به الطواف إلى الأهواز مرة أخرى وهناك قابل أنصاره فدهش الناس من وجوده بينهم، وعلم السلطان بوجوده في الأهواز، فأقسم لينتقمن منه لمخالفته أمره بالبقاء في داره، ولأن جماعة الندماء أدخلوا في روع السلطان أن المؤيد فر إلى الأهواز لينظم ثورة ليقلع السلطان عن عرشه، وكان للمؤيد عيون في مجلس السلطان أبلغوه نقمة السلطان وغضبه وألحوا عليه في الخروج من الأهواز، لأن السلطان في طريقه إليها؛ فخرج المؤيد إلى حلة منصور في ضيافة أميرها الحسين ابن منصور الذي استمع لقصة المؤيد فوعده الأمير بالتوسط لدى أبي كاليجار لتعود المياه إلى مجاريها الأولى، وبالفعل قام هذا الأمير ليصلح بين السلطان والمؤيد وكادت تنجح مساعيه لولا أن توفي أبو طاهر البويهي ملك بغداد، وطمع أبي كاليجار في ملك بغداد، وذلك لا يتأتى إلا برضاء الخليفة العباسي، وهذا ناقم على المؤيد وناقم على أبي كاليجار بسبب المؤيد، فلم ير أبو كاليجار إلا أن يصانع بدوره الخليفة العباسي ووزراءه، وأن يضحي بالمؤيد في سبيل الوصول إلى ملك بغداد، وجرت مكاتبات عديدة بين السلطان والمؤيد وبين السلطان والأمير الحسين ابن منصور وأخيراً رجحت كفة الهوى على كفة العقل واصبح محالاً أمر التوفيق بين مطامع السلطان وعودة المؤيد إلى داره، فاضطر المؤيد إلى أن يغادر حلة منصور وإلى أن يرحل إلى قرواش بن المقلد وهو أمير العرب إذ ذاك. ولكن قرواش كان يتلاعب بالخلفاء، ينضم إلى العباسيين إذا أغدقوا عليه نعمهم وعطاياهم ويستجيب للفاطميين طمعاً في خلعهم وألقابهم، ويصانعه البويهيون خوفا من سطوته وقوته، فلما وجده المؤيد إلى هذا الحال تركه واتجه إلى مصر حيث إمامه الفاطمي ومقر الدعوة الفاطمية.

(يتبع)

الدكتور محمد كامل حسين

بكلية الآداب بالقاهرة