مجلة الرسالة/العدد 573/تعليم الجنسين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 573/تعليم الجنسين

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1944


للأستاذ عباس محمود العقاد

من القرارات التي لها شأن لا يدانيه شأن في قرارات التربية الحديثة أمر الحكومة الروسية الأخير بالفصل بين الجنسين في دور التعليم بعد أن مزجت هذا التعليم كل المزج سنوات متواليات على أساس المبدأ الشيوعي المعروف الذي فحواه أن الرجل والمرأة متساويان كل المساواة في الملكات العقلية والنفسية

وقد عللت نشرة الأخبار الحكومية التي أذيعت بواشنطون هذه التفرقة فقالت ما خلاصته إن التجارب الطويلة في تعليم الصبيان والبنات قد دلت على فارق واضح بينهم في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة وما حولهما. فكانت النتائج تختلف اختلافاً بيناً مع وحدة السن والمجهود، ويظهر هذا الاختلاف في طاقة العمل عند الصبي البنت ومع تعدد التجارب والبيئات

والمعلوم أن عدد الصبيان والبنات الذي يقع تحت الملاحظة الحكومية في المدارس الروسية أكبر عدد يتيسر لأصحاب مذاهب التربية في قطر من الأقطار، فإن رعايا الحكومة الروسية يتجاوزون مائة وخمسين مليوناً يذهب أبناؤهم وبناتهم جميعاً إلى المدارس الابتدائية من سنواتهم الباكرة، وينشأ هؤلاء الأبناء والبنات في بيئات الشمال والجنوب، وفي مدن الصناعة وقرى الزراعة وبين الشعوب الأوربية والأسيوية على السواء. فإذا تعذر الانتفاع بخلط التعليم بين الجنسين في هذه البيئات جميعاً فهي تجربة لا تعدلها في الوفاء والتمحيص تجربة أخرى يملكها أصحاب مذاهب التربية في عصرنا الحديث

ويضاف إلى هذا أن المشرفين على التعليم بالبلاد الروسية لهم مصلحة وهوى في إثبات المساواة الكاملة بين الجنسين في جميع الملكات والأعمال، لأنهم يبنون على هذه المساواة نظماً كثيرة تتناول الأسرة وتوزيع العمل وحقوق السياسة، بل تتناول أساس المذهب الشيوعي كله في مواقع الخلاف بينه وبين سائر المذاهب الاجتماعية، فهم لا يفرقون الجنسين في مرحلة من مراحل التعليم إلا إذا بطلت عندهم كل محاولة للتوحيد والتوفيق وإثبات التشابه الذي ينفى كل فارق من الفوارق بين الصبيان والبنات أو بين الر والنساء

لهذا نقول إن قرار الحكومة الروسية بالفصل بين الجنسين في دور التعليم له شأن لا يدانيه شأن في قرارات التربية الحديثة، وينبغي أن يلتفت إليه النظر فيه كل مشتغل بتعليم الصغار والكبار من الحكوميين وغير الحكوميين، بل نعتقد أن المسألة يحق لها الالتفات وإنعام النظر في نطاق أوسع من نطاق المدارس الابتدائية أو نطاق البحوث التي تعني بالصبيان والبنات. لأن الفارق إذا وجد في البنية لا يوجد في زمن ويختفي بعد ذلك أو قبل ذلك في أزمان، بل هو موجود قائم في دخائل البنية وأعماقها، وإن تفاوتت درجات ظهوره بين حين وحين

ولقد كان أناس من أساطين علم النفس وأئمة المذاهب الكبيرة فيه بين علماء العصر الحديث يقاربون هذه المسألة الجلي بعناية دون العناية التي ينبغي لأمثالها وتنبغي لهم وهم يطرقون المباحث التي تتصل بتهذيب النفوس ومصير الأجيال، ولا نحاشى من هؤلاء أمثال (ألفرد أدلر) الذي خطر له أن يناظر (فرويد) في دراساته النفسية المشهورة، وهي في تاريخ المعرفة الإنسانية فتح من أعظم الفتوح. فأدلر يقول في موضوع تعليم الجنسين، من كتابه عن فهم الطبيعة الإنسانية (إن أهم المنشآت التي أقيمت لتحسين العلاقات بين الجنسين ما أنشئ للتعليم المشترك بينهما)

ثم يقول (إن هذه المنشآت لا تقابل باتفاق الآراء. لأن لها خصوماً كما لها أصدقاء)

(فأصدقاؤها يجعلون أقوى برهان لهم على صلاحها أن الجنسين - خلال التعليم المشترك بينهما - تنفسح لهما الفرص ليفهم كل منهما صاحبه في السن الباكرة فيقضي هذا التفاهم على الموروثات الوهمية ويمنع عواقبها الضارة جهد المستطاع. أما خصومها فيجيبون عادة بأن الصبيان والبنات يكونون في سن المدرسة قد بلغوا من الاختلاف حداً يزيد الشعور به والانتباه إليه عند الاختلاط في معهد واحد. لأن الصبيان يحسون أنهم مرهقون، ويداخلهم هذا الإحساس مما يشاهد على البنات من أنهن أسرع في النمو الذهني خلال هذه السن الباكرة. فإذا اضطر هؤلاء الصبيان إلى المحافظة على مزيتهم وإقامة البرهان على تفوقهم بدا لهم فجأة لا محالة أن مزيتهم في الحقيقة إن هي إلا فقاعة صابون ما أسهل ما تنفجر وتزول (ويقول بعض الباحثين غير هؤلاء إن الصبيان في المعاهد المشتركة يقلقون أمام البنات ويفقدون كرامتهم في نظر أنفسهم

(ولا محل للشك في اشتمال هذه الأقوال على نصيب من الصدق والرجاحة، ولكنها لن تصمد للاختبار إلا إذا نظرنا إلى تعليم الجنسين معاً كأنه ميدان للتنافس بينهما على قصب السبق في الملكة والكفاءة، وهي نظرة وبيلة إن كان هذا هو غرض التعليم عند الأساتذة والتلاميذ. وما لم نوفق إلى أساتذة يرون في التعليم المشترك رأياً أفضل من اعتقادهم أنه سبيل إلى التدرب على التنافس أو التنازع المقبل بين الجنسين في المجتمع، فكل محاولة للتعليم المشترك فاشلة إذن لا محالة، ولن يرى خصومه من النتائج المحتومة إلا دليلاً على صوابهم بما أصابه من إخفاق)

ثم يستطرد أدلر فيقول: (وما أحوجنا إلى خيال شاعر لتصوير الحالة كلها في صورتها الصحيحة. فلنقنع من ثم بالإشارة إلى المواضع البارزة منها، ومنها أن الفتاة الناشئة تتصرف فعلاً تصرف من يشعر بالضعة، ويصدق عليها تماماً ما قلناه آنفاً عن الرغبة في التعويض عند ابتلاء الإنسان بذلك الشعور. وإنما الفارق هنا أن شعور الضعة مفروض على الفتاة بحكم بيئتها، وأنها تساق إلى هذا الاتجاه سوقاً حثيثاً يدعو الباحثين ذوي النظر الثاقب أحياناً إلى تصديق هذه الضعة فيها، وليس لهذا الوهم من نتيجة إلا النتيجة التي يندفع إليها الجنسان حين يتعجلان خطط التزاحم والتنافس التي تشغل كلا منهما بغير ما يعينه وما يصلح له. . .)

هذه تخريجات أدلر وتأويلاته فيما عسى أن يصيب التعليم المشترك من عوارض النجاح أو الفشل قبل أن يوضع هذا التعليم موضع التجربة في نطاق واسع كنطاق المدارس الروسية

فقرار المشرفين على تعليم الجنسين في روسيا مفيد في استدراك هذه التأويلات والتخريجات قبل أن توغل في طريقها إلى تلك النتائج المزعومة

إذ لا يمكن أن يقال إن فصل الجنسين في المدارس الروسية ناشئ من شعور الضعة المفروض على الفتاة أو البنت الصغيرة، لأن النساء الروسيات من سن الأربعين فنازلاً قد نشأن على عقيدة التساوي بين الجنسين ولم تفرض عليهن البيئة عقيدة غيرها منذ فتحن أعينهن إلى الآن. ولو غلا الدعاة الروسيون إلى أحد الطرفين لجاز أن يكون غلوهم في تقرير هذه العقيدة وتوكيدها لا في إدحاضها وإضعافها، فليست هناك ضعة مفروضة على الفتاة بحكم بيئتها، ولا يوجد هناك من يسوقها إلى هذا الاتجاه سوقاً حثيثاً يوهم الباحثين ذلك الوهم الذي (توهمه) أدلر من بعيد

ومع هذا سجل الباحثون الروسيون أن الفرق حاصل بين الجنسين في أدوار التعليم، وتبين لهم أن الصبي من سن العاشرة إلى الرابعة عشرة يعاني من تجميع القوى في بيئته عناء يثقل عليه فيبطئ نموه بعض الإبطاء، وعلى خلاف هذا يطرد النمو في البنات بين العاشرة والرابعة عشرة فيزدن في الوزن والطول فضلاً عن استعداد الفهم والمعرفة

ثم يأتي دور الصبيان بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة فإذا هم الذين يسبقون البنات في الوزن والطول والاستعداد للفهم والمعرفة. فلا يتأتى وهذه هي الفوارق بين الجنسين من العاشرة إلى السابعة عشرة أن يتلقوا معاً دروساً واحدة ويجاري بعضهم بعضاً في مضمار واحد

وعدا هذا يأتي دور آخر وهو دور التفكير في الفوارق بين عمل الرجل والمرأة في الحياة. إذ ليس من المستطاع أن يناط بهما عمل واحد يؤديانه على نحو واحد من القابلية والكفاءة.

فالرجال يعدون للجندية ويدربون على فنون من الدربة الرياضية العسكرية وهم فتيان صغار؛ ولا يقال إن النساء أيضاً يعملن للدفاع عن أوطانهن في الجيوش. فإن الواقع أن الوظائف موزعه بين الرجال والنساء حتى في ميادين القتال، فلا تناط بالنساء إلا الأعمال التي توائمهن كأعمال التموين والمواصلات والتمريض وما شاكلها مما يباشرنه وراء خطوط النار

وكذلك لا تناط بهن في تحضير الذخيرة والأسلحة إلا الأعمال التي يطقنها دون الأعمال الكبرى التي لا يصلحن لها ولا تناط بغير الرجال

وكما ينبغي أن يعد الرجال للجندية ينبغي أن يعد النساء للأمومة وما يتصل بها من فنون التربية والتنشئة والعناية بالصحة والغذاء، ومهما يكن من التسوية بين الآباء والأمهات في تبعة الأبوة والأمومة فلن تلغى هذه التسوية كل فارق بين الأب والأم في النشأة والاستعداد

ولقد جرب فصل الجنسين بضعة أشهر فظهر أثر هذه التجربة في زيادة التجانس والتوازن بين صفوف المتعلمين والمتعلمات، وأمكن أن يستفيد الصبيان والبنات خير فائدة من كل فترة يتشابهون فيها ولا يتفاوتون

ولم يزل أساتذة التربية هنالك حريصين على مذهبهم المعهود من التسوية بين الجنسين وهما مفترقان. فقال سولوخين مدير إحدى المدارس بموسكو إن هذا التفرقة لا تفيد التفضيل والتمييز (لأن البنات والصبيان في مدارسنا يتلقون وسيتلقون طبقة واحدة من التعليم والتدريب، ويؤهبون أهبة متساوية لنصيبهما من عمل الحياة وينشئون على عقيدة التكافؤ بين الجنسين)

ونقول نحن إن عقيدة التكافؤ لا تهم في هذا الموضوع ما بقى الفارق بين الرجل والمرأة في البنية والوظيفة محسوباً له حسابه الصميم في مراحل التعليم من الطفولة إلى الشباب

فليست المسألة التي نحن بصددها مسألة تقدير المنازل والمراتب في ديوان من دواوين التشريفات، ولكنها هي مسألة القيام بأعمال الرجال وأعمال النساء على الوجه الصالح لكل من الجنسين، وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتلقفها ببغاوات الصيحات الجديدة في هذا الشرق المسكين. فرب بدعة جديدة هي أعرق في الغباء وضيق العطن وضحولة الوعي من أعرق جهالات القرون الأولى

فمن شاء من ببغاوات الصيحات الجديدة عندنا أن يقال له إنه (على آخر طراز) فليكن كما شاء على آخر طراز يختاره في سنة 1944 أو بعد ذلك بألف سنة أو ألفين

إنما عليه أن يردد صيحاته الببغاوية في الأقفاص التي تليق بها، ولا يتجاوزها إلى حقائق الحياة وقواعد الآراء التي تناط بها مصائر الأجيال

عباس محمود العقاد