مجلة الرسالة/العدد 573/القضايا الكبرى في الإسلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 573/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة - العدد 573
القضايا الكبرى في الإسلام
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1944



قضية المغيرة بن شعبة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 6 -

كان المغيرة بن شعبة من عظماء العرب في الجاهلية والإسلام، وقد اشتهر بالدهاء، حتى كان يقال له مغيرة الرأي، فلما أسلم قيل عمرة الحديبية لم يلبث أن ظهر شأنه في الإسلام، فاستعمله النبي في بعض أموره، واستعمله أبو بكر في خلافته. وولى لعمر البحرين والبصرة والكوفة، وكان أول من وضع ديوان البصرة، وسلم عليه بالإمرة

وقد اتهم بالزنا في هذه القضية الكبرى، وكان والياً على البصرة عند اتهامه بهذه الجريمة الشنيعة، فتطلع الناس إلى هذه القضية الكبرى وما يجرى فيها، لأن القضاء قبل الإسلام كان قد فسد أمره في العالم، حتى صار حكمه يجري في الوضيع دون الشريف، ويتناول الضعيف دون القوي، كما فعل اليهود في حكم الزاني وقد أنزل رجمه في التوارة على موسى عليه السلام، فكان أول ما ترخصوا فيه أنهم كانوا إذا أخذوا الشريف تركوه، وإذا أخذوا الضعيف أقاموا عليه الحد؛ فكثر الزنا في أشرافهم حتى زنى ابن عم ملك لهم فلم يرجموه، ثم زنى رجل آخر من قومه فأراد الملك رجمه، فقام قومه دونه، وقالوا: والله لا ترجمه حتى ترجم فلاناً - لابن عم الملك - فرأى اليهود أن يضعوا شيئاً دون الرجم يكون على الشريف والوضيع، فوضعوا الجلد والتحميم وحرفوا بذلك الحد الذي أنزل الله عليهم، وقد نزل في ذلك قوله تعالى في الآية - 43 - من سورة المائدة (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين)

وما كان الإسلام ليعيب على اليهود تفريقهم في القضاء بين الشريف والوضيع، ثم يقع فيما وقعوا فيه، فلم يفعل مع المغيرة إلا أن أنزله من كرسي الإمارة إلى مجلس الاتهام، ليعلم الناس أنهم سواء في الإسلام، وأن شأن القضاء فيه أكبر من المغيرة ومن فوق المغيرة

وكان الذي اتهم المغيرة بالزنا أبا بكرة نفيع بن الحارث الثقفي مولى النبي ، وقد كان بينه وبين المغيرة منافرة لم يذكر المؤرخون سببها، ولعلها ترجع إلى أن المغيرة ولي البصرة بعد عتبة بن غزوان، وكان عتبة يقرب أبا بكرة لما بينهما من صلة النسب، فلما ولى المغيرة بعده لم يجد في ولايته ما كان يجده قبلها، وكان المغيرة وأبو بكر متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكر نفر يتحدثون في مشربته، فهبت الريح ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليسده فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته، وهو بين رجلي امرأة فقال للنفر: قوموا فانظروا. فقاموا فنظروا. وهم زياد بن عبيد أخو أبي بكرة لأمه، ونافع بن كلدة، وشبل بن معبد البجلي، فقال أبو بكرة لهم: اشهدوا. قالوا: ومن هذه؟ قال: أم جميل بنت الأرقم من عامر بن صعصعة. وكانت تغشى المغيرة والأمراء، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، لأن النهضة الإسلامية في ذلك العصر كانت تشمل الرجال والنساء جميعاً، فلما قامت أم جميل من تحت المغيرة عرفوها، واتفقوا على أن يشهدوا عليه عند عمر.

فلما خرج المغيرة إلى الصلاة منعه أبو بكرة، وكتب إلى عمر بما حصل منه، فعزله عن البصرة وبعث أبا موسى الأشعري أميراً عليها، وأمره بلزوم السنة، فقال له: أعنى بعدة من أصحاب رسول الله ، فإنهم في هذه الأمة كالملح. فقال عمر له خذ من أحببت، فأخذ معه تسعة وعشرين رجلاً، منهم أنس مالك، وعمران بن حصين، وهشام بن عامر وخرج معهم فقدم البصرة ومعه كتاب عمر بإمارته، فدفعه إلى المغيرة فقرأه، وكان أوجز كتاب وأبلغه

أما بعد - فإنه بلغني نبأ عظيم. فبعثت أبا موسى أميراً فسلم إليه ما في يدك، والعجل

فسلم المغيرة ما في يده إلى أبى موسى، وأهدى إليه وليدة تسمى عقيلة، ثم رحل إلى المدينة ومعه أبو بكرة والشهود، فقدموا على عمر، وحضروا مجلس القضاء بين يديه، فلما فتح باب التحقيق معهم قال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد: كيف رأوني؟ أمستقبلهم أم مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة أو عرفوها؟ فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر؟ أو مستدبرى فبأي شئ استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي؟ والله ما أتيت إلا امرأتي وكانت تشبهها

فشهد أبو بكرة أنه رآه على أم جميل يدخله كالميل في المكحلة، وأنه رآهما مستدبرين، وشهد شبل ونافع مثل شهادة أبي بكرة، ولما جاءت شهادة زياد قال عمر: أرى رجلاً أرجو ألا يفضح الله به رجلاً من أصحاب رسول الله . فلم يفصح زياد شهادة الزنا وقال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة، ورأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، وإستين مكشوفتين، وسمعت حفزاً شديداً فقال له عمر: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا. فقال له: هل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها

فلم يثبت الزنا بذلك على المغيرة، لأنه لا يثبت إلا بأربعة شهود يشهدون به شهادة صريحة، كشهادة أبي بكرة وشبل ونافع، فانقلب بذلك الأمر على هؤلاء الثلاثة، وعدت شهادتهم قذفاً بالزنا، وقد أمر بهم عمر فجلدوا حد القذف، ولما رآهم المغيرة قال لعمر: اشفني من الأعبد. فقال له عمر: أسكت أسكت الله نامتك، أما ولله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك

ولما كان الله تعالى يقول في القاذفين (والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) جمع عمر الثلاثة فقال لهم: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته. فأكذب شبل نفسه، وأكذب نافع نفسه وأبى أبو بكرة أن يفعل لأن فعل عمر به بلغ منه ما بلغ وقد حقد على أخيه زياد مخالفته له في الشهادة، فلم يكلمه بعدها

وقد يستغرب القارئ تلويج عمر لزياد بمخالفة الثلاثة في الشهادة على المغيرة، لأن مقام الحاكم يقتضي منه أن يساعد على كشف الجريمة لا على سترها، حتى لا يفلت المجرمون من يد العدالة، فيأمن الناس شرهم، ويستقيم بذلك حالهم، كما يستغرب مؤاخذة أولئك الشهود الثلاثة مع هذا بالقذف، وإقامة حده عليهم، وحملهم على تكذيب أنفسهم، حتى تقبل بذلك شهادتهم في المستقبل

ولكنه إذا رجع إلى الأصل في تشريع تلك الحدود وزال منه ذلك الاستغراب، لأن الشارع في تشديده في تلك الحدود يقصد الإرهاب أكثر من التنفيذ، ولهذا قيد تنفيذها بقيود تجعلها لا تقع إلا في النادر، وإلا حين تتعين لحسم شر تفاقم أمره، ولا يجدي غيرها في علاجه، كأن يشتهر شخص بانتهاك الحرمات، فمثل هذا يجب على الإمام أخذه بتلك الحدود، ولا يصح أن يعمل على إسقاطها عنه وما كان لأبي بكرة أن يفعل مع المغيرة ما فعل، فيتجسس عليه في بيته، ويطلع ضيوفه على أمور يجب فيها الصون، بل كان يجب عليه أن يكف نظره عما شاهد، ولا يحاول استقصاءه وتفصيله، لأن المغيرة لم يشتهر بانتهاك الحرمات، وقد كان من العقل والشرف بحيث يجل مقامه عن ذلك، وكانت امرأته معه في بيته؛ فكان عليه أن يحمل ما رآه عليها، ويكف نظره سريعاً عن ذلك الأمر الذي لا يجوز له أن ينظر إليه

ولو صح أن المغيرة فعل ما شهد به أبو بكرة، لكان عليه أن يستر ذلك عليه هذه المرة، ثم ينصحه فيما بينهما، أو يخبر عمر في السر بما رأى، ولا يجتهد في إقامة الحد عليه ذلك الاجتهاد الذي ينافي أصل تشريعه، وقد قال النبي : تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب، وقال أيضاً: اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله تعالى عنها، فمن ألم بها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبدي لنا صفحته تقيم عليه كتاب الله عز وجل. وقد روى عنه وعن كثير من الصحابة أنهم كانوا يلقنون المقر ما يسقط الحد عنه، وقد أخذ بهذا جمهور الفقهاء؛ وذهبت المالكية إلى أنه لا يلقن من اشتهر بانتهاك الحرمات

وقد قال ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع: والشهود الأربعة إذا شاهدوا الزنا كان أولى في حقهم الستر بحكم الأخوة، ويكونون كأنهم لم يشاهدوا موافقة لمن لم يشاهد؛ فإن الله تعالى ستر على عبده حيث لم يطلع على قبيح فعله جماعة أكثر من الأربع، فلو اختاروا الستر ووافقوا من لم يطلع كان هذا أحق، وبالأخوة أليق، لكن لم يفترض الستر عند تمام الحجة، إذ لو وجب ذلك لم يبق لشرع الحد قاعدة

عبد المتعال الصعيدي