مجلة الرسالة/العدد 571/النصاح والوعاظ على أبواب الخلفاء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 571/النصاح والوعاظ على أبواب الخلفاء

مجلة الرسالة - العدد 571
النصاح والوعاظ على أبواب الخلفاء
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 06 - 1944



للأستاذ محمد عبد الغني حسن

الحكم في الإسلام لم يبن على الاستبداد ولم يقم على الانفراد، بل أقيم على الشورى وبنى على الرأي. ولقد قال تعالى لنبيه عليه السلام: (وشاورهم في الأمر). وما كان أغنى النبي عن نصح الناصح ومشورة المشير، لمكان فضله، ومقام علمه. ولكن المبادئ الصحيحة لا تحابي مقاماً ولا مكاناً، ولا تعرف عصراً ولازماناً

فلقد حدث حماد بن زيد بن هشام عن الحسن قال: (كان النبي يستشير حتى المرأة فتشير عليه بالشيء فيأخذ به)

وكان عمر على شدته ينتفع بأهل الرأي والمشورة ويستمع إلى قولهم، وروى عنه قوله (الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة خيط مرار لا يكاد ينتقض) وطبيعي أن حكاما ذلك شأنهم في قبول المشورة وتلقي الرأي كانوا يستمعون إلى الناصح المبتدئ بنصحه، المتفضل برأيه، فيفتحون له قلوبهم وآذانهم، أو يعطونه الأمان أن يقول ما يشاء في صراحة وحرية. وفي كتب التاريخ والأدب من ذلك طرائف وأشتات

وكان خلفاء الرسول أكثر الناس اهتداء بهديه واقتداء به فلم يصدر عنهم من الأحكام ما فيه مخالفة لسنته وحيد عن طريقته. ولهذا لا تجد على أبوابهم مزدحماً من الناصحين والوعاظ، لأن الوعظ لا يكون إلا عند ما تدعو إليه الحاجة وتشتد الضرورة. وقل أن تجد في عصر الخلفاء الراشدين إلا مذكراً يذكر الخليفة في عبارة موجزة وإشارة قصيرة. كما حدث لعمر ابن الخطاب فقد دخل عليه سعد بن عامر وقال: (إني موصيك بكلمة من جوامع الإسلام ومعالمه. قال: أجل. قال: اخش الله في الناس ولا تخش الناس في الله، ولا يخالف قولك فعلك. فإن خير القول ما صدقه الفعل. وأحبب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك. وخص العناية بالحق حيث علمته، ولا تخف في الله لومة لائم)

ولقد كان عمر يصغي إلى نصح الناصح، ولقد يبلغ به التأثر حتى يبكي فتخضل لحيته كما صنع مع خولة بنت حكيم

أما في العصر الأموي فنجد الخلافة قد انقلبت ملكاً. ونجد الخلفاء قد صدر عنهم من الأعمال ما يعده المؤمنون بعداً عن السنة، وتجافياً عن المعالم. وهنا يكثر الوعظ ويفش النصح بأبواب الخلفاء. ونجد جماعة من هؤلاء النصاح يقفون على أبواب الخلفاء لا يبغون جزاء. ولكن يطلبون رضى الله ولو أسخط المنصوح. ولا يبالون بكلمة الحق يعلنونها صريحة في وجوه الحكام على قلوبهم تلين وتخضع

فلقد ذكر ابن طلحة في (عقد الفريد) حادث وفود أبي بكرة على معاوية ناصحاً مذكراً في كلمات بليغة وعبارات فصيحة، ومعاوية يستمع إلى رجل في حسن إقبال، والرجل يذكره بالدنيا الفانية والمتاع القليل والدار الباقية. ويقول في نص عبارته: (اعلم أنك في كل يوم يمضي عنك وفي كل ليلة تأتي عليك، لا تزداد من الدنيا إلا بعداً، ومن الآخرة إلا قرباً. وعلى أثرك طلب لا تفوته، وقد نصب لك حد لا تجوزه. فما أسرع ما تبلغ الحد، أو ما أوشك ما يلحقك الطالب. وأنا وأنت وما نحن فيه كلنا زائل، وسنصير إلى ما هو باق في الآخرة)

وما أكثر ما وقف النصاح بباب سليمان بن عبد الملك. وكان هو نفسه يسأل عنهم ويطلبهم إلى مجلسه ويبدؤهم بالسؤال، ويفسح لهم المجال، فلا يقف بينه وبينهم حراس، ولا يذودهم عنه حجاب. حدثوا أنه حج، ولما أتم المناسك دخل المدينة وسأل عن جماعة ممن أدركوا أصحاب رسول الله. فأتوا له بأبي حازم التابعي. فقال له الخليفة يا أبا حازم: ما لنا نكره الموت؟ فقال: عمر تم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب. . . وما وال الرجل يصف هول الحشر حتى بكى الخليفة. وسأل واعظه قائلاً: كيف السبيل إلى صلاح الأعمال: قال: تقسمون بالسوية، وتعدلون في القضية، وتراعون أمر الرعية

ولما طلب الخليفة منه أن يذكر حاجته، طلب الناصح منه أن يزحزحه عن النار ويدخله الجنة. . .! وهو طلب ليس في يد الخليفة تحقيقه. فاعترف بعجزه. . .!

ولقد روى المدائني أن رجلاً من عبد القيس بن قصي دخل على سليمان بن عبد الملك طالباً الكلام. فأذن له، فقام وهدد الخليفة بالغلظة في كلامه، ورجا منه أن يحتمله على كره، فإن وراءه للخليفة نفعاً وللأمة خيراً. فأذن له بالاستمرار. فأخذ يطلق لسانه في الخليفة بما خرست عنه الألسن قبله، وأخذ يلوم الخليفة على سوء اختياره لبطانته، فهم حرب للآخرة، سلم للدنيا، وهم لن يألوا الأمانة تضييعاً، والأمة عسفاً وخسفاً. وأخذ يحمل الخليفة مسئولية ما اجترحوا من سيئات ويذكره بخسارة الصفقة وفساد التجارة لمن يريد إصلاح دنياه بفساد آخرته

ومن عجب أن رواة هذه الأخبار لم يصلوا بنا إلى نهاياتها. . . بل كثيراً ما كانوا يضيعون الواعظ في الزحام. . . فلا يوقف له على أثر. . . كل حدث مع واعظ الخليفة المنصور الذي لقيه ليلاً في الطريق فدعاه إلى المسجد فأخذ الرجل يعظه بكلام شديد وحديث طويل وبعد الصلاة طلب الرجل فلم يوجد. . .!

وأكثر ما تكون الحاجة إلى النصح حين تسوء الأفعال ويكثر الانحراف من الحكام. ولكننا نلاحظ في كتب الأدب والتاريخ أن الوعاظ لا يزدحمون إلا على أبواب الصالحين من الخلفاء. . . وعلة ذلك أن الحاكم الصالح أكثر قبولاً للنصح واستماعاً للوعظ من غيره. فالطريق إليه ميسر، والباب إليه مفتوح، والعاقبة مأمونة، والمغبة محمودة. لأنه لا يثور ولا يسخط ولا يغضب حتى ولو أغلظ الناصح في نصحه

وهكذا ليس من الغريب أن نجد جماعة من الوعاظ يزدحمون على باب عمر بن عبد العزيز، ويجدون في ظلاله أمناً. فهو يفرح بهم ويهش لهم ويتلقى الكتب منهم ويحتفظ بها ويشير إليها في مجالسه. فقد كتب إلى طاووس الواعظ كتاباً يسأله عن بعض ما هو فيه. فكتب إليه طاووس: (سلام عليك يا أمير المؤمنين فإن الله تعالى أنزل كتاباً؛ وأحل فيه حلالا، وحرم حراما، وضرب فيه أمثالاً، وجعل بعضه متشابهاً، فأحل يا أمير المؤمنين حلاله، وحرم حرامه. وتفكر في أمثال الله تعالى واعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، واعتبر بأمثاله والسلام عليك). وطريقة طاووس في هذا الكتاب هي طريقة الفقيه لا الواعظ. وإن كانت تؤثر عنه مواقف ومقامات لم يخش فيها حاكماً ولا مسلطاً. وكثيراً ما حاول الأمراء تقريبه إليهم فكان يعرض عنهم ولا يزداد إلا جرأة في النقد وصراحة في القول. . .

ومواعظ طاووس تجدها في شكل كتب ورسائل يرسلها ولا يلقيها أمام الموعوظ، لأنه كان من أبعد الناس عن مصاحبة الملوك والقرب منهم، وكان واحداً من ثلاثة رجال اجتنبوا السلطان ولم يتصلوا به، والاثنان الآخران هما أبو ذر الغفاري وسفيان الثوري

وكثيراً ما وقف محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر ابن عبد العزيز ينصحه ويعظه، وقد يشتد في النصح وعمر لا يضيق صدره ولا يخرج عن حلمه ويقول الواعظ: (إن الدنيا سوق من الأسواق، فمنها خرج الناس بما ينفعهم وبما يضرهم) فيطرب عمر لهذا الكلام

ويقول الواعظ: - يا أمير المؤمنين! افتح الأبواب وسهل الحجاب وانصر المظلوم. فيطرب عمر لهذا الكلام ولسان حاله يقول: - اللهم إني ما أغلقت دون أحد من المسلمين باباً، ولا ألقيت بيني وبينهم حجاباً، ولا رأيت مظلوماً إلا أخذت له الحق من ظالمه. . .

ودخل عليه زياد العبد مولى ابن عباس. فقال: - يا أمير المؤمنين: أخبرني عن رجل له خصم ألد كيف حاله؟ قال سيئ الحال. قال فإن كانا خصمين ألدين؟ قال ذلك أسوأ الحالة. قال فإن كانوا ثلاثة؟ قال لا يهنيه عيش! قال والله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمد إلا وهو خصم لك عند الله تعالى! مطالبك إن قصرت في حقه. فبكى عمر حتى رق له الحاضرون.

ومن خلفاء بني أمية الذين استمعوا إلى نصح الناصحين هشام بن عبد الملك. وكان على شحه حليماً واسع الصدر. فقد حدثوا أن خالد بن صفوان المشهور بابن الأهتم دخل عليه فحدثه عن ملوك الأعاجم وزوال ملكهم بعد تمكن الأمر لهم، فبكى هشام، وأجزل العطاء للناصح على ما كان من بخله وحرصه

وفي أول العصر العباسي بقيت بقية من هؤلاء الوعاظ، وقد وجدوا بباب المنصور منفسحاً. ولهذا تجد في كتب الأدب طائفة من أخبارهم معه. وكان الرجل منهم يشتد في الكلام ويقسو على الخليفة ويعنف على البطانة، ويصف الأدواء في صراحة. حتى لقد بلغ من بعضهم أن قال له: (هل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحجبة معهم السلاح). وهذه الموعظة طويلة. ولعلها أطول ما روى في الوعاظ والنصاح، ولا يدانيها في طولها إلا نصيحة الأوزاعي للمنصور أيضاً، ولكن الأخير كان أخف نقداً وألطف مدخلاً من الأول الذي أوردنا جملة من مواعظه ولم نعرف اسمه، لأن المصادر التي رجعت إليها لم تذكر اسمه، بل جعلته رجلاً عابراً! يظهر في المسجد ويصلي مع المنصور، ثم يطلب فلا يوجد

ويلاحظ أن الوعاظ من أهل العلم والفقه لا يغلظون في النصح كما يفعل أهل الزهادة والتقشف، فطاووس الفقيه أميل إلى الفقه والأحكام منه إلى التعنيف والإيلام، وكذلك الأوزاعي إمام الشام

وما أكثر حاجة عصرنا هذا إلى رجال من طراز هؤلاء النصاح الشجعان الذين لا يعجبهم فساد الزمان ولا يرضيهم إلا رضى الديان

محمد عبد الغني حسن