مجلة الرسالة/العدد 57/من المسرح الغنائي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 57/من المسرح الغنائي

مجلة الرسالة - العدد 57
من المسرح الغنائي
ملاحظات: بتاريخ: 06 - 08 - 1934


1 - سافو

لأوجييه أميل

ترجمة الأستاذ محمود خيرت

مقدمة

ليس الفونس دوديه بمجهول من المشتغلين بالأدب الفرنسي وهو ذلك الكاتب الوجداني الرشيق الأسلوب، السليم الذوق، البارع في وصف الحقيقة، فهو المنبع الصافي، والسهل الممتنع، يأخذك خلال ما يكتب، ويسحرك بيان ما يصور، فلا يلبث أن يشد أعصابك شدا، ويجري دموعك سيولاً، ويلهب مشاعرك إلهابا وأنت ذاهل تشارك بالرغم منك أشخاص قصصه ما يوزعه عليهم من مختلف العواطف المضطربة المتباينة.

وسافو إحدى آياته الكبرى التي جمع فيها بين الشهوة الثائرة، وعاطفة الأمومة الطاهرة، ظهرت في سنة 1884 وهو في الرابعة والأربعين من عمره (لأنه ولد سنة 1840) وقد امتلأ تجربة وخبرة، وشبع شهرة وصيتا، فكانت من القصص الخالدة، حتى إن قطعة سافو التمثيلية الغنائية (أوبرا) التي أخذت عنها دائما متجددة الشباب تمثل في فرنسا إلى الان، وفي مصر بدار الأوبرا الملكية كل موسم تقريبا. وهذه القطعة هي التي غنينا بنقلها (للرسالة) إلى لغتنا العربية الكريمة.

واسم سافو على ما يظهر غير فرنسي، لأنه اسم امرأةإغريقية اشتهرت ما بين القرن السادس والسابع قبل الميلاد بشعرها، كما اشتهرت بخلاعتها واستهتارها، حتى إنها لما ملك اليأس عليها كل سبيل ألقت بنفسها من أعلى صخرة (لوكاد) في اليم.

ولقد وضع برادييه المثال الفرنسي الشهير في سنتي 1848 و1852 تمثالين أولهما من البرونز والثاني من المرمر كأنا محل إعجاب الناس، حتى إن كثيراً منهم حصلوا على نسخ منهما، وقد سماهما باسمها. ولا يمكن أن يكون أراد بهما تخليد تلك القصة الشهيرة التي لم تظهر كما قدما إلا في سنة 1884 لأن أول هذين التمثالين تم ودوديه في الثامنة من عمره، وظهر ثانيهما قبل نشر قصته بنحو اثنتين وثلاثين سنة. ومن هذا يتضح أن برادييه إنما وضع التمثالين المذكورين تخليدا لذكرى تلك الإغريقية.

وإذا علمنا ان دوديه رجل (شأن كل كاتب) واسع الاطلاع مفروض وقوفه على تاريخ تلك الإغريقية وظروف حياتها، وكذلك علمه بآمر هذين التمثالين جزمنا بأنه ما تب تلك القصة إلا وهو متأثر بهذين الظرفين لقيام وجه الشبه بين هذه المرأة وبين سافو ربيبة قلمه من حيث الحب والخلاعة والاستهتار. ولأن قصته والقطعة الغنائية المأخوذة عنها تناولتا ذكر التمثال المرمري الذي أشرنا إليه.

على ان من العجيب ما لحظناه من انه جعل فتاة قصته مصرية، وان واضع القطعة التمثيلية المنقولة عنها جعلها أندلسية؟

أما الناقل فقد يكون التبس عليه الأمر بين هذه المصرية وبين راقصة أخرى أندلسية جاء ذكرها أيضاً في نفس القصة. ولكن دوديه أكد وصف سافو بالمصرية في أكثر من موضع منها، فلابد إذن أن واضع تلك القطعة تعمد جعلها أندلسية، لأن سافو كما وصفها دوديه امرأةفطرت على الحب العنيف المتقعد، وهي أيضاً كثيرة الأهواء لا تستقر عند حبيب وأحد، ولا تطيب حياتها إلا بالتنقل من حب إلى حب، وكلها صفات تتوافر كثيرا في الأسبانيات، حتى أن بروسبير ميريميه اضطر إلى اختيار (كرمن) في قصته البديعة من بينهن.

ودوديه الكاتب القدير لا يفوته ذلك أيضاً، ولكنه قصد إلى تمصير سافو قصدا، وقد خصها بالإجادة في رقص (البطن) فإذا كان هذا ما أراده فقد التوى عليه قصده، لأن مثل هذا النوع من الرقص ليس من عادات الباريسيات، وقد أراد بقصته وصف تلك العادات، ولأنه كان عليه ما دام هذا قصده إلا يسمى فتاته سافو، لأن سافو الإغريقية لا تعرف مثل هذا الرقص، ولان المصرية لا تتسمى بهذا الاسم.

وعلى كل حال فقد رأى إلا يجعل الخاتمة واحدة في سافو التاريخ وسافو القصة، فغلب هذه على اليأس الذي ذهب بحياة أختها، وأحياها الحياة الكبرى حياة الأم التي تحطم قلبها وتتطهر من أقذار الآثم لتنصرف إلى تربية طفلها. فكان فيما اختار عظيما رائعا، وهو ينزل على حكم الطبيعة، ويساير غريزة التكوين البشري.

محمود خيرت الرواية

الفصل الأول

(بهو ينتهي إلى مصنع المثال كاوودال. يموج البهو بالمقنعين والعذارى المقنعات، لأن الليلة راقصة، وأما المصنع فتدوي فيه نغمات الآلات الوترية، وسافو (واسمها المستعار فني) ترقص وتغني، والمجتمعون يصيحون من النشوة والطرب. وأخيراً يظهر في البهو كاوودال ولا بودري مقنعين)

كاوودال - انظروا آيها الشبان كيف أصبح الشيوخ أكثر فتوة منكم!

لابودري - إني راحل يا أستاذي

كاوودال - طبعا لأن المجلس لم يعجبك

لابودري - كلا، ولكني لا أستطيع البقاء فوق هذا

كاوودال - بل قل إن هذه الراقصة ذات العيون السود لم تفتنك، إن رشاقة هذه الأندلسية لا تدع عقلا لعاقل، وهي تجتمع دائما هنا بأصحابها، فلم لا تشاركهم هذا الانس؟ (يغني)

يا غضون الشباب

الجميع - يا غضون الشباب

فني (سافو) - إن عذْب القُبل=هان فيه العذاب

وسواد المقل ... طاب فيه الجنون

الجميع - يا شباب الغصون

لابودري - مهما كان من الأمر فآني سأرحل

كاوودال - يا عدوّ الملاح

الجميع - ما علينا جناح=فانتظر للصباح

كاوودال - ما أغربك آيها الفتى. تفر من هذا الأنس وتزعم انك شاب

لابودري - وكأني بك في سن العشرين

كاوودال - مع إني في الستين (ثم يخاطب حنا) وأنت لم لا ترقص يا حنا؟ كنت أظنك في مجلي هذا السرور أكثر نشاطا ومرحا حنا - إنني ما رقصت عمري

كاوودال - ولكن الرقص ينفض عنك تراب القرية. تشجع

لابودري - العبرة بالخطوة الأولى. هيا

كاوودال - ألا تعرف هؤلاء الفتيات الجميلات؟

حنا - لا يا سيدي.

كاوودال - وكيف تراهن

حنا - رائعات

كاوودال - إلا أقدمك إليهن

حنا - أشكرك واعتذر، فقد أكون محل سخريتهن

السيدات - ها ها ها (ضحكات)

لابوردي - (وكأنه يكلم نفسه) ولم؟ ما ابسط هذا الفتى!

كاوودال - تعال معي

حنا - دعني بالله (يمتنع فينصرف كاوودال ومن معه إلى المصنع)

كإنني في حلم. هذه هي السعادة التي يتغنون بها!

(هنا يسمع ضجيج المجتمعين في المصنع وهم يغنون):

نماذجُ المصنَعْ ... سافو لها تاجُ

جبينها يسطعْ ... كالتّبرِ وهَّاج

سُبحان من أبدع ... جماَلها سافو

ماذا اسمع؟ كل شيء في هذا المصنع يشد أعصابي. فأين أنا من قريتي كنز السكون والنور؟ ومن خمائلها يحمل النسيم ارجها فيعطر الأرجاء. لقد كنت في المساء أجوب غاباتها النضرة فتهزني الأحلام، وهواؤها العليل يشدو ومن خلال أوراقها فأنسى قسوة الشتاء. قريتي التي تفيض بالأمل والحب ما أبعدها ألان عني!

(يسمع هرج في المصنع وضحك طويل ثم يخرج بعضهم يتعقب فني)

أحدهم - قلة يا فني

فني - اخسأ هو - (الذي يتعقبها) قبلة واحدة صدقة عن هذا الحسن. . .

فني - تظهرون الغرامَ لي=في ابتسام مُغرّر

خِدعٌة ليس ينطلي ... سبكها في نواظري

إنكم تصدعونني ... أنكم تخدَعونني

(تفلت منهم وتسأل كاوودال)

من هذا الفتى الجميل (مشيرة إلى حنا)

كاوودال - لا اعرفه

فني - ولم لا أساله آنا؟

كاوودال - شأنك معه (يبتعد ضاحكا)

فني - (تقترب من حنا) ما اسمك يا صاحبي؟

حنا - حنا جوسين

فني - قروي؟

حنا - نعم

فني - وهل أنت مصور؟

حنا - لا يا سيدتي (مطرقا)

فني - أحسنت. ولكن لم أنت مطرق؟ وماذا رابك مني؟

حنا - بالله لا تسخري مني يا سيدتي

فني - آنا؟ انك بالعكس سحرتني وان كنت غير مصور (يسمع صوت كاوودال ولا بودري يناديان)

الطعام. . . الطعام

فني - (في إذنحنا) إلى الملتقى يا حنا

كاوودال - هيا يا أخواني

الجميع - (داخل المصنع) الغداء! الغداء!

إن لذة الأنام ... في تذوق الطعام

الغذاء! الغذاء! كاوودال - (من الداخل) سافو!

(يحأول حنا الدخول فتمنع مضطربة)

فني - لا تدخل يا حنا. تعال معي

حنا - ولكن. . .

فني - تعال. تعال

حنا - (يخضع) غلبتني مقلتاها=فسبيل قدماها

عقل فني فيك تاها ... سهم عينيك رماها

حنا - يا لهيبي!

فني - يا حبيبي!

(يذهبان بينما المصنع في هرج وانس)

(يتبع)