مجلة الرسالة/العدد 57/في اللهب ولا تحترق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 57/في اللهب ولا تحترق

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 08 - 1934


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

أفي الممكن هذا؟

لعوب حسنة الدل، مفاكهة مداعبة، تحي ليلها راقصة مغنية؛ حتى إذا اعتدل الليل ليمضي، وانتبه الفجر ليقبل - أنكفات إلى دارها فنضت وشيها، وخرجت من زينتها، وخلعت روحا ولبست روحا، وقالت: اللهم إليك، ولبيك اللهم لبيك. ثم ذهبت فتوضأت وأفاضت النور عليها، وقامت بين يدي ربها تصلي. . .!

هي حسناء فاتنة، لو سطع نور القمر من شيء في الأرض لسطع من وجهها. وما تراها في يوم إلا ظهرت لك احسن مما كانت، حتى لتظن إن الشمس تزيد وجهها في كل نهار شعاعة ساحرة، وان كل فجر يترك لها في الصبح بريقا ونضرة من قطرات الندى.

وتحسب أن لها دما يطعم فيها يطعم أنوار الكواكب، ويشرب فيما يشرب نسمات الليل.

وإذا كانت في وشيها وتطاريفها وأصباغها وحلاها لم تجدها امرأة، ولكن جمرة في صورة امرأة؛ فلها نور وبصيص ولهب، وفيها طبيعة الإحراق. . . أن الذي وضع على كل جمال ساحر في الطبيعة خاتم رهبة - وضع على جمالها خاتم قرص الشمس فإذا رأيتها بتلك الزينة في رقصها وتثنيها - قلت: هذه روضة مفتنة اشتهت أن تكون امرأةفكانت، وهذا الرقص هو فن النسيم على أعضائها.

وهي متى نفذت إلى البقعة المجدبة من نفسك أنشأت في نفسك الربيع ساعة أو بعض ساعة.

وتنسجم أنغام الموسيقى في رشاقتها نغمة إلى حركة؛ لأن جسمها الفاتن الجميل هو نفسه أنغام صامتة تسمع وترى في وقت معا وتنسكب روحها الظريفة بين الرقص والموسيقى، لتخرج لك بظرفها صراحة الفن من إبهامين كلأهما يعاون الآخر.

وهي في رقصها إنما تفسر بحركات أعضائها أشواق الحياة وأفراحها وأحزانها، وتزيد في لغة الطبيعة لغة جسم امرأة.

وكان الليل والنهار في قلبها، فهي تبعث للقلوب ما شاءت ضوءاً وظلمة.

وهي إلى القصر، غير انك إذا تأملت جمالها وتمامها حسبتها طالت لساعتها.

والى النحافة، غير انك تنظر فإذا هي رابية كان بعضها كان مختبئا في بعض.

ويخيل إليك أحياناً في فن من فنون رقصها ان جسمها يتثاءب برعشة من الطرب، فإذا جسمك يهتز بجواب هذه الرعشة لا يملك إلا أن يتثاءب. . .

ويجن رقصها أحياناً، ولكن لتحقق بجنون الحركة أن العقل الموسيقي يصرف كل أعضاء جسمها.

ومهما يكن طيش الفن في تأودها ولفتتها ونظرتها وابتسامها وضحكها - ففي وجهها دائما علامة وقار عابسة تقول للناس: أفهموني.

ولما رأيتها شهد قلبي لها بان على وجهها من نور الجمال نور الوضوء؛ وإنها متحرزة ممتنعة في حصن من قلبها المؤمن، يبسط الأمن والسلامة على ظاهرها؛ وان لها عيناً عذراء لا تحاول التعبير، لا سؤالاً ولا جواباً ولا اعتراضا بينهما؛ وان قوة جمالها تستظهر بقوة نفسها، فيكون ما في جمالها شيئا غير ما في النساء - شيئاً عبقرياً بالغ القوة، يكف الدواعي ويحسم الخواطر، ويرغم الإعجاب إن يكون ذهولاً وحيرة، ويكره الحب أن يرجع مهابة واحتشاماً.

والرواية كلها في باطنها تظهر على ضوء من مصباح قلبها، وما وجهها إلا الشاشة البيضاء لهذه (السيما)، وهل يكون على الوجه إلا أخيلة القلب أو الفكر؟

وعندي أن المرأة إذا كان لها رأي ديني ترجع إليه، وكان أمرها مجتمعاً في هذا الرأي، وكانت أخلاقها محشودة لها، متحفلة به - فتلك هي الياقوتة التي ترمي في اللهب ولا تحترق، وتظل مع كل تجربة على أول مجاهديها، إذ يكون لها في طبيعة تركيبها الياقوتي ما تهزم به طبيعة التركيب الناري.

وليس من امرأةإلا وقد خلق الله لها طبيعة ياقوتية، هي فطرتها الدينية التي فيها؛ إن بقيت لها هذه بقيت معها تلك، ولكنها حين تنخلع من هذه الفطرة تخذلها الفطرة والطبيعة معاً، فيجعل الله عقابها في عملها، ويكلها إلى نفسها؛ فإذا هي مقبلها أغلاطها ومساوئها بطرق عقلية ان كانت عالمة، وبطرق مفضوحة إن كانت جاهلة. وما بد أن تستسر بطباع إما فاسدة وإما فيها قوة الاستحالة إلى الفساد؛ ويرجع ضميرها الخالي محاولاً أنئ من ظاهرها، بعد ان كان ظاهرها هو يمتلئ من ضميرها؛ وتصبح المرأة بعد ذلك في حكم أسباب حياتها، مصرفة بهذه الأسباب، خاضعة لما يصرفها؛ ويذهب الدين وينزل في مكانه الشيطان؛ ويزول الاستقرار ويحل في محله الاضطراب؛ وتنطفئ الأشعة التي كانت تذيب الغيوم وتمنعها أن تتراكم، فإذا الغيوم ملتف بعضها على بعض؛ وتخذل القوة السامية التي كانت تنصر المرأة على ضعفها فتنصرها بذلك على أقوى الرجال، فإذا المرأة من الضعف إلى تهافت، تغلبها الكلمة الرقيقة، وتغترها الحيلة الواهنة، وتوافق انخداعها كل رغبة مزينة، ويستذلها طمعها قبل أن يستذلها الطامع فيها. ولتكن بعد ذلك من هي كائنة أصلا وحسبا وتهذيبا وعقلا وأدبا وعلما وفلسفة، فلو إنها امرأةمن (الإسمنت المسلح) لتفتتت بالطبيعة التي في داخلها، ما دامت الطبيعة متوجهة إلى الهدم بعد ان فقدت ما كان يمسكها أن تهدم وان تنهدم.

لقد رق الدين في نسائنا ورجالنا. فهل كانت علامة ذلك إلا أن كلمة (حرام، وحلال) قد تحولت عند أكثرهم وأكثرهن إلى (لائق، وغير لائق) ثم نزلت عند كثير من الشبان والفتيات إلى (معاقب عليه قانوناً، ومباح قانوناً. . .) ثم انحطت آخراً عند السواد والدهماء إلى (ممكن، وغير ممكن. . .).

قالت الياقوتة، أعني الراقصة:

- أخذت أبي من عهد الطفولة بالصلاة، واثبت في نفسي ان الصلاة لا تصح بالأعضاء ان لم يكن الفكر نفسه طاهرا يصلي لله مع الجسم، فان كانت الصلاة بالجسم وحده لم يزدد المرء من روح الصلاة إلا بعدا. وقر هذا في نفسي وأعتدته، إذ كنت أتعبد على مذهب الأمام الشافعي (رض)، فأصحح الفكر، واستحضر النية في قلبي، وانحصر بكلي في هذا الجزء الطاهر قبل أن أقول: (الله اكبر)؛ وبذلك أصبح فكري قادراً على أن يخلع الدنيا متى شاء ويلبسها، وان يخرج منها ثم يعود إليها؛ ونشأت فيه القوة المصممة التي تجعله قادرا على أن يتصرف بي عما يفسد روح الصلاة في نفسي، وهي سر الدين وعماده.

ويا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات، لتبقى الروح أبداً إما متصلة أو مهيأ لتتصل. ولن يعجز اضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه بضع ساعات، متى هو اقر اليقين في نفسه، انه متوجه بعدها إلى ربه، فخاف أن يقف بين يديه مخطئا أو إثماً؛ ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى، وإنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير، كأنه بجملته - مهما طال - عمل بضع ساعات. قالت الياقوتة: ورأيت أبي يصلي، وكذلك رأيت امي، فلا تكاد تلم بي فكرة آثمة إلا انتصابا أمامي فاكره أن استلئم إليها فأكون الفاسدة وهما الصالحان، واللئيمة وهما الكريمان؛ فدمي نفسه ببركة الدين يحرسني كما ترى.

قلت: فهذا الرقص. . .؟

قالت: نعم، انه قضى علي أن أكون راقصة، وان التمس العيش من اسهل ثلاث طرق، والينها وأبعدها عن الفساد، وان كان الفساد ظاهرها. أريد: الرقص، أو الخدمة في بيت، أو العمل في السوق. وأنا مطيقة لحريتي في الأولى، ولكني لن املكها في الأخيرتين ما دام علي هذا الميسم من الحسن؛ وكم من امرأةمتحجبة وهي عارية الروح، وكم من سافرة وروحها متحجبة. ان كنت لا تعلم هذا فاعلمه، وليس السؤال ما سالت، بل يجب ان يكون وضعه هكذا: هل ما ترى هو في ثيابي فقط، أو هو في ثيابي ونفسي؟

ها أنت ذا تغلغل نظرتك في عيني إلى المعاني البعيدة، فهل ترى عيني راقصة؟

قلت: لا والله، ما ارى عيني راقصة، ولكن عيني مجاهد في سبيل الله. . .! فاستضحكت وقالت: بل قل: عيني مجاهد يهزم كل يوم شيطانا أو شياطين.

إني لأرقص وأغني، ولكن أتدري ما الذي يحرزني من العاقبة، ويحميني من وباء هذا الجمهور المريض النفس؟ فاعلم أني لا اشعر بالجمهور، ولا بروح المسرح، إلا كما اشعر بروح المقبرة والمشيعين إليها؛ فهيهات بعد ذلك هيهات! ومن هذا لا أحس بقلوبهم ولا بشهواتهم، وما أنا بينهم إلا كالتي تؤدي عملا فنيا على ملأ من الأساتذة الممتحنين، والنظارة يحكمون لها أو عليها؛ فهي في فكرة الامتحان، وهم لأنفسهم فيما شاءوا. . .

ولست أنكر أن أكثرهم، بل جميعهم يخطئ في طريقة تناوله السيال الكهربائي المنبعث من نفسي، ولكن لا علي، فهذا السيال نفسه ينبعث مثله من الزهر، ومن القمر والكواكب، ومن كل امرأةجميلة تمشي في الطريق، ومن كل جميل في الطبيعة، وحتى من الأمكنة والبقاع إذا كان لإنسان فيها ذكريات قديمة، أو نبهت ببعض معانيها بعض معانيه.

قالت الياقوتة: فإنما كما ترى؛ اضطرب وجوها من الاضطراب في جذب الناس ودفعهم معا. وإذا سلمت المرأة من أن يغلبها الطمع على فكرها سلمت من أن يغلبها الرجل على فضيلتها. وفي النساء حواس مغناطيسية كاشفة منبهة خلقت فيهن كالوقاية الطبيعية، لتسلم بها المرأة من أن تخطر عفتها لغرض، أو تغرر بنفسها لإنسان؛ فانك لتكلم المرأة، وتزين لها ما تزين، وهي شاعرة بما في نفسك، وكأنها ترى ما في قلبك ينشأ ويتدرج تحت عينيها، وكأنه في وعاء من الزجاج الرقيق الصافي تحمله على كفك ويفضح، لا في قلب من لحم ودم تخفيه بين جنبيك فيطوي ويكتم.

وليس يبطل هداية هذه الحاسة في المرأة إلا طمعها المادي في المال والمتاع والزينة؛ فان هذا الطمع هو القوة التي يغلب بها الرجل المرأة، فبنفسها غلبها: وإذا تبذل طمع امرأةفي رجل فهي مومس، وان كانت عذراء في خدرها.

ويا عجبا! إن وجود الطبيعة في النفس غير الشعور بها؛ فليس يشعر المرأة بتمام طبيعتها النسائية إلا الزينة والمتاع وما به المتاع والزينة. فكان الحكمة قد وقتها وعرضتها في وقت معا، لتكون هي الواقعة أو المخطرة لنفسها، فبعملها تجزي، ومن عملها ما تضحك وتبكي. قالت الياقوتة: ولذا أخذت نفسي إلا اطمع في شيء من أشياء الناس، وسخوت عن كل ما في أيديهم؛ فما يتكرمون علي إلا بهلاكي، وحسبي أن يبقى لعيني قلبي ضوؤهما المبصر.

وأنا اعتمد على شهامة الرجل، فان لم أجدها علمت أني بازاء حيوان إنساني، فأتحذروه حذري من مصيبة مقبلة. وإذا جاءني وقح خلق الله وجهه الحسن مسبة له، أو خلقه هو مسبة لوجهه القبيح، ذكرت أني بعد ساعة أو ساعات أقوم إلى الصلاة، فلا يزداد مني إلا بعد وان كان بازائي، فاغلط له واتسخط، واظهر الغضب واصفعه صفعتي.

قلت: وما صفعتك؟

قالت: إنها صفعة لا تضرب الوجه ولكن تخجله.

قلت: وما هي؟

قالت الياقوتة: هي هذه الكلمة: أما تعرف يا سيدي أني أصلي وأقول (الله اكبر) فهل أنت اكبر. . .؟ أأقيم لك البرهان على صغارك وحقارتك، أأنادي الشرطي. . .؟!

تختنق بالرقص وتنتعش بالصلاة، وفي كل يوم تختنق وتنتعش. ولكني لا أزال أقول:

أفي الممكن هذا؟ أفي المترادت شرعاً! رقصت وصلت. . .؟

مصطفى صادق الرافعي