مجلة الرسالة/العدد 568/قيس ولبنى
2 - قيس ولبنى «مجلة الرسالة/العدد 568/قيس ولبنى» للشاعر المجدد الأستاذ عزيز أباظة بك للأستاذ دريني خشبة وضعنا بين أيدي القراء - وذلك في العدد السابق من الرسالة - خلاصة مضغوطة لقصة هذا الهوى اللافح، والحب المرمض الممض، الذي ملأ حياتي قيس ولبنى بمأساة من أروع مآسي الأدب العربي القديم، أو الأدب العربي في صدر الإسلام، وذلك وفق ما أثبت القصة أبو الفرج في أغانيه، ثم أردفنا الخلاصة بموجز جاف لمسرحية الشاعر المجدد عزيز أباظة بك، رجاء أن نشرك معنا القراء في استعراض القصتين، والموازنة بينهما، وإدراك ذلك الجهد الشاق الموفق الذي بذله الشاعر المصري البارع في استغلال قصة الأغاني والتصرف فيها، دون تقيد برواية، ودون تقديس لتاريخ، فالأغراض الأدبية، ولاسيما إن كان المسرح هو طريق إبرازها، لا يلزم أن تتقيد بما ورد في سجلات الماضي، حتى وإن كان ما ورد في تلك السجلات هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي نواحيه. . . ولا داعي لأن نضرب مثلاً بالطريقة التي تنوولت بها مأساة مثل مأساة كليوبطرة على أيدي شيكسبير وشوقي مثلا. . . وقد كان شيكسبير نفسه لا يحفل كثيراً بدقائق التاريخ وحقائقه، بل كان يضحي كل شيء في سبيل الهدف الذي كان يضع من أجله دراماته، مع أنه كان يغترف الحوار أحياناً من سجلات هذا التاريخ 1 - فلقد استغنى الأستاذ عن شخصيتي الحسن والحسين، واكتفى بأن يكون ابن أبي عتيق رسول الحسين إلى الحباب أبي لبنى، وللشاعر رأيه في هذا الاستغناء. . . والكلام عن ذلك لا بد أن يكون كلاماً شائكا، لأنه يتناول مسألة إبراز الأشخاص الذين نحيطهم بهالات مقدسة على المسرح. . . وقد كان الشاعر لبقاً في وسيلة هذا الاستغناء، إذ جعل سببه اشتغال الحسين بموضوع تلك البيعة التي فرضها معاوية على المسلمين لابنه يزيد، ولم يجعل سببها إكبار الحسن أو الحسين عن المشاركة في هذه القضية الغرامية. . . التي كانا فيها رسولي رحمة وحنان وعطف بين قلبين، وبين أسرتين كريمتين من أسر المدينة والبطون القريبة منها في سرف 2 - واستغنى الشاعر أيضاً عن قصة بزوغ هذا الحب بين قيس ولبنى، كما استغنى عن مرات اللقاء المختلسة الأولى، التي تذكى الحب عادة وتؤكده، والتي تصور ما كان يتجشمه المحبون في سبيل هذا اللقاء في البيئة العربية القديمة من أخطار وما كانوا يستهدفون له من هول وروع 3 - واستغنى كذلك عن هذا المشهد المؤثر الذي توسل به ذريح للتأثير على قلب قيس الغض كي يطلق لبنى. . . مشهد قيامه، في الظهيرة عاري الرأس والشمس تصب لهبها على يافوخه، ومجيء قيس ليظلل أباه حتى يفئ الفيء. . . 4 - ومنظر وداع لبنى في قصة أبي الفرج! هذا المنظر الذي لا يكاد أن يضارعه مثيل في أدب أمة من الأمم! اسمع إلى الأصفهاني حيث يقول: (فوقف ينظر إليها ويبكي حتى غابوا. فكر راجعاً ونظر إلى خف بعيرها، فأكب عليه يقبله. ورجع يقبل موضع مجلسها وأثر قدمها! فلما جن الليل، وانفرد، وأوى إلى مضجعه لم يأخذه القرار، وجعل يتململ فيه تململ السليم، ثم وثب حتى أتى موضع خبائها، فجعل يتمرغ فيه ويبكي. . .!!) ولست أدري لماذا لم يسجل شاعرنا الكبير هذا المشهد الرائع في نهاية الفصل الثالث؟ لعلنا نوفق إلى كشف السر في المقال الباكي الذي سوف يتلو هذا الفصل 5 - ولم يشأ الشاعر لمسرحيته أن تنتهي إلى مأساة، ولذلك لم يأخذ في ختامها بأقوال الجمهرة من الرواة الذين قرروا أن قيساً ولبنى لم يجتمعا بعد الطلاق، وأنهما ماتا على هذا الفراق المر. والبعد الوبيل، وأخذ بأقوال القلة التي لا يؤبه لها من الرواة الذين زعموا سعي ابن أبي عتيق والحسن والحسين، أو ابن أبي عتيق وجاه الحسن والحسين لتطليق لبنى من كثير، وردها على قيس. وهكذا آثر النهاية السعيدة التي تجبر ما انشعب من تلك القلوب الكسيرة وترد الآمنة إلى عيون المؤرقين، على النهاية الباكية القاسية التي تفرق بينهم أبد الدهر. وللشاعر مطلق الحق في أن يتصرف هذا التصرف، وسنترك تعليل اختياره هذا إلى الفصل الباكي الذي سوف يتلو هذا الفصل كما ذكرنا من قبل، والذي سوف نطلع فيه القراء على الأهوال النفسية التي يضطرب بها فؤاد شاعرنا العزيز فتوزه أزّا. . . هذا الفؤاد الذي أصبح في ذاته ملحمة حزينة آسية، مشرقة بالدمع، من أروع ملاحم شعرنا الحديث. . . ملحمة تحترب فيها الذكريات وتتضرم بالآلام والأوجاع ولو قد أراد الشاعر أن تكون مسرحيته مأساة، لأحببنا له أن يخلق من ضعف القصة الأصبهانية قوة، وأن يثور فيها على التاريخ وعلى الرواة ثورة كاملة شاملة. . . فقد أحب قيس لبنى، وبادلته لبنى هذا الحب الجارف الذي خالط قلبيهما وامتزج بدمائهما، وربط بينهما الرباط المقدس الذي لا يعقل أن ينفصم على هذا النحو الزري المضحك، لأن ذريحاً أراد له أن ينفصم، ولأن ذريحا وزوجه أصرا أن ينفصم، بحجة أن قيساً قد آثر عليهما زوجه أولاً، ولأن لبنى أنثى عقيم ثانياً. . . فيظل قيس يخالف من أمرهما عاماً بأكمله، إبقاء على زوجه التي لا بد لها في هذا العقم، ثم ينهزم هذا النبل كله فجأة، وينهزم هذا الحب العارم الصارم كله فجأة، وتنحل الأواصر المقدسة فجأة، فيرسل قيس زوجه وحبيبة قلبه ومنية نفسه إرسالاً سهلاً هيناً ليناً، لأنه لم يعد يحتمل أن يعذب أبوه المأفون نفسه، ولم يعد يحتمل أن يرى تلك النار المشبوبة في دار المجانين الذين يظلون عاماً طويلاً وأكثر من عام طويل يشاكسون زوجين سعيدين حبيبين، وينغصون عليهما صفو الحياة. . . لوددنا إذن لو أن شاعرنا قد ثار على التاريخ وعلى الرواة وعلى أبي الفرج ثورة كاملة شاملة، فرفض قصة هذا الفراق وذاك الطلاق الذي أضحك الدنيا بأسرها على سذاجة قيس لبنى، وأشمت به قيس ليلى، وعرضه لزراية المحبين وازدرائهم في عالم الإخلاص والوفاء. 6 - ولكن ماذا عست أن تكون ماجريات الحوادث لو ثار الشاعر هذه الثورة؟ هنا يترك الأمر كله للعبقرية التي برهن الشاعر الكبير على أنه يدخر منها الشيء الكثير 7 - ثم طلاق كثير للبنى. . . هذا الطلاق الذي تم في جلسة واحدة ما خطبه؟ أبهذه السهولة يتم الطلاق في البيئة العربية المحافظة الصارمة؟ ومتى طلب إلى عربي، بله المسلم، أن يعطي حرية التصرف في أحد من أهله. . . ولا سيما إن كانت الزوجة هي الغرض من إعطاء تلك الحرية؟ ثم كيف تتم تلك الخدعة التي لا يجيزها عرف ولا دين في حضرة الحسن والحسين، سبطي رسول الله، وسيدي شباب أهل الجنة؟ وإن فوجئا بها مفاجأة؟! ولكن هذه هي الرواية التي أثبتها أبو الفرج، وأبو الفرج راوية ماهر يستعين على أذهاننا بإثارة مشاعرنا، فلا يدعنا مستطيعين أن نسأل ما خطب كذا وما خطب كذا. . . ولكنه يتركنا نتألم في غير استنكار لهذه القلوب الرطبة التي أنهكها الحب، وأنهكتها الرحمة للمحبين. . . الرحمة التي لا تدع لسائل أن يسأل، ولا لمستدرك أن يستدرك وبعد، فقد كانت قيس ولبنى نجاحاً كاملاً على مسرح الفرقة المصرية، وقد تلفت الشعب فجأة فوجد آذانه تمتلئ ببيان عربي فصيح، وشعر بدوي فيه جزالة وفيه فخامة وروعة، وفيه موسيقا تلين عاصيه، وتتدفق به في القلوب ميسراً مفهوماً. . . بل محفوظاً في كثير من رقائقه، محبباً في كثير من قوافيه، مدهشاً في كثير من كلماته التي تخيرها ذوق دقيق كأنه ذوق لال، أغرم بالعربية الفصحى فوهبه الله سرها، يجلو من غررها ودررها ما يشاء. . . لقد كانت قيس ولبنى، برغم ما حاك في القلب من قصة أبي الفرج، قطعة من الحياة يختلط فيها جد الواقع بروعة الشعر، وتدفق الحوار بهدوء النجوى، وحرارة الحب بصلابة الواجب! لقد كان فرحنا بها لا يعدله فرحنا بأية طرفة أدبية صدرت عن المطبعة المصرية هذا العام. . . وكيف لا نفرح بها وقد صدرت بعد الدعوة الطويلة التي دعت إليها الرسالة، من وجوب عناية الشعراء بالدرامة المنظومة التي آن الأوان لكي تسد فراغاً مخيفاً في الأدب العربي. . . وليس معنى هذا، قبل أن يعقب علينا معقب، أو أن يسئ تأويل كلامنا مسيء. . . أن قيساً ولبنى كانت ثمرة لهذه الدعوة، ولكنها كانت آية من آياتها. . . لقد سألت ناظمها الشاعر الجليل: ماذا أوحى إليك بنظم مسرحيتك؟ فأجاب حفظه الله: لقد اقترحتها علي زوجتي. . . ظللها الله برحمته ورضاه! ولهذا حديث غير هذا الحديث، ومقام غير ذاك المقام. وسوف أتحلل مما وعدت الأستاذ به من عدم التحدث عن هذه الأشياء، لأنها من حق التاريخ والأدب لا من حقه. دريني خشبة