مجلة الرسالة/العدد 567/الألغاز في الأدب العربي
مجلة الرسالة/العدد 567/الألغاز في الأدب العربي
3 - الألغاز في الأدب العربي
للأستاذ محمود عزت عرفة
ملاحق العرب
كلف العرب من قديم بهذا الضرب من التعبيرات الغامضة، وعرفوا قيمته. وكانت تسعدهم على ذلك فطنة ولقانة وسرعة بديهة طبعوا عليها؛ حتى لتؤثر عنهم في هذا الصدد أقاصيص معجبة لا تخلو في نظر المدقق من المبالغة والتهويل - وإن بقى لها كامل دلالتها على تأصل هذا الفن فيهم - كالذي يروى عن العنبري الذي أسر في بكر بن وائل، فسألهم يوماً رسولاً يبعث به إلى قومه فقالوا: لا ترسل إلا بحضرتنا. . . والقصة مشهورة جاء فيها قول الرجل للرسول: (قل لهم - يعني قومه - أن العرفج قد أدبي، وقد شكت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معهم حيساً، واسألوا الحارث عن خبري. . .) وسأل قومه الحارث بعد أن أعياهم فهم كلامه، فأوقفهم على مرامز رسالته، وأنذرهم قرب وقوع أعدائهم عليهم وغزوهم لديارهم، فاتخذوا للأمر أهبته. . .
ومثل هذه القصة في الأدب الجاهلي كثير. ولقد فتن الرواة بترديد هذا النوع من الملاحن وجمعه والتزيد فيه، وتجدد بظهور الإسلام الغرض الديني - الذي أشرنا إليه - من المعارضة عند التقية، وتجنب الكذب الصراح بإضمار غير الظاهر من القول. واقتحم الأدباء واللغويون باب التصنيف والجمع في ذلك. ومن أشهر ما انتهى إلينا فيه (كتاب الملاحن)، وهو مؤلف لطيف لابن دريد (أبي بكر محمد بن الحسن البصري الأزدي، المتوفي عام 321هـ) وقد طبع حديثاً في مصر
ويعلن ابن دريد الغرض من تأليف الكتاب في مقدمته فيقول: هذا كتاب ألفناه ليفزغ إليه المجبر المضطهد على اليمين، المكره عليها، فيعارض بما رسمناه، ويضمر خلاف ما يظهر، ليسلم من عادية الظالم ويتخلص من جنف الغاشم؛ وسميناه (الملاحن)، واشتققنا له هذا الاسم من اللغة العربية الفصيحة التي لا يشوبها الكدر ولا يستولي عليها الكلف. . . الخ
وقد سجل لنا ابن دريد جمهرة من ألفاظ اللغة التي تصلح للتعمية والمعارضة في الكلام.
منها أن تقول: والله ما سألت فلاناً في (حاجة) قط والحاجة ضرب من الشجر له شوك، وما (رأيته) أي ما ضربت رئته ولا (كلمته) أي جرحته. . . وتقول ما أنا بصاحب (بكر) وهو ضرب من النبت، ولا أخذت لفلان (فروة) وهي جلدة الرأس، ولا كشفت لفلانة (قناعاً) ولا عرفت لها (وجهاً) فالقناع الطبق والوجه القصد. . . وتقول (ما لعبت) أي ما سال لعابي وما (جلست) من قولهم جلس فلان إذا دخل الجلس وهو نجد وما والاه، وما عرفت لفلانة (بعلا) وهو النخل يشرب ماء السماء، ولا (زوجاً) وهو النمط يطرح على الهودج. . . الخ
فتيا فقيه العرب
من ضروب الألغاز ما وضعه الرواة قديماً تحت عنوان (فتيا فقيه العرب) بقصد المحاجاة والمعاياة. وقد نقل السيوطي عن التبريزي في تهذيبه أن فقيه العرب هو الحارث بن كلدة. لكن المشهور من لقب الحارث أنه حكيم العرب أو طبيبها، ولم يشهر بين القوم باسم الفقيه. على أن السيوطي يوضح هذه الشبهة فيقول: أطلق على طبيب العرب لاشتراكهما في الوصف بالفهم والمعرفة. . .
والحارث بن كلدة ثقفي من الطائف حذق الطب في بلاد فارس ونال هنالك الشهرة البالغة، ثم رجع إلى الحجاز. وكانت وفاته في أوائل عهد الرسول عليه الصلوات ولم يثبت إسلامه، وإن كان من الثابت أن النبي استشاره غير مرة، وكان يأمر أصحابه باستشارته. ولم يجزم أحد بنسبة هذه الفتاوى إلى الحارث، وإنما يبدو أن شهرته، وما أثر عنه من الفطنة وجودة الطبع هو ما جر إلى إدراج اسمه في هذا المقام. ثم أصبح فقيه العرب فيما بعد شخصاً خيالياً تسند إليه كل فتوى دقيقة أو جواب لغز بارع. يقول السيوطي في وصف ما تطورت إليه التسمية: ليس مراد ابن خالويه والحريري بفقيه العرب شخصاً معيناً؛ إنما هم يذكرون ألغازاً وملحاً ينسبونها إليه، وهو مجهول لا يعرف ونكرة لا تتعرف. . .
ومن الجلي أن هذا النوع من الألغاز مقصود به التعجيز وإظهار البراعة في عمق التفكير ودقة العبارة. وأكثر من فتن به الفقهاء في مجالسهم وحلقات دروسهم وتناظرهم. . . فمن ذلك قولهم إن فقيه العرب أفتى بجواز السجود على الخد أن كان ظاهراً (والخد هنا بمعنى الطريق). وسئل فقيه العرب عن الوضوء من الإناء المعوج فقال: (إن أصاب الماء تعويجه لم يجز، وإلا جاز) والمراد بالمعوج المضبب بالعاج ولأبي محمد الحريري طرائف معجبة من الألغاز والأحاجي، ومقامته الثانية والثلاثون - وتسمى الطيبية أو الحربية - تدور جميعها حول فتاوي فقهية ملغزة ينسبها إلى فقيه العرب، وفقيه العرب عنده هو بطل مقاماته المشهور - وشيخ المكدين - أبو زيد السروجي. . . وضع على لسانه جواب مائة مسألة ملغزة ألقيت إليه في علم الفقه، ما بين طهارة وصلاة وصيام وحج، ومعاملات مختلفة من بيع وشراء وقضاء وأحكام وزواج وطلاق. . . والمقامة مشهورة يتيسر للقارئ أن يراجعها في مصدرها
وهنالك مقامات ثمانٍ أخر تدور جميعها حول الألغاز والكنايات وما يجرى مجراها، وهي بحسب ترتيب موضعها وأرقامها من الكتاب: الثامنة المعرية، 15: الفرضية، 19: النصيبية، 24: القطيعية أو النحوية، 35: الشيرازية، 36: الملطية، 42: النجرانية، 44: الشتوية أو اللغزية
وقد سبق الحريري أستاذه بديع الزمان بمقاماته الثلاث في فن الألغاز وهي: الصفرية التي وصف فيها الدينار إلغازاً، ثم العراقية والشعرية في الألغاز عن أبيات من الشعر
ضروب أخرى من اللغز:
إذا تركنا الملاحن والمعاريض وفتيا الفقيه جانباً، ثم نظرنا إلى اللغز من وجهة طرائق الأغراب فيه، وجدناه ضروباً. . . قال ابن الأثير: منه المصحف ومنه المعكوس، ومنه ما ينقل إلى لغة من اللغات غير العربية. وضرب مثلاً للأخير يقول القائل: اسمي إذا صحفته بالفارسية (آخر). فهذا شخص اسمه تركي وهو دنكر - بالدال والنون - و (آخر) بالفارسية (ديكر) بالياء، فإذا صحفت هذه الكلمة بجعل يائها نوناً صارت (دنكر) وهو الاسم المطلوب
وقد وجدت قريباً من ذلك في كتاب الله ما قصه عن بني إسرائيل في قوله تعالى: (وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون)
فقد أمروا بأن يقولوا حطة - أو ما في معناها - من كلمات التوبة والاستغفار؛ والمعنى حط عنا ذنوبنا حطة. فأبدلوها ظالمين مستهزئين وقالوا (حنطة) وقيل قالوا بالنبطية (حطا سمقاثا) أي حنطة حمراء، وهذا ضرب من التعمية والإلغاز حملهم على التشدق به حمقهم واستهزاؤهم، وما فتئوا يرددونه حتى فضح الله مكرهم. ونرى تسجيلاً آخر للقصة نفسها في آيتي الأعراف: وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية إلى قوله تعالى: بما كانوا يظلمون
وفي سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم)
قال الزمخشري: كان المسلمون يقولون لرسول الله (ص) إذا ألقى عليهم شيئاً من العلم: راعنا يا رسول الله، أي راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه ونحفظه. وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي (راعينا) فلما سمعوا بقول المؤمنين (راعنا) افترصوه وخاطبوا به الرسول (ص) وهم يعنون به تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بما في معناها وهو (انظرنا) فذلك تعريض آخر لمحدثي اليهود من معاصري الرسول، يسجله الله عليهم ويكشف سترهم فيه
ويبدو أن ولوع القوم بهذه التعمية والألغاز كان لا ينتهي عند غاية؛ فقد روى عن عائشة رضى الله عنها أن رهطاً من اليهود دخلوا على رسول الله ﷺ فقالوا: السام عليك فقال النبي: عليكم! قالت عائشة رضى الله عنها: فقلت بل عليكم السام واللعنة! فقال عليه السلام: يا عائشة إن الله يحب الرفق في كل شئ. قالت عائشة: ألم تسمع ما قالوا؟ قال فقد قلت عليكم!
(يتبع)
محمود عزت عرفة