مجلة الرسالة/العدد 566/شعر ناجي
مجلة الرسالة/العدد 566/شعر ناجي
3 - شعر ناجي
للأستاذ دريني خشبة
1 - فصول غير مكتوبة
2 - قليل عن حياة ناجي وثقافته
3 - ماذا نرجو من ناجي
4 - بعض ما يؤخذ على ناجي
لولا خشيتنا ألا ننتهي من الكتابة عن ناجي ومن الثناء عليه، لعقدنا فصولاً طوالاً عن غزله الرقيق العذب، وعن فكاهته الحلوة الهادئة، وعن سخريته اللاذعة اللافحة، وعن فلسفته الضاحكة المتفائلة التي تبطن قليلاً من الشك لا يلبث أن يضفي عليه أضواء إيمانه العميق فيمحقه، وعن وطنيته التي تبشر وتهدى وتتفتح بالآمال في غير بكاء ولا إعوال. . . وعن فهم ناجي لهذه الحياة الجديدة الصاخبة التي تحترب من حولنا وتتفاعل في دؤوب وجد. . . وفي بحار من الدماء أحياناً. . . ولولا خشيتنا ألا ننتهي من الكتابة عن ناجي لعقدنا فصلاً طويلاً عن حياته ونشأته وتعلمه، لنعلم مثلاً أنه ولد في آخر ليلة من ليالي سنة 1897 وأنه يكره أن يجعل هذه الليلة تاريخاً لمولده، وأنه يرى من العدل أن يؤرخ لمولده بأول يناير سنة 1898، لأنه لم يعش في القرن التاسع عشر إلا عامين اثنين على حد قوله، وثلاثة أعوام حسب أصول الطرح الصحيح. ثم لنعرف أنه كان تلميذاً نابغاً ذكياً، مثله الآن، لأنه لا يزال تلميذاً نابغاً ذكياً، وإن تغيرت مدرسته فأصبحت مكتبة كبيرة، أو ثلاث مكتبات كبيرات حشد فيها خمسة أو ستة آلاف من كتب الأدب والفكر. . . والطب. . . وأنه حشد فيها تلك الآلاف من الكتب لا للزينة والتباهي، ولكن للقراءة العميقة المنظمة. . . وإن من هذه الكتب، كتباً إنجليزية - وهي الكثرة الغالبة وأن منها كتباً فرنسية، وكتباً ألمانية، لأن ناجي، كما أخبرني، كان مولعاً بالحصول على الشهادات العلمية، ولذلك فهو قد ثقف الإنجليزية والفرنسية والألمانية ليحصل على عدد من الدرجات العلمية من إنجلترا ومن ألمانيا. وبعد أن شفى ظمأه من شهادات هذه البلاد الطبية، شرع يروي من آدابها بلغاتها الأصلية، ولعلي لا أبالغ إن ذكرت أن ناجي يجيد الإيطالية إلى حد ما، وأنه يستطيع أن يقرأ الأدب الإيطالي بلغته الأصلية
كان ينبغي أن نعقد فصلاً عن ثقافة ناجي التي ترتوي بكل هذه الثقافات، وتنهل من مناهل الآداب العالمية التي تتصل بها اتصالاً منظماً؛ وربما كانت قد أتيحت لنا فرصة نذكر فيها طريقة ناجي في تنظيم ثقافاته هذه كلها، ووضع بينها حتى لا تصير خليطاً يشحب إلى جانبه لون خاصته الأولى وأعني قرضه للشعر؛ فقد كلمني أحد الأصدقاء عن ناجي فرأيته يزعم أنه أوشك أن ينقطع عن نظمه بالفعل. والذي أعرفه أن ناجي لا يزال يعنى كعادته، وإن يكن قد انقطع بالفعل عن النظم الكثير بين عامي 1934، 1938، وذلك لأسباب لم يحن الوقت لذكرها، أما بعد سنة 1938، فقد أخذ ملك الكنار يعود إلى شدوه الأول وشجوه القديم. وليس صحيحاً أن شعر ناجي في صباه خير من شعره الحالي، وإن كنت قد أوردت جميع الأمثلة التي ذكرتها في مقالي السالفين من ذلك الشعر؛ فقد آثرت أن أفعل ذلك لكي يستطيع من يريد الرجوع إلى شعر ناجي أن يجده مجموعاً في ديوان مستقل، لا متفرقاً في عشرات المجلات، أو مختزناً في رأس الشاعر (!!). . . وذلك أن ناجياً لا يقيد شعره في ديوان أو كراسة، كما يصنع عباد الله الشعراء، وهو حين ينظم المقطوعة أو القصيدة فهو إنما ينظمها في رأسه. . . أي في ذهنه، وهولا يتناول قلماً وقرطاساً، ثم يخلو إلى نفسه كما يستوحي معظم الشعراء ملائكتهم - أو شياطينهم - ولكنه ينظم شعره كلما هاجته دواعي الشعر وهواجسه، فهو ينظمه في الخلوة، كما ينظمه بين يدي الحبيب. وهو ينظمه في الحدائق، كما ينظمه في زحمة الترام. وهو ينظمه نائماً أو مستيقظاً. . . ونحن نأسف لأن ناجياً لم يجمع شعره منذ سنة 1938 إلى الآن في ديوان يكون بأيدي محبي فنه والمفتونين به من قرائه الكثيرين في الأمم العربية. وليس يخفف من هذا الأسف أن ثلاثة أرباع هذا الشعر مسجل في صفحات الرسالة، لأن هذا التسجيل لا يسعف إلا الأقلين بالرجوع إلى هذا الشعر
وبعد. . . فماذا في جنة ناجي الوارفة الظلال من حسك وسعدان وأشواك؟ وماذا ينقص هذه الجنة الدانية القطوف مما في جنات أولئك الشعراء الأمجاد: شلي، وبيرون، وكيتس، ووردذورث، وسكوتس، وتنيسون، وبوب، وشيكسبير، وبروننج وغيرهم وغيرهم من شعراء الإنجليز والفرنسيين والألمان والإيطاليين والأسبان وقدماء اليونان ممن كانت أرواحهم تهمهم حولنا وتغمغم، وتطل علينا من خزائن كتب ناجي، وتكاد تغني لنا وأنا أحدثه عنها جميعاً؟ لقد أوشكت أن أترك هذا السؤال بين يدي ناجي، ثم أفرغ من نقده! لقد رأيت فوق مكتبه ديوان الشاعر الإنجليزي الشاب كيتس، فتناولته ثم ضحكت. . . ثم أخبرته، وقد سألني، أنني كنت أقرأ في هذا الديوان قبل أن ألقى ناجي بدقائق، منظومته الرائعة الخالدة (أنديميون). . . وأنني كنت أقرأها لأهيئ من مأساة تأليفها ونقدها ردّا صامتاً على نقاد هذا الزمان، الذين يحلو لهم أن يقضوا على شعرائنا لشباب كما قضي نقاد كيتس على كيتس، فمات في ريعان الصبا وشرخ الشباب ضحية هؤلاء العلماء الظالمين الذين لا يرضيهم إلا أن يقذفوا في نار الجحيم بشعرنا وشعرائنا ونقدنا ونقادنا ممن يعرضون أقلامهم وكراماتهم لدفع أذى أولئك العلماء العتاة الظالمين عن جنود أدبنا ومعقد رجائنا في مستقبل هذا الأدب
فهل يخشى ناجي أن ينظم لنا غرة مثل أنديميون، أو درة مثل أدونيس؟ ألا يذكر ناجي أي أثر تركته في نفسه أدونيس التي نظمها شلي تخليداً لذكرى كيتس، بمناسبة موته من جراء الحملة الظالمة التي شنها عليه حضرات النقاد الظالمين؟
لقد جرب ناجي النظم، وقد أعطانا مثالاً شائقاً في ديوانه الصغير المتواضع تحت عنوان: قلب راقصة. . . تلك الأقصوصة التي تؤكد ما ذهبنا إليه من نبل مشاعر ناجي وجمال تصويره للحياة وتفجر الشعر من قلبه وتدفقه في دمه، وقد جرب ناجي نظم الملاحم، فأنشأ ملحمتيه الرقيقتين اللتين لم تطبعا بعد: الأظلال، وليالي القاهرة، وكل منهما في حوالي ألف بيت. . . فهل يحسب ناجي أنه أدى واجبه نحو الشعر العربي، والأدب المصري الحديث، بهذا القدر الضئيل من الجهد المشترك؟ أليس يروع ناجي ما يرى من الفراغ المفزع في دواوين شعرائنا شيباً وشباناً؟ أيستطيع أن يقارن بين هذه الدواوين وبين تلك المئات من دواوين الشعراء الأوربيين الذين كانت أشباحهم تشرف علينا من خزائن كتبه؟ أخشى أن يكون ناجي شاعراً أنانياً، يقرأ كل هذا القدر من الشعر، ولا يعطى الناس غير تلك الصباباث من القصائد والمقطوعات. . . إنما نريد تجاوباً بين ناجي وبين أصدقائه من أولئك الشعراء المحبوسين في خزائنه. . . لقد أنجبت مصر ناجياً ليكون بلبلاً من بلابلها التي تأسو بغنائها أضعاف ما تأسو بطبها. . . لقد أردنا أن نكتب عن ناجي فبدأنا بالكتابة عن قلبه. . . فأين قصة ذلك القلب؟ أين هذه القصة الكبيرة الطويلة ذات الصور والتهاويل التي يجيد ناجي إبداعها؟ إن بيرون حينما أنشأ دون جوان أو تشيلد هارولد، وشلي حينما نظم روزاليند وهيلين وقصصه الباكيات الأخر، وشيكسبير حينما نظم فينوس وأدونيس. . . وشعراء الغرب حينما نظموا قصصهم البارع العالي، إنما كانوا ينظمون قصص قلوبهم الفتية الكبيرة النابضة. . . فأين قصص قلوب شعرائنا في غير البيت أو البيتين أو القصيدة أو المقطوعة؟ ومن غير ناجي ومن هم من طراز ناجي ممن ثقفوا أساليب الأدبي الأوربي، ونهلوا من معينه يستطيعون أن يسدوا تلك الثلمة في الشعر العربي؟
ولا يستطيع بعد هذا أن ألاحظ شيئاً على أشعار ناجي يمكن أن يؤبه له أو يعتد به. وإن كان لا بد من ملاحظة شئ والتصريح به، فهو هذا التهافت القليل الذي ينتاب بعض أبيات ناجي. . . وهو تهافت مادي في غالب الأمر، أي من ناحية التركيب والأسلوب. ولا شك في أن السبب في ذلك هو ما يأخذ به ناجي نفسه من طريقته العجيبة في قرض شعره، وبالأحرى. . . نظمه أشعاره بتلك الطريقة الغيبية التي لا يستعين فيها بقلم أو قرطاس. ونحن نعرف من علوم النفس والتربية أن الشيء الذي يستعمل الإنسان فيه أكثر من حاسة واحدة تكون دراسته ووعيه أكثر إتقاناً مما إذا اقتصرنا فيه على حاسة واحدة أو حاستين في الوقت الذي نستطيع أن نستعمل فيه أكثر من ذلك. فلو أن ناجياً كان يتناول قلماً وقرطاساً ليدون أشعاره وقت نظمها لاستطاع أن يعيد فيها نظره ويجيل عليها عينيه، ولأجرى عليها عملية التجويد. وإذا هو أشرك مع عينيه أذنيه، ثم لسانه، أي جعل يرددها، أو (يدندن!) بها، إن صح أن نستعمل هذا التعبير المصري لجاءت كل أشعاره مصقولة على غرار واحد وتجنب ما يندُّ به ذهنه من الانحراف النحوي أحياناً: كقوله في رثاء المرحوم طانيوس عبده:
إجمع الآن طاقةً ... غَضَّةَ النور تبتسمْ
أهدها روح شاعر ... خالدٍ بالذي نظمْ
فقد عدّي أهدى بغير لام أو إلى وهي لا تتعدى إلا بهما. وكقوله في الشك:
تغلو الحياة بها إلى أن تنتهي ... عند التراب رخيصة كتراب
يا هيكل الحسن المبارك ركنه ... الساحر النور الطهور رحاب فقد جرّ رحاب في غير موضع للجر، وإن احتج بالضرورة الشعرية، فليس يعيب الشاعر الناضج إلا أن يحتج بها. ومن ذلك استعماله دوى مكان دوّى بالتشديد
وعلى ذكر رثاء طانيوس عبده. . . لقد ذكر ناجي أبياتاً لم يكن (يليق!) أن يذكرها قط في ديوانه وإن يكن قد ذكرها في الحفلة، ولن أزيد الطين بلة فأذكرها هنا
وإلى أن يصدر ناجي الجزء الثاني من ديوانه فنحن نحييه ونعقد عليه أحسن الآمال
دريني خشبة