مجلة الرسالة/العدد 565/شعر ناجي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 565/شعر ناجي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1944


2 - شعر ناجي

للأستاذ دريني خشبة

وميزة ناجي الثانية هي قدرته على التصوير. . . وهو يصور في يسر ورخاء وخصب؛ وهو يصور الصورة الكاملة التامة بالكلمة الواحدة أحياناً يضعها في مكانها من البيت فتحار إذ ترى أنها لا تصلح إلا فيه. . . وقد يصور الصورة الرائعة بالكلمتين أو بالشطرة أو بالبيت الكامل أو بالبيتين أو بالمقطوعة أو بالمنظومة كلها، فيضع بين يديك ألواناً جيدة حسنة المزج، خالية من الصنعة والتكلف. ويحافظ ناجي على طبيعة ألوانه هذه، ويحافظ على إلا يجعلها صارخة مبتذلة، وقد يؤثر اللمس الخفيف على الخطوط القاطعة القوية، وكثيراً ما يكتفي بالرمز، بل كثيراً ما يصور بالوهم، فيجعلك تتوهم مثله لتخلق معه الصورة التي يريد

ومما يزيد في بهاء صور ناجي جودة الأداء، أقصد جودة انتقاء الألفاظ التي تحمل الصورة، وحسن سبكها، في غير مشقة ولا عسر. . . ومما يجمل التفات إليه أن جودت الأداء وحسن السبك لم يبلغا أوجهما في الشعر العربي إلا بعد ابتداع الموشحات، ومما نحمد الله عليه أن شعراءنا الشباب قد استغلوا نظام الموشحة استغلالاً حسناً ساعدهم في الثورة على القصيدة المطردة القافية فافتنوا في معانيهم وأبدعوا. . . والظريف من ناجي أنه يطبق ذلك في صمت تطبيقاً عملياً. . . ومنذ أخذنا نقرأ ناجي لم نره قط يطيل في قصائده، بل كان يؤثر لها البساطة والبحر الساذج القصير دائماً؛ فإذا كانت منظومته من طراز الموشحات رأيناه يطيل إطالة عجيبة، ورأينا مقطوعاته تحمل من الصور والبراعات ما يفتن به القلوب ويخلب الألباب

ولعل من أجمل صور ناجي تلك التي حمل إلينا فيها قلبه، والتي قدمنا منها النماذج الكثيرة في الكلمة السابقة. . . فقلبه: الشهيد المتواري في الضلوع. . . صورة رائعة فيها سحر وفيها فتنة وفيها حب وأنين وألم. . . وكلمة الشهيد وحدها حين تصف القلب تحمل إلى أذهان المحبين صور تلك الساعات الحلوة التي ألتذوا فيها آلام الصبر والتشوف والحنين والانتظار وخلف المواعيد، وهي آلام إذا أحست الجوارح الإنسانية منها شيئاً، أحس منها القلب الإنساني كل شيء. . . فما أبدع كلمة الشهيد في تصوير القلب يدمى ويألم ويتو فهذه صورة رائعة من صور ناجي في كلمة واحدة!

ويقول ناجي:

رفرف القلب بجنبي كالذبيح ... وأنا أهتف: يا قلب اتئد!

رفرف القلب! كلمتان جميلتان تصوران القلب في صورة الطائر الذي يحرك جناحيه حول الشيء كما يقول القاموس. . . ورب قائل يعترض بأن هذه صورة قديمة مأخوذة من قول من قال مثلاً: كما انتفض للعصفور بلله القطر. . . وهو اعتراض لا يكاد يقف على قدميه، فرفرفة القلب رمز جميل وتلميح، وانتفاض العصفور بلله القطر إفاضة وتصريح، ولكل من الصورتين بعد ذلك بهاؤها وروعتها، فإذا أخذنا الصورة الثانية التي يرفرف القلب فيها بجنب الشاعر كالذبيح، رأينا لوحة شاملة فيها كثير من التفاصيل الغنية. . . ثم تتغير هذه اللوحة حينما نقرأ البيت كاملاً. . . لأننا نرى الشاعر، أو روح الشاعر، تقف في جانب من الصورة الرائعة وهي تخاطب القلب هذا الخطاب الرقيق، وتهتف به مشفقة عاتبة؛ يا قلب اتئد! فرفرف القلب صورة، ورفرف القلب كالذبيح صورة ثانية، والبيت كله صورة ثالثة. . . وهنا قوة ناجي المصور الفنان الذي يجيد مزج ألوانه. . .

وانظر إلى الصور الكثيرة المتتالية في المقطوعة التالية:

هل رأى الحب سكارى مثلنا؟ ... كم بنينا من خيال حولنا!

ومشينا في طريق مقمر ... تثب الفرحة فيه قبلنا!

وتطلعنا إلى أنجمه ... فتهاوين وأصبحن لنا!

وضحكنا ضحك طفلين معاً ... وعدونا. . . فسبقنا ظلنا!

فيا للفرحة التي تثب في هذا الطريق المقمر قبل المحبين؟ ويا لهذه الأنجم التي يتطلع إليها المحبون فترثي لهم وتترفق بهم فتتهاوى وتصبح لهم! ويا للمحبين حين يسعدون فيضحكون ويعدون. . . ويسبقون ظلالهم! أما كيف يسبق الإنسان ظله فصورة روحية قد لا يفهمها إلا من صحب دانتي الليجييري في مطهره، وفرجيل يقوده وسط أشباح وأرواح!

ويودع حبيبه فيقول:

حان حرماني فدعني يا حبيبي ... هذه الجنة ليست من نصيبي

آه من دار نعيم كلما ... جئتها أجتاز جسراً من لهيب وأنا إلفك في ظل الصبا ... والشباب الغض والعمر القشيب

أنزل الربوة ضيفاً عابراً ... ثم أمضي عنك كالطير الغريب!

وفي أول هذا الوداع يقول:

حان حرماني وناداني النذيرْ ... ما الذي أعددت لي قبل المسيرْ

زمني ضاع وما أنصفتني ... زاديَ الأول كالزاد الأخير

رِي عمري من أكاذيب المنى ... وطعامي من عفاف وضمير

وعلى كفك قلب ودم ... وعلى بابك قيد وأسير!

والصورتان اللتان يحملهما البيت الأخير من أخلد الصور في الشعر العربي!

وإليك هذه الصورة:

يا مناجاتي وسري ... وخيالي وابتداعي

ومتاعا لعيوني ... وشميمي وسماعي

تبعث السلوى وتنسى الموت مهتوك القناع:

دمعة الجزن التي تسكبها فوق ذراعي!!

فما أبدع هذا التصوير الرمزي في البيت الأخير أيضاً

ويصور الحنين فيقول:

أبغي الهدوء ولا هدوء وفي ... صدري عباب غير مأمونِ

يهتاج إن لح الحنين به ... ويئن فيه أنين مطعون

ويظل يضرب في أضالعه ... وكأنها قضبان مسجون!

ويقول فيه أيضاً:

ويح الحنين وما يجرعني ... من مُرْه ويبيت يسقيني

ربيته طفلاً بذلت له ... ما شاء من خفض ومن لين

فاليوم لما اشتد ساعده ... وربا كنوار البساتين

لم يرض غير شبيبتي ودمي ... زاداً، يعيش به ويفنيني!

كم ليلة ليلاء لازمني ... لا يرتضي خلاًّ له دوني

ألفى له همساً يخاطبني ... وأرى له ظلاً يماشيني ويستطيع القارئ أن يعد صوراً شتى في هذه الأبيات التسعة وهاك صورتين عجيبتين صور بهما ناجي حبيبته: أما الأولى فهذه:

وأنت مثل النجم في المنتأى ... وفي السنا الخاطف كألماسِ

يرنو له الناس ويبغونه ... وما يبالي النجم بالناس

وهي صورة مركبة في البيت الأول، أما الثانية فهي:

وأنت كأس الحسن لكننا ... مثل حباب حام بالكأس

طفا وقد قبَّل أنوارها ... ورف مثل الطائر الحاسي

وجف أو ذاب على نورها ... كما يذوب الطلَ بالآس

وهذه صورة مركبة أيضاً، لأنها تتألف من صور خلابة شتى، تذكرنا بصور ابن المعتز وذي الرمة والبحتري. . . ولست أبالي أن أذكر أن صور ناجي هذه تفوق صور هؤلاء بالرقة واللمس الدقيق!

وانظر كيف يحيي لنا ناجي سنة الأولين في الوقوف بالأطلال:

آها مما صنع الدهر بنا ... أو هذا الطلل العابس أنتِ!؟

والخيال المطرق الرأس أنا؟! ... شد ما بتنا على الضنك وبتِّ!

أين ناديك وأين السمَرُ! ... أين أهلوكِ بِساطاً وندامى؟

كلما أرسلت عيني تنظر ... وثب الدمع إلى عيني وغاما!

موطن الحسن ثوى فيه السأمْ ... وسرت أنفاسه في جوِّهِ

وأناخ الليل فيه وجثم ... وجرت أشباحه في بهوه

ولا بأس من نقل الصور التالية من تلك المنظومة الخالدة من شعر ناجي:

والبلى! أبصرته رأى العيانْ ... ويداه نتسجان العنكبوت

صِحت: يا ويحك تبدو في مكانْ ... كل شيء فيه حي لا يموت؟

كل شيء من سرور وحَزَنْ ... والليالي من بهيج وشِجى

وأنا أسمع أقدام الزمن ... وخُطى الوحدة فوق الدرج

فمن من الشعراء القدامى أو الشعراء المحدثين وقف على طلل حبه فبكاه هذا البكاء واستطاع أن يصوره هذا التصوير؟ أنظر إلى هذا الخيال المطرق كلما أرسل عينيه في دمنة حبه وثب إليهما الدمع. . . وغاما!. . . وانظر إلى الليل كيف ينيخ في هذا الطلل ويجثم، وكيف تجرى أشباحه في عرصاته وتهوم! وانظر إلى البلى كيف تنسج يداه العنكبوت في هذا الرسم الدارس، والمحب الباكي واقف يسمع إلى أقدام الزمن تدب في أركان هذا المكان الذي كان نادي حبه وجنة قلبه، وإلى خطى الوحدة الموحشة نازلة صاعدة فوق الدرج. . .

وإليك هذه الصورة من منظومة في حبيبه المريض الذاوي:

ذهب الصبا الغالي، وزالت دوحة ... مدت لنا ظل الوفاء ظليلا

أيام يخذلني أمامك منطقي ... فإذا سكت، فكل شيء قيلا!

ويثور بي حبي فإن لفظ جرى ... بفمي، تعثر بالشفاه خجولا!

فهذه صورة عادية رددها الشعراء في شعرهم طويلا، إلا أن موضع السحر فيها كامن في عجز البيت الثاني: فإذا سكت فكل شيء قيلا! كما يكمن الكثير من هذا السحر في ذاك اللفظ الذي إن جرى بفم المحب تعثر بالشفاه خجولاً!

ومن تصوير ناجي بالوهم الذي رأينا منه صورة قوية في وقوفه بطلل حبيبه، الصورة التالية:

يا طالما أَدْنتك أوها ... م كواذب كالحلم

فلمحت صبحك في السوا ... د وخلت روحك في النَّسَمْ

وشفيت وهمي من رضا ... ك ورُبَّ ذي بأس وهَمْ

ورويت أذني من حديثك وهو معبود النَّغم

وحرقت قلبي من سنا ... ك على جمال يضطرمْ

كفراشةٍ حامت ... عليك وأي قلب لم يحم!

لك حُسْنُ نوار ... الخميلة طُلّ صبحاً فابتسم

لك نضرة الفجر ... الجميل على الذوائب والقمم

لك طلعة البرء ... المرجيّ بعد مستعصي السقم

وسؤال دمعك حين يس ... ألني، ومن لي بالكلم

لم يا أنيس خواطري ... غفتِ العيون ونحن لمْ!؟ أكاد أنقل الديوان كله، لأنه يفيض بتلك الصور، بتلك الغرر!. . .

(يتبع)

دريني خشبة