مجلة الرسالة/العدد 563/من روائع (دكنز)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 563/من روائع (دكنز)

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 04 - 1944



مطاردة. . .

للأستاذ محمود عزت عرفة

تقديم

عاش تشارلز دكنز في إنجلترا بين عامي 1812 و 1870 م. وكان كاتباً روائياً مبدعاً؛ ومصلحاً اجتماعياً ثابت القدم في ميادين الإصلاح، شديد العارضة في التنديد بمساوئ المجتمع، وكشف مواطن الشر والرذيلة فيه

قصر أعظم جهوده على كفاح الفقر والبؤس والتشرد والجهالة وما إليهن، وحمل المجتمع ونظمه الجائرة وزر تفشيء هذه الأدواء الموبقة على عهده

وروايته: مغامرات أوليفر تويست - وقد نشرت عام 1838 - تعد نموذجاً كاملاً لحملته في هذا الاتجاه، ففيها يعالج مشكلة الأطفال المتشردين علاج الطب الخبير. وأوليفر - في نظرنا - هو النموذج التام للإنسان البائس، الذي تلفظه الحياة ويأبى عليه المجتمع إلا حياة التشرد والذلة. ولكنه - على حد قول بعض النقاد الإنجليز - (يجتاز هذه العوالم من الرذائل والشرور دون أن يقع فريسة لها، أو يروح ضحية لمغرياتها وتجاربها)

وهذا الفاصل شبه المستقل الذي نترجمه من الرواية، يرينا أوليفر أول مقدمه إلى لندن (وهو غلام في مبدأ العقد الثاني من عمره) وقد وقع في شرك عصابة من اللصوص يحرك أفرادها من الغلمة الطرادين، يهودي عجوز يدعى فاجين

ونأمل كثيراً أن يلحظ القارئ مبلغ الشبه بين حوادث هذا الفصل ونظائره مما يمثل حتى اليوم على مسارح الشوارع في بعض مدائننا الكبرى!

وإذا كنا نعالج الآن بقايا مشكلات كتلك التي عالجها الغربيون منذ مائة عام، فأملنا وطيد في أن نحلها كأحسن ما حلوا، وأن نغير من أثرها فينا كأفضل ما غيروا، والله يتولانا بهديه وتوفيقه. . .

الترجمة

انطلق الفتيان الثلاثة مهطعين: المراوغ في إزاره الكميش وقبعته مثلثة الإطار، كما ه شأنه دائماً. ومستر باتس يسير الهوينا وقد دس يديه في جيوبه. ثم أوليفر يتوسط الفتيين وهو يسائل نفسه عجب عن وجهتهما

وكان الثلاثة يدلفون من طريق ضيق إلى الميدان الرحيب المسمى (ذي جرين) - قرب كلر كنوبل - عندما توقف المراوغ فجأة، معترضاً بسبابته فمه، مجتذباً إليه رفيقيه في حرص وحذر

وهتف أوليفر: ماذا جرى؟!. . .

فأجاب المراوغ: صه، أما ترى هذا العجوز الواقف لدى المكتبة؟

قال أوليفر: آلسيد الهرم الذي هنالك؟. . . نعم أراه

- إنه طلبتنا!

فقال مستر تشارلي باتس: يا لها من ثمرة مبكرة!

وأدار أوليفر نظره بين الفتيين في عجب بالغ، ولكن لم يتح له أن يشفى غليله بسؤال؛ إذ سرعان ما رآهما يعبران الطريق فيتسللان خلف الرجل مقتربين منه. وتبعهما أوليفر عن كثب وهو موزع القلب بين إقدام وإحجام

كان السيد شيخاً وقور الهيئة أشيب الرأس ذا منظار ذهبي، يرتدي سراويل بيضاء وسترة دكناه الخضرة موشاة بنيقتها بالمخمل الأسود، وقد تأبط عصاً أنيقة من الخيزران الهندي

وكان قد ابتاع كتاباً من الحانوت ثم توقف منهمكا في قراءته كما لو كان مستقراً على مقعده الوثير في قاعة مطالعته الخاصة!

ومن المحتمل كثيراً أن يكون قد توهم نفسه كذلك؛ إذ كان من الواضح أنه لم يعد يعير الحانوت ولا الشارع ولا الصبية التفاتاً. وبالجملة لم يكن يحس وجود شيء إلا الكتاب نفسه؛ وقد أقبل على مواصلة النظر فيه، فما يفرغ من صفحة إلا ليستأنف القراءة في أخرى. . . وعلى وجهه سمات واضحة من الشغف والاهتمام

وبدت رهبة أوليفر وذعره بالغين حدهما - وهو واقف على مدى خطوات مشدوه العينين - حينما أبصر المراوغ يدس يده في جيب السيد فيستل منه منديلاً يدفعه إلى تشارلي باتس، ثم ينطلق الغلامان صوب أول منعطف من الطريق في سرعة هائلة

وفي لحظة واحدة تكشف أمام عينيه سر هذه المناديل والساعات والجواهر التي طالما شهد الصبية يقدمون بها على (فاجين) في مسكنه

ووقف برهة وقد تنزي الدم في عروقه رعباً وفزعاً، حتى أحس كما لو أن ناراً تلتهمه. ثم استدار على عقبيه في ارتباك ووهل، وراح يطلق ساقيه للريح حتى ما تكادان تلمسان الأرض، دون أن يعرف حقيقة ما يأتي أو يتبين عاقبته

جرى كل هذا في آونة قصيرة. وفي اللحظة التي بدأ فيها أوليفر يجري، كان السيد قد دس يده في جيبه فافتقد منديله. وأدار فيما حوله نظرة ثاقبة، وما إن رأى الغلام يركض في هذه السرعة حتى قر في نفسه أنه السارق فصاح بملء حنجرته: (أوقفوا اللص!) ثم انطلق خلفه مهرولاً والكتاب في يده

ولم يكن السيد وحده مثير هذه المطاردة: ذلك أن المراوغ ومستر تشارلي باتس كانا قد توقفا لدى مدخل أول بيت بعد المنحنى، كيلا يلفتا إليهما الأنظار وهما يجريان عبر الشارع العريض؛ فما إن سمعنا الصيحة وأبصرا أوليفر يجري راكضاً حتى تصورا ما حدث تماماً. فبرزا من مكمنهما في تأهب وإعجال وأقبلا يصيحان: (أوقفوا اللص) مشتركين في المطاردة كسادة كرماء ذوي أريحية. . .

ولم يكن أوليفر متأهباً لتطور الموقف على هذا الوجه، فرهب واستطير، ومضى في جرينه كالريح العاصف، ومن خلفه السيد العجوز يقفوه الغلامان، وهم يتصايحون جميعاً في صرخات تشبه الزئير

(أوقفوا اللص. . . أوقفوا اللص) شد ما يسحر الناس هذا النداء!

لقد ترك له البائع حانوته والحوذي مركبته؛ وطرح القصاب والخباز واللبان أوعيتهم التي يحملون؛ وتخلى الشيال عن حمله، والتلميذ عن دفتره، وممهد الطرق عن معوله، والطفل الصغير عن لعبته. . . وجرى أولئك جميعاً في هرج ومرج، متدافعين متصايحين؛ يصدمون السابلة عند كل منعطف طريق. . . ويهيجون الكلاب. . . ويفزعون الدواجن. . . وقد دوت الشوارع والميادين والرحبات مرددة صدى صيحاتهم: أوقفوا اللص، أوقفوا اللص. . . كانت الصيحة تنطلق من أفواه مائة، والحشد يزداد كثافة عند كل مفترق طريق، وقد ثارت الهبوات والأوحال تحت أقدامهم، وارتفع لنعالهم فوق الأرصفة خفق شديد وانفتحت النوافذ على مصاريعها، وهرع الناس من مساكنهم وتدفعت الغوغاء في طريقها لا تربع على شيء، وانطلق رواد مسرح (بنش) برمتهم - والرواية في أدق مواقفها - فالتحقوا بالجموع المتدفقة، وضاعفوا من صدى الصيحات المتصاعدة، وأمدوا الصرخة الرهيبة: (أوقفوا اللص!) بقوى ناشطة جديدة

أوقفوا اللص، أوقفوا اللص! يبدوا أن هنالك رغبة في (مطاردة شيء ما) متغلغلة في نفس كل إنسان! وهاهو ذا طفل بائس مبهور الأنفاس يلهث من فرط الإعياء، قد ارتسم الجزع في نظراته، وبانت سكرة الموت في عينيه، وسالت قطرات من العرق كبيرة على وجهه - يرهق كل عصب من أعصابه ويستدر كل وتر من أوتار قوته، لينجو بحياته من براثن مطارديه

ولكنهم، في تعقبهم إياه وازدلافهم نحوه في كل لحظة، كانوا يبتعثون بصياحهم مذخور نشاطه ويستنهضون بهتافاتهم مخذول قواه وهم يصيحون من خلفه في حماسة ومرح: أوقفوا اللص!

أجل أوقفوه - نستحلفكم بالله - فذلك عين العطف عليه والرحمة به

وأخيراً وقف! ويالها من لطمة بارعة! لقد انكفأ على الإفريز ساكناً لا يختلج، وأحاطت به الجموع في لهفة وتطلع؛ وكان كل قادم جديد يزاحم الآخرين ويدفعهم كيما يحظي بنظرة

(تنحوا جانباً). . . (دعوه يتنفس قليلاً). . . (هذيان! ما هو بجدير أن يشم هذا الهواء). . . (ألا أين السيد؟). . . (هاهو ذا قادم من أقصى الطريق). . . (أفسحوا الطريق يا من هنالك للسيد!) (أهذا هو الغلام يا سيدي؟) (نعم)

وكان أوليفر مطروحاً على الأرض وقد لطخه العثير والطين وانبثق الدم من فمه غزيراً. وراح يجيل عينيه فزعاً مرعوباً في كتلة الوجوه التي أحدقت به من كل صوب. وتقدم رؤساء المطاردين بالسيد شاقين له دائرة الجمع الحاشد، حتى أوقفوه في المقدمة، فعاد يقول: نعم، أخشى أن يكون هو

وهمهم الواقفون: تخشى؟ عجيب منك هذا القول. . .

وعاد السيد يقول: يا للطفل المسكين، لقد أصاب نفسه!

فقال شاب ضخم متبلد - وهو يخطو إلى الأمام قليلاً - بل أنا الذي أصبته يا سيدي، لقد تحطمت بناني من عظم ما ارتطمت بفمه. أنا أوقفته يا سيدي

ولمس الشاب قبعته وهو يبتسم، مترقباً الجزاء على ما تعرض له من ألم. ولكن السيد حدجه بنظرة قاسية وأدار بصره فيما حوله حيران قلقاً، كما لو كان يراود نفسه على الفرار. ولم يكن من المستبعد أن يحاول ذلك فيكلف القوم مطاردة أخرى، لولا أن قدم الشرطي في هذه اللحظة (وإنه لآخر شخص يظهر عادة في مثل هذه المناسبات) فشق طريقه بين المجتمعين وجذب أوليفر من طوقه وهو يصيح به في جفاء وغلظة: تعال. . . قم. . .!

وأطبق أوليفر راحتيه في توسل، وشرد ببصره فيما حوله وهو يقول:

لست أنا بالحقيقة يا سيدي! الحق؛ الحق أنهما غلامان آخران، وهما هنا من غير شك في مكان ما. . .

فقال رجل الشرطة: آه. . . كلا، ما من أحد هنا. . .

حاول الرجل أن يتهكم بهذا الجواب، ولكنه كان يقرر الحقيقة دون أن يعرف؛ ذلك أن المراوغ ومستر تشارلي باتس كانا قد استدارا عند أول منعطف مرا به وذهبا ناجيين

وكرر الشرطي صيحته: هيا. . . انهض! فقال السيد وقد استشعر الرأفة: لا تحاول إيذاءه

وأجاب الشرطي - وهو يقد سترة الغلام من فوق ظهره ليبرهن على صدق قوله -:

كلا لست أوذيه. أنهض! إني لأعرفك فلا تجوز عليَّ ألاعيبك. أما تنهض على قدميك بعد أيها الحرامي الصغير؟!

وجهد أوليفر في النهوض حتى استوى على قدميه، ثم اقتيد من طوقه خلال الشوارع في خطوات سريعة، وكان السيد يمشي إلى جانب الشرطي؛ أما المتفرجون فلم يغب عن أكثرهم أن يقوم بهذه المناورة البارعة: كانوا يوجفون إلى الأمام في خطوات قليلات سراع، ثم يديرون وجوههم ليحدقوا النظر إلى أوليفر بين حين وحين!

وكان الصبية يتصايحون في نشوة عارمة من الظفر والانتصار وهكذا انطلق الجميع ميممين ديوان الشرطة

(جرجا)

محمود عزت عرفة