مجلة الرسالة/العدد 561/اللغة. . . والوطن. . .
مجلة الرسالة/العدد 561/اللغة. . . والوطن. . .
للأستاذ دريني خشبة
يوشك الداء الوبيل الذي تفشى في أفريقيا الشمالية، ولا سيما في تونس والجزائر، أن يتفشى على الصورة نفسها في سوريا ولبنان. وها نحن أولاء نرى جراثيمه في دور الحضانة في مصر. . .
يوشك هذا الداء الوبيل الذي زعزع أركان اللغة العربية في تونس والجزائر، أن يزعزع أركان هذه اللغة في سوريا ولبنان، لأن العلية من إخواننا السوريين واللبنانيين يعدون اللغة الأصلية التي يأخذون بها أنفسهم وأبناءهم منذ الطفولة هي اللغة الفرنسية، فهم يحلونها محل العربية في مدارسهم ومعاملاتهم وأحاديثهم، وبالتالي فهم يفكرون بها، ويمزجون بها دماءهم، ويملأون بها أحلامهم، ويقومون بها ألسنة أطفالهم، حتى ليستطيع الطفل السوري أو اللبناني أن يحاورك بالفرنسية في سهولة ويسر، في حين أنه يعجز عن فهمك ومبادلتك الحديث إذا قصرت المخاطبة على اللغة العربية
ويجب قبل كل شئ أن تشغلنا هذه القضية عن كل تأويل يصح أن يؤول به الدافع الذي حدا بنا إلى الكتابة في هذا الموضوع الذي عزمنا على الخوض فيه عقب دعوة جمعت بين أسرتنا المصرية وبين أسرة سورية كريمة عرف اثنان منها على الأقل، في العالم العربي كله برسوخ القدم في الفكر والأدب والاجتماع ومنهما إحدى زعيمات النهضة النسائية العربية في الشرق الأدنى. فلقد هالني أن أرى السيدة النبيلة تخاطب أطفالها بالفرنسية فيجيبوها في انطلاق عجيب أكد لي أن هؤلاء الأطفال قد ثقفوا الفرنسية قبل أن يشدوا العربية. . . وهذه هي القضية التي أطرحها أمام القراء اليوم، وأمام الرأي العربي العام في جميع الشعوب العربية، لما فيها من الخطر الجسيم الذي نستهين به أول الأمر، ثم لا يلبث أن يجتاح كل مقوماتنا من لغة ودين وعادات ووطنية، ثم يؤدي آخر الأمر إلى الانسلاخ من الشرق، والضياع بين الأمم؛ لأننا مهما أتقنا الفرنسية فلن نصبح فرنسيين، ومهما استبدلنا الإنجليزية بالعربية فلن نكون من الإنجليز ولا كالإنجليز، ولن نجني على أنفسنا إلا شراً مستطيراً وبلاء كبيراً كهذا الشر وذاك البلاء اللذين تغص بهما تونس والجزائر اليوم وأنا إن كنت أخص سوريا ولبنان بالذكر فلست أصدر في ذلك إلا عن هذه المحبة التي أكنها ويكنها كل شرقي مخلص لهذين القطرين الشقيقين اللذين كانا في عصر مجيد من عصور هذا التاريخ العربي، كعبة اللغة العربية ومحور الثقافة العربية، وقطب الرحى في الشعر العربي، عنهما تأخذ كل الأقطار العربية، وإليهما تهفو قلوب العرب، وفيهما يخفق القلب العربي بالحكمة والسياسة والشعر والنثر والرواية والقصة وعلوم الشريعة وما إلى ذلك كله من الأمجاد العربية. . .
1 - وبعد. . . فما الدافع يا ترى إلى تمسك الآباء والأمهات في هذين القطرين العزيزين بتعليم أطفالهم الفرنسية قبل أن يثقفوا العربية؟ هل هو هذا الاستعلاء السخيف الذي تأخذ به أسر مصرية كثيرة، والذي مظهره عدول هذه الأسر بأطفالها عن المدارس المصرية إلى المدارس الأجنبية التي ما فتحت أبوابها في مصر والشرق إلا للاعتداء الصريح على قومياتنا وأدياننا ولغتنا واستقلالنا وكراماتنا؟ أو هو سبب اقتصادي يتعلق بمستقبل هؤلاء الأطفال في أوطاننا التي يغزوها الاقتصاد الأجنبي غزواً يريد اليوم أن يتحكم في وسائل التعليم كما حاول من قبل أن يتحكم في كل شئ آخر؟! أو هو قصر نظر منا نحن الشرقيين حين تبهرنا بهارج الغرب الزائفة، فنقع كالفراشة في نارها دون وعي ولا تدبر ولا تفكير؟
اللهم إن كان السبب هو الاستعلاء الذميم عن أن يبدأ أطفالنا التعلم باللغة العربية لا لشيء إلا أنها لغة عربية. . . وما يتصوره التعساء منا من أنها لغة الفقراء، أو لغة الطبقة الثالثة، فلشد ما نرتكب بهذا التصرف الخيانة الوطنية العظمى ضد وطننا وضد الشرق وضد العروبة
أما إن كان هو السبب الاقتصادي فيما يتعلق بمستقبل الأطفال في ذاك الوسط الذي يغزوه الاقتصاد الأجنبي، فعلاجه شئ آخر ليس هو البدء بتعليمهم اللغة الأجنبية قبل أن يثقفوا لغة بلادهم الأصلية
أما إن كان قصر نظر منا معاشر الشرقيين، فعلاج ذلك إعلان الحرب عليه، والأخذ بسياسة جديدة في تعلم اللغات الأجنبية
2 - ولعل انتشار مدارس البعثات الدينية هو أكبر الوسائل التي أدت إلى إهمال اللغة العربية كأداة أساسية من أدوات التعليم، إذ تعلم معظم المواد، بل كلها، في تلك المدارس بلغة أجنبية، ومن هنا تنقطع الصلة بين الطفل وبين لغة بلاده، بل بينه وبين بلاده، ووطنيته، ودينه؛ ومن هنا أيضاً استخفاف الطفل، حين يصبح رجلاً، والفتاة، حين تصبح أما، بالشرق، وباللغة العربية، وبما يتصل بالشرق وباللغة العربية من ثقافة وعادات ودين. ومن هنا أيضاً نظرة المتعلمين من هذا الطراز إلى إخوانهم الشرقيين على أنهم برابرة متوحشون. ومن هنا أيضاً عداؤهم المر للغة العربية وثقافة اللغة العربية ولكل ما له صلة بالعرب. والعجيب في أمرنا أننا نقبل على التعلم في تلك المدارس إقبالاً شديداً، ونحن نقبل ذلك الإقبال الشديد لسببين، أولهما أننا لا نجد من المدارس الوطنية ما يقوم بمهمة تعليم أطفالنا، والسبب الثاني هو هذا اللألاء الكاذب الذي نضفيه على تلك المدارس الأجنبية، والذي لا تستحق منه إلا ما يعدل أغراض تأسيسها التي أشرنا إليها
3 - وقد كانت النتيجة الأولى لهذا البلاء أن نشأ أبناؤنا الذين تعلموا في هذه المدارس وهم أضعف ما يكونون في اللغة العربية، فهم يخطئون في نحوها، ويخطئون في التعبير بها، وإذا كتبوا بها رأيتهم يكتبون كلاماً عربياً في مظهره سبقه تفكير بلغة أجنبية؛ وهنا يبدو الشذوذ في التراكيب، وتشيع الركاكة في الأساليب، ويلتوي الفهم، وتعتاص على القارئ متابعة الكاتب، فيزور عنه، ويضيق به، ثم يطويه وفي نفسه من الهم والحسرة على اللغة العربية ما فيها
وإذا قلت إن آثار ذلك بادية مع الأسف الشديد في كثير من أقلام الصحافة اللبنانية والسورية فإنما أقوله ولا أقصد مطلقاً أن أعيد إلى الأذهان هذا الحديث السخيف عن الزعامة الأدبية بين لبنان ومصر. . . إنما أقوله وبنفسي من المحبة للبنان ولسوريا ما لا يقل عن محبة اللبنانيين والسوريين بلادهم التي نفتديها بالمهج، وأقوله لأن قضية اللغة العربية هي قضيتنا جميعاً، وقد قدمت أن هذا الداء الذي يوشك أن يزعزع أركان اللغة العربية في لبنان وفي سوريا قد بدأت جراثيمه دور حضانتها في مصر، فكثير من الأسر المصرية تتخاطب فيما بينها بالفرنسية من غير ما ضرورة تلجئهم إلى ذلك إلا الاستعلاء الذميم على أشرف لغات الأرض والسموات! وقد تعلم أبناء هذه الأسر في مدارس تشبه المدارس المنتشرة في سورية وفي لبنان
4 - ولعل جريرة ذلك تقع على كاهل الحكومات العربية بقدر ما تقع على كاهل الشعوب العربية نفسها، فتقصير الحكومات في فتح المدارس الوطنية، ولا سيما للبنات، هو الذي ألجأ الأهالي إلى إرسال أبنائهم إلى تلك المدارس الأجنبية، وقدر زاد الطين بلة ترك الحرية لهذه المدارس كاملة في اختيار طرق التدريس ووضع المناهج وتكييف التلاميذ فيها حسب ما تشتهي! ولعل الذي كان يحدث في هذه المدارس في مصر إلى عهد قريب جداً من تدريس جغرافية فرنسا وتاريخها لصغار الأطفال المصريين، وإهمال التاريخ المصري والجغرافية المصرية هو نفسه الذي كان يحدث في مثل تلك المدارس بلبنان وسوريا، بل لعله لا يزال قائماً فيها إلى اليوم!
أما نصيب الأهالي من تلك الجريرة فهو انخداعهم في أمر تلك المدارس وإقبالهم عليها ذلك الإقبال الشديد بدافع من العوامل التي أشرنا إليها. ولعل نصيب العهد التركي من هذه الجريرة، والامتيازات الجنونية التي كان يمنحها في سفه هو أسود الأنصبة الثلاثة جميعاً
5 - على أننا خليقون ألا نفقد الأمل في علاج هذا الشر وحسمه قبل أن يستشري بالصورة التي استشرى بها في تونس والجزائر، فعلى الحكومات العربية واجب إنشاء المدارس التي تضارع تلك المدارس الأجنبية عظمة بناءٍ وفخامة مظهر، وعليها أن تنشئ المدارس الراقية في كل مدينة وقرية لتعليم الفتاة، وعليها أن تتولى هي أمر تعليم اللغات الأجنبية التي لا غناء عنها لنهضة الشرق، على أن تتفق فيما بينها على ألا يتعلم الطفل أية لغة أجنبية إلا إذا تجاوز العاشرة أو الثانية عشرة من عمره، أي بعد أن يدرس لغته ويثقفها ويمرن لسانه بها، وليستطيع أن يفهم بها شئون الحياة. وإلى أن يتم ذلك فواجب الحكومات العربية الإشراف على التعليم في تلك المدارس الأجنبية، فلا تسمح بتدريس أية مادة بها بغير اللغة العربية لصغار التلاميذ، أي قبل الثانية عشرة، وجواز تدريس مادة واحدة بلغة أجنبية بعد ذلك، بقصد تمكين التلاميذ من تلك اللغة، كما يجب ألا تقل الحصص المقررة للغة العربية عن حصص اللغة الأجنبية. أما واجب الشعوب العربية فهي أكرم من أن تنبه إليه
تلك كلمة مخلصة بريئة في تلك القضية أدعها تحت أنظار ولاة الأمور في البلاد العربية راجياً أن تشترك فيها أقلام كثيرة
دريني خشبة