مجلة الرسالة/العدد 56/الموت والخلود

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 56/الموت والخلود

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 07 - 1934



للأستاذ زكي نجيب محمود

أما أحدهما فكان يحب الحياة ويخشى الموت، وأما الآخر ففيلسوف يستصغر شأنها وينفذ ببصره وراء ظواهرها الزائلة إلى حيث الحقيقة الخالدة. جمعت بينهما الأيام على مائدة واحدة فدار بينهما الحديث وتشعبت أطرافه، وما لبث الحوار بينهما طويلاً حتى مس موضع التناقض بينهما. . .

تراسيماكوس - لله ما أعجب الموت! لا يكاد يمس الحي بأطرافه الباردة، حتى تنقلب تلك القوة المفكرة المدبرة الفعالة إلى جمود الصخر، يلقى بها في جوف القبر الصامت، وكأنها بعض تربته، أفتستطيع يا صديقي أن تحدثني حديثاً جلياً واضحاً لا يغمض ولا يلتوي عن قصة هذا الموت العجيب؟ ماذا عساي أن أكون بعد هذا القضاء المحتوم؟

فيلاليش - ستكون كل شئ ولن تكون شيئاً

تراسيماكوس - لم أكن والله أتوقع منك حين طرحت السؤال، إلا عبارة كهذه مبهمة مرنة، أسرفت في المرونة والإبهام حتى وسعت كل معنى، فلم أظفر مما أريد بشىء، وماذا عسى أن أفيد من جواب يتنافر الصدر فيه مع العجز، ويتناقض شطره الأول مع شطره الثاني، فيزيد المشكلة تعقيداً على تعقيد ولا يوضح منها شيئاً؟ ولكنها الفلسفة العقيمة تأبى إلا أن تعلو بنفسها فوق مستوى الإفهام فتربك العبارة إرباكاً وتغلقها إغلاقاً، كأنما أريد لها أن تقتصر على قائليها، وكان خليقاً بها إن أرادت أن تمكن لنفسها من العقول، أن تلتمس سبيلاً طيعاً ذلولاً، لا وعراً ولا شائكاً، فيروده الرائدون جميعاً.

فيلاليش - عفواً صديقي، فما قصدت إلى التناقض عمداً بل اضطررت إليه اضطراراً، فهذه اللغة التي تواضع الناس على اصطناعها في التفاهم، لم تنشأ أول أمرها إلا لكي تكون أداة للتعبير عما يقع تحت الحس من أشياء، فلما درج الإنسان صاعداً في سلم الرقي، وبدأت تدور في رأسه خلجات من الفكر المجرد ثم أراد أن يبرزها في ثوب من اللفظ، لم تسعفه إلا هذه اللغة، التي إنما خلقت للمحسوسات، والتزم أن يجرى في قوالبها المحدودة تلك الآراء المطلقة التي لا تعرف الحدود، فلم يكن بد من هذا التناقض والاضطراب، فأنا إن فكرت في مصيرك بعد الموت، فلست أعنى بجسدك وما يطرأ عليه، بل يسبح الفكر في حقيقتك التي تكمن وراء هذا الستار من اللحم والعظم في جوهرك مجرداً عن قوالب المادة، وما أضيق اللغة عن هذا النطاق الفسيح!

تراسيماكوس - ويحك! أو تريد أن تجعل مني رجلين، فرجل من مادة في إهاب من الجلد، ورجل مجرد خبئ وراء الأستار تراه أنت من دون صاحبه؟

فيلاليش - وأي غرابة فيما أزعم يا صديقي؟ أفتظن أن هذه الأجسام والأجساد التي تنبث في أنحاء الكون، والتي تدركها بواسطة الحواس، هي كل شئ؟ اللهم إن صح هذا لكان الإنسان كتلة من اللحم والشحم والعظام، وقل على أفكاره ومشاعره وشتى مظاهره حيوية العفاء، لأنها لا تسلك إليك سبيلاً من عين أو أنف أو أذن!! لا، لكل شئ حقيقة كامنة وراء ظاهره، ما في ذلك شك ولا ريب، فإن أدركك الموت يا أخي أفنى منك هذا الفرد الذي يحاورني الآن، هذا الشخص المعين الذي أراه وأسمعه، ماذا أقول؟ هذا التراسيماكوس، فلن يكون بعد الموت شيئاً مذكوراً، ستنحل مادته وستسلك ذراتها سبلاً شتى، فطائفة إلى شجرة تدخل في تركيبها، وطائفة إلى حيوان، وثالثة إلى صخرة تلقى في طاق الكوخ لتصد عن ساكنيه الهواء كما يقول شاكسبير، ولكن ليست هذه الشخصية إلا ظاهرة فانية مع الموت، ولها بطانة باقية إلى الأبد، ليست إلا قالباً صيغت فيه حقيقتك الخالدة. فالفرد منك ظاهرة مادية عارضة محصورة في أطواق الزمان والمكان، فلها بدء وخاتمة، وهي تشغل حيزاً من الفراغ، فأما سرك وجوهرك، أما الحقيقة التي اندست في مادتك فلا تعرف زماناً ولا مكاناً، فهي في الكون منذ الأزل، أرادت أن تثبت وجود نفسها، فتجسدت في الكائنات التي ترى، فهي لا تختلف في شخصك عنها في شخصي، أو في شخص هذا الطائر الذي تراه يخفق بين أطباق الهواء. . . فإن أدركت المنية سيفنى منك الفرد، وستخلد الحقيقة ممثلة في سائر الأحياء، لعلك الآن قد آمنت بما زعمته لك من أنك لن تكون بعد الموت شيئاً، وستكون كل شئ؟

تراسيماكوس - ولكن خلودي في أشخاص آخرين لا يساوي عندي جناح بعوضة، مادمت لن أحيا بشخصي هذا، فإن كان تراسيماكوس الذي يطارحك الحديث الآن، سيفنيه الموت، فسحقاً للحقيقة، إذ ليس لي في خلودها غناء.

فيلاليش - مهلاً! هب أنك خيرت في أن تعيش بعد الموت بشخصيتك التي تتشبث بها على شرط واحد، وهو أن تسلب منك تلك الشخصية شهوراً ثلاثة فحسب، ثم ترد إليك إلى الأبد، فماذا أنت قائل؟

تراسيماكوس - لا أتردد في القبول فرحاً راضياً.

فيلاليش - ولكنك تعلم أنا لو سلبناك الوعي والشعور حيناً من الدهر، ثم بعثنا فيك اليقظة والحياة، فلن تدرك كم لبثت في غيبتك إلا أن يقص عليك نبؤها بعد البعث. فهؤلاء أصحاب الكهف أووا إلى كهفهم فضرب الله على آذانهم عدة سنين، ثم بعثهم، فقال قائل منهم كم لبثتم؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم؛ مع أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا. فإن كنت كهؤلاء ستفقد إدراك الزمن، فما ضرك لو أطلنا أمد الرقاد المفروض إلى آلاف ثلاثة من السنين؟

تراسيماكوس - لا شئ، أحسبك مصيباً فيما تقول!

فيلاليش - وإذا فرضنا أن تلك الآلاف الثلاثة قد تعاقبت عليك في رقدتك، وأن أحداً لن يوقظك بعدها، أفتظن أن في ذلك وبالاً عليك؟ اللهم لا! فإن كانت عشرات قليلة من السنين قد عودتك الحياة وربطتك بها ربطاً وثيقاً، يعز عليك كثيراً أن تنفصم عراه، أليس أجدر بذلك الأمد المديد أن يعودك الموت ويوثق بينك وبينه الصلات؟ وأحسب أنك لو ظفرت بمن يبعثك ويرد إليك وعيك المفقود، لن ترضى عندئذ أن تطرح حالاً لابستك طول ذلك العهد الطويل، وسيزيد في اطمئنانك حينذاك علمك أن هذه القوة السحرية العجيبة التي تحببك في الحياة الآن، ستظل تنشر من الأحياء ملايين وملايين لا تنفك متعاقبة إلى الأبد.

تراسيماكوس - ما أبرعك في الحوار، وما أروعك في سحر المنطق وطلاوة الحديث!! إني لأكاد أستخف بشخصي وأستصغر حياتي، التي طالما أحببتها وحرصت عليها أشد الحرص ولكن هيهات، فلن أنخدع بهذا الإغراء، وما زلت أريد بعد هذا كله أن أحيا بهذه الشخصية نفسها.

فيلاليش - يا رعاك الله! كأنما بلغت شخصيتك من الكمال شأواً بعيداً، بحيث يعز ضريبها على الدهر، وكأنك عاجز الخيال لا تستطيع أن تتصور حالاً خيراً وأسمى؟ عجباً! ألا تريد أن تستبدل بنفسك الناقصة المحدودة نفساً أسمى مرتبة وأبقى خلوداً؟

تراسيماكوس - ولكنني يا صديقي لست أملك في ذلك اختياراً، فشخصي بالغاً ما بلغ من نقص وتحديد، هو نفسي، وهو عندي أعز ما في الوجود، لا أعدل به شيئاً، ولا أرجو إلا أن يمتد الأجل بهذه الذات التي ترى صورتها وتسمع صوتها، ولا يعنيني في كثير أو قليل تلك الحياة الخالدة التي تظل باقية في الكائنات الأخرى، والتي تحاول بكل ما وسعك من دليل أن تقيم الحجة على أنها حياتي أنا، فلست أرى خيراً في حياة لا أحس بنفسي أنها حياتي.

فيلاليش - لست وحدك يا صاح تريد أن تبقى، فكل كائن دبت فيه الحياة يريد البقاء، وحسبك هذا دليلاً قوياً على أن هذه الرغبة الشاملة التي تنطق فيك بهذا الرجاء، إنها ليست صيحة الفرد منك، ولكنها نزعة الوجود بأسره، إنها قوة عارمة تنشد البقاء ولا عبرة عندها بالأفراد مادامت تحقق بقاءها المنشود، فرغبة البقاء، أو إرادة الحياة، وقد التمست لنفسها الوجود والخلود، وجسدت نفسها في أفراد الكائنات، وألقت في أنفسهم وهماً بأنهم غايات مقصودة لذاتها، لكي يحرصوا على الحياة ويكونوا وسيلة صالحة لبقائها، والواقع أنهم ليسوا إلا أداة تستغلها تلك الإرادة، وسواء لديها أفنى هذا الفرد المعين أم امتد به الأجل، مادامت تجد من غيره ما يضمن بقاءها. . . حسبك يا أخي أن تعلم أنك أداة لتلك الإرادة الشاملة، وأنك صورة من صورها، وإنك لست غاية مستغلة قصدت لذاتها، وإن الحياة لن تخسر بفقدك شيئاً، بل لعلك تجني من ذلك خيراً كثيراً، لأنها كانت سجينة في قيود فرديتك، مثقلة بمادة جسدك، ثم انطلقت إلى حيث لا قيود ولا حدود! حسبك هذا لتعلم أن قصة الموت صبيانية تافهة، فليس جديراً بالخوف والإشفاق، وليست حياة الفرد خليقة بهذا التقدير العجيب، ولكم يبعثني على السخرية إنسان يتمسك بحياته ويتشبث بها، ويشفق من الموت ويخشاه، كأنه وحده الكائن الحي الذي نيط به بقاء الحياة.

تراسيماكوس - ليس لعمري أبعث على السخرية من هذا الهراء، ولولا رغبتي في السمر واللهو، لما استمعت إليك لحظة واحدة.

زكي نجيب محمود