مجلة الرسالة/العدد 556/التعارف بين الأدباء
مجلة الرسالة/العدد 556/التعارف بين الأدباء
للأستاذ دريني خشبة
منذ شهرين تقريباً نشرت الرسالة لصديقنا السوري الأديب الكريم الأستاذ صلاح الدين المنجد دعوة قصيرة ينادي فيها بوجوب تعارف الأدباء فيما بينهم وتكوين رابطة أدبية تنتظم صفوفهم. . . ورأى الأستاذ أن يعقد مؤتمر يدعى إليه أدباء الأقطار العربية كلها، في القاهرة أو دمشق أو بغداد، ليعرف الأدباء بعضهم بعضاً، ويتحادثوا فيما ينقصنا وما يشوه أدبنا وما نحن بحاجة إليه. ولما زار الأستاذ الصديق مصر في الشهر كان فرحنا به يعدل فرحنا بسوريا كلها، وقد تذاكرنا دعوته التي دعا إليها ووعدناه بالكتابة فيها، لأنها تؤيد دعوتنا إلى إصلاح الأدب العربي وتجديده
ومنذ شهر تقريباً دعانا صديقنا السوري الأديب الأستاذ حبيب زحلاوي للاحتفاء بالزوجين الكريمين السوريين الأستاذ زكي المحاسني والسيدة الأدبية وداد سكاكيني وذلك بالنادي الشرقي
ومنذ أيام قليلة قرأت دعوة يقوم بها أربعة من كرام الأدباء المصريين إلى إخوانهم الكتاب والأدباء والشعراء للاجتماع بمكان عينوه لدرس حالة الأدباء المصريين وتكوين هيئة تسهر على صوالحهم وتعمل على تقوية أواصر الصداقة بينهم
ومنذ أسابيع طويلة والأستاذ الصديق الدكتور زكي مبارك يناوش إخواننا الأعزاء المحبوبين أدباء لبنان لأنهم على ما يذكر الأستاذ يحاولون جادين نزع الزعامة الأدبية التي تدعيها مصر بين الأمم العربية من أيدي الأدباء المصريين. . . وقد كتب الدكتور زكي مبارك مقالات طويلة في هذا الموضوع في صحيفة المصري الغراء
ومنذ أسابيع قليلة حاضر الدكتور طه حسين في الروابط الثقافية بين الأمم العربية وكان صوته أول صوت ارتفع في العالم العربي بوجوب ربط أسباب المشرق العربي بالمغرب العربي، فهاج في القلوب العربية كلها أشجاناً وأحزاناً وذكريات عزيزة مؤلمة
ومنذ علم أو أكثر ونحن نردد فيما بيننا شكوى الأدباء جميعاً من تفكك العلاقات بينهم، بل انعدامها تقريباً مما يجعلهم متدابرين متنافرين، بل مما يجعل جهودهم وثمار قرائحهم نهباً لدور النشر ومستغلي ضعف الأدباء وعجزهم اللذين هما نتيجة هذا التفكك في علاقاتهم وانعدامها
ولعل أعجب ما حدث في كل ما قدمنا هو ما حدث في دعوة صديقنا السوري المحبوب الأستاذ حبيب زحلاوي بالنادي الشرقي. . . فقد دعانا بالتلفون، ولم يكن أحدنا قد رأى صديقه الآخر قبل هذه الدعوة. فلما توجهنا إلى النادي، وشهدنا الحفل مجموع الشمل قصدنا إليه، وقد عرفناه لوجود ثلاثة أو نحوهم من إخواننا ممن حدسنا أنهم مدعوون مثلنا للتعرف إلى الضيفين الكريمين والاحتفاء بهما. . . وقد عجبت لأن الأديب صاحب الدعوة لم يلقني. . . وظننت أنه ربما كان متغيباً في تلك اللحظة لأمر ما. . . ثم دار الحديث عن الأدب، واستطاع الأستاذ الجليل توحيد السلحدار أن يستدرج الأستاذ نقولا حداد ليحدثنا عن النسبية. . . واستطعت أنا أن أدس أنفي في الحديث مما دعا أحد إخواني إلى النطق باسمي عالياً. فماذا حدث؟ وقف الأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن ليصافحني باشا. . . وليته ما فعل! فقد كشف عن عيب من أشنع عيوب الأدباء المصريين، هو عدم معرفة بعضهم بعضاً، وعدم عنايتهم بمحاولة إيجاد هذه المعرفة وخلقها خلقاً. . . ثم ماذا؟ ثم نهض صديقي صاحب الدعوة الأستاذ حبيب ليضحك هو الآخر ويصافحني، ثم يقول إنه سأل عني الأستاذ محمود تيمور وكان جالساً إلى جانبه، فلم يعرفني، وقال له: ألم تدعه؟ فقال الأستاذ حبيب: كلا. . . وقد ذكرني كلامه هذا، ثم ضحكه بالمأسوف عليه خالد الذكر السيد أشعب؟ على أنني عجبت كيف يكون الضيف الكريم الأستاذ المحاسني أسرع منا جميعاً بادرة وأدق ملاحظة. . . فقد عرفت أنه هو لجلوسه إلى جانب السيدة وداد فصافحتهما مرحباً بهما، وذلك عند قدومي، فما راعني إلا أن أسمع الأستاذ يقول للسيدة الأديبة. . . هذا فلان. . . ويذكر اسمي كاملاً في صوت ربما لم يسمعه بعد السيدة أحد غيري، وقد استمطرت رحمة الله على المعيدي في تلك اللحظة الحرجة! ثم جعلت أتهم نفسي لانطوائها الذي بالغت فيه عن المحافل الأدبية وعدم محاولتي أن أعقد من الصداقات الأدبية ما لا غنى لمثلي - ولا مؤاخذة! - عن مثله! ويظهر أنني عنفت على نفسي في اللوم حتى أخذ العرق يتفصد من جميع جسمي بالرغم من برودة الليل. . . على أن الأمر لم يدم طويلا. . . إذ خفف عني ما اكتشفته بعد ذلك من أنني أكثر الحاضرين (معارف) بعد الأستاذ صاحب الدعوة. . . فلم يكن أحد منهم يعرف من الموجودين أكثر ممن كنت أعرف. . . وقد ضحك الأستاذ المحاسني لذلك أشد الضحك وتعجب لحالنا وأنذر ليتحدثن به إلى أدباء الشام جميعاً. . . والحق أنه لشيء يتحدث به ويتندر، إذ كيف تجمع القاهرة ثمانية أعشار الأدباء المصريين ثم لا تجمعهم جامعة، ولا تربط بينهم رابطة، ولا يعرف الواحد منهم ثلاثة أو خمسة من عشرات بل من مئات ومئات؟!
ولقد أضحكتنا هذه الظاهرة، أو تلك البادرة، ضحكا طويلا. فهذا هو الأستاذ الزيات لا يعرف الأستاذ خليل ثابت إلا حين يلقاه فجأة في مناسبة من المناسبات. وهذا هو الأستاذ عبد الرحمن صدقي يكتب في مجلة الهلال ثلاث سنوات أو أربع سنوات ثم لا يعرفه الأستاذ إميل زيدان بعد هذه المدة الطويلة إلا حين يقدمه إليه أحد أصدقاء الطرفين في إحدى المناسبات أيضاً. . . وهكذا. . . وهكذا. . .
وأحسب القراء يذكرون ما حدثتهم به من التقائي فجأة بالأستاذ الحكيم في الرسالة، وما انتهى إليه هذا اللقاء من صداقة كريمة. وقد سألني الأستاذ الحكيم مداعباً بعد فراغي من الكتابة عن الشاعر الكريم علي محمود طه. . . فضحكت. . . ثم أخبرته في بساطة تامة أنني لم أره في حياتي مطلقاً؟! هذا مع العلم بأن بين مجلس النواب وبين وزارة المعارف دقيقة واحدة! ولا شك في أننا كلينا مقصران!
أما ما يناوش به الدكتور زكي مبارك إخواننا أدباء لبنان فهو موضع العجب. . . لحدوثه في الوقت الذي نبتهل إلى الله فيه أن ينجح الدعوة إلى الوحدة العربية، لأن في هذه الوحدة عزة الأدباء العرب أجمعين، ونحن إلى التعارف والتقارب أحوج منا إلى التنابذ والتباعد. أما الزعامة الأدبية فليس سبيلها أن يدعيها الأدباء اللبنانيون فتكون لهم أو أدباء اليمن فتكون ملك أيمانهم. . . بل سبيلها الإنتاج الأدبي وقيمة هذا الإنتاج وأثره في شعوب الوحدة العربية، ولهذا كان خليقاً بأدباء لبنان ألا يشاكسوا الدكتور زكي مبارك، كما كان خليقاً بالدكتور زكي مبارك ألا يناوش أدباء لبنان. . . لأننا نعز اللبنانيين جميعاً، لا أدباءهم فقط، كما نعز أنفسنا
وإذا كان التعارف بين الأدباء في داخل مصر واجباً، فهو أوجب بين الأدباء المصريين وأدباء الشرق العربي، ثم بيننا وبين أدباء أفريقيا الشمالية، ويجب أن يتحقق أمل الأستاذ الصديق صلاح الدين المنجد في عقد مؤتمر أدبي عربي في القريب العاجل إن شاء الله أما دعوة هذا النفر من الأدباء المصريين للاجتماع بالمكان الذي عينوه، والزمان الذي حددوه، فهو ما ندعو له بالنجح والتوفيق. ونصيحتنا إلى المتشائمين أن يخففوا من تشاؤمهم، وأن يجعلوا الصفاء والأخوة الكريمة السمحة ديدنهم، وأن يطهروا قلوبهم من السخائم الأدبية الفارغة، فاعتصامهم بحبل الله وحبل المودة فيه حياتهم وبأسهم ومستقبلهم الذي ينبغي أن يفكروا فيه من الآن حتى تضع الحرب أوزارها. . . وقد آن أن يتحرك الأدباء فيلموا شملهم بعد أن ملأت القاهرة النقابات، من كل صنف ومن كل نوع، ولا ضير عليهم أن يكونوا آخر من يفكر في ذلك، حتى لو لم يربحوا إلا التعارف بينهم
ولعل أظرف ما نختم به تلك الكلمة هو ما يبديه بعض إخواننا الأدباء من التخوف من نجاح هذه الحركة. . . فهو يخشى إن يمت أن يكثر (معارفه) منهم كثرة كبيرة، ومنهم الأدباء المنتجون الذين يخرجون كل شهر أو شهرين كتاباً، فإذا تم التعارف صحبه الإهداء. . . ويكون مضطراً حينذاك إلى القراءة التي تفرض عليه بهذه الوسيلة فرضاً. . . حتى لا يغضب أحداً إذا سأله عن رأيه في كتابه الأخير مثلاً. . . وقد يكون هذا الأديب المتحرج مشغولاً بقراءة أخرى أهم مما تفرضه عليه الصداقات الجديدة قراءته. . . فماذا يصنع. . . وقد تكون الكتب المطلوب إليه قراءتها سخيفة. . . فما العمل؟! ولا أستطيع أن أقرر إلا أن هذه الملاحظة دعابة لطيفة، وأخشى أن تكون. . . تافهة. . . ولا يسخط هذا التعبير صديقي العزيز. . . الذي أهدى إلى كتابه الأخير، ولن أعفيه من الكتابة عنه.
دريني خشبة